الفصل السابع

توجهت بحماس إلى المكتبة بعد نهاية اليوم الدراسي، وجدت ذلك الرجل موجود، اسمه عم إسماعيل، كان جالساً على كرسي وسير ويقرأ كتاباً، ابتسم عندما رآني، ألقيت عليه التحية، وأخبرته بحماس عن مدى السعادة والإثارة اللذان شعرت بهما عندما قرأت الرواية، عرفت أشياء كثيرة لم أكن أعرفها، طفت إلى بلدان لم أزرها، وعرفت كيف يعيش الناس هناك والمشاكل التي تواجههم، حقاً القراءة ممتعة..
كان عم إسماعيل يصغي إلي وعلى وجهه ابتسامة وضاءة، قال: صدقت يا ابنتي، وكما أخبرتك من قبل القراءة عالم لوحده، ثقافة، وعلم، ومتعة، كما أنها رياضة للعقل وأثبتت الدراسات أنها تحمي من أمراض الشيخوخة، وتساعد على التفكر وتفتح العقل..
قلت: أحب ذلك!
مددت إليه الرواية وشكرته ، قال بلطف بالغ: خذيها كهدية يا ابنتي، هذه الرواية كانت بداية دخولك إلى عالم القراءة، وللبدايات مكانة خاصة في قلوبنا جميعاً، خذيها وعندما تصبحين قارئة جيدة، تذكري أنها كانت بدايتك..
قلت بحماس: شكراً لك، والآن سوف أشتري أخرى
ضحك ثم قال: لك ذلك، أختاري ولا تحتاري
نظرت إلى رفوف الكتب بحيرة، كان هناك كثير من العناوين المغرية، قلت: ما هي الكتب الأفضل هنا؟
قال: على ما حسب ما تفضلينه أنت، الأفضلية نسبية
قلت: أحب المغامرات، الثقافة، الكوميديا، أحب كل شيء
ضحك ثم قال: حسناً، خذي هذه الرواية، كانت رواية بوليسية، لأجاثا كرستي
أخذتها بحماس وذهبت
لم يعجب أمي موضوع القراءة الذي ظهر موخراً، رأتني ذلك اليوم وأنا منكبة على الرواية، لا أرمش حتى، إلى أن أكملتها، واليوم عدت بواحدة أخرى، وبدأت بفعل نفس الأمر
تحدثت معي بلطف، لأنها تعلم بأنني عندما أتعلق بأمر، لن أتخلى عنه بسهولة، وسأدافع عنه بعناد، قالت: يا ابنتي، كل شيء له وقته المناسب، وعندما نخلط الأمور ببعضها سوف تفسد حياتنا، القراءة جميلة، وأشجعك عليها، ولكن هذا ليس وقتها المناسب، أنتِ الآن في مرحلة حرجة، مرحلة سوف تحددين فيها مستقبلك الدراسي والمهني، وجزء كبير من حياتك متوقف عليه، لذلك ركزي على هذا الأمر الآن، وبعدها لديك عطلة طويلة، أفعلي فيها ما تشائين، لا أحد سيمنعك، حسناً، الآن أعطني هذا الكتاب، سوف أحتفظ به..
قلت : يا جميلتي! واعية جداً بما تقولينه، ولكن الإنسان يحتاج إلئ تحفيز أحياناً، مكافأة لكي يكمل، قراءة الكتب هي أجمل مكافاة بالنسبة إلي، لن أمسك كتاباً آخر إن لم أكمل الدراسة من الكتب المدرسية..
أقول لها جميلتي عندما أريد إقناعها بأمر ما
نظرت إلي بشك ثم قالت: لا أثق فيك صراحة، أعرف حماسك الشديد، رأيتك كيف لم تتزحزين من مكانك ذلك اليوم إلا بعد أن أكملت قراءة الكتاب كله
قلت: أعدك بأن أتمالك نفسي، أنا واعية ويهمني مستقبلي، سوف أوزان بين الأمرين
قالت: حسناً موافقة ولكن بشرط
أخذته مني، نظرت إلى الكتاب وقلبته بين يديها ثم تابعت: سوف يبقى هذا الكتاب معي، بعد أن تكملين دروسك، سوف أختبرك وأرى هل درستِ بإخلاص أم لا، وبعدها سوف أعطيك الكتاب، لنصف ساعة فقط كل يوم، سوف أحسبها بالمؤقت، ولن تزيد ولا حتى ثانية واحدة، ثم آخذه منك مرة أخرى
قلت بضيق وأنا أضرب الأرض برجلي كالطفلة: لا، هذا ليس عدلا، ليس إلى هذه الدرجة
قالت بنبرتها تلك: إذن اقرئي كما تشائين عندما تأتي الإجازة
قلت بضجر: حسنا يا أمي، موافقة
أسوأ ما فعلته أنني أخترت رواية كلها إثارة وحماس، بعد إنتهاء نصف الساعة، تركض أمي خلفي في المنزل كله لكي أعطيها الكتاب، وأنا أركض وعيني على الكتاب وأقول لها: دقيقة فقط، لأرى ماذا سيفعل المحقق
ثم تهددني قائلة: إن لم تحضريها حالاً فلن تكمليها إلا في الإجازة
فأعطيها لها باستسلام، وانتظر اليوم الثاني بفارغ الصبر، أكمل دروسي بحماس، وأذاكر بتركيز لأن أمي تختبرني بعد الدراسة، ثم تعطيني الرواية، أتمنى لو أتلهمها كلها مرة واحدة، ولكن لا يمكنني القراءة بسرعة، استمتع بكل حرف من خروفها، ولأنني أحب التحليل، والتمحيص..
أحيانا تنتهي نصف الساعة في نقطة مثيرة جداً، لدرجة أنني أشارف على البكاء..
أحياناً في فترة القيلولة، عندما تكون أمي نائمة أتجسس وأبحث عن مفتاح الخزانة التي تحبس فيها روايتي المسكينة، ولكن هيهات، كأن أمي أخفت المفتاح بمسحوق سحري، كذلك الذي يمتلكه جيري في توم وجيري، بحثت عنه في كل مكان تقريباً ولم أجده، تأففت بيأس، وشعرت بأن أمي تراني وتضحك بانتصار..
أكملتها في شهر كامل، كنت كل يوم أذهب وأحكي أحداثها بحماس ليارا وعبق، أجدهما ينتظرانني كل صباح ليعرفا الجديد، نجلس نحلل الأحداث وكل واحدة منا تتقمص دور المحقق كونان..
ما أدركته أن فكرة المكافأة تلك فكرة رائعة جداً، العقل بطبيعته لا يحب الأشياء الدسمة، لا يحب التعب، لذلك يحتاج إلى تحفيز، في كل تلك الفترة كنت أدرس ولا أشعر بالملل أبداً الدراسة بحماس وإخلاص لأنني أعرف بأن ثمة مكافاَة تنتظرني، فالأمر كان فعالاً جداً، حتي أمي لاحظت لذلك، فرأيتها في اليوم الثاني بعد إنتهاء الرواية، تحضر لي أخرى لنفس الكاتبة، أرتني إياها والشرر يتطاير من عينيها، هيا إلى مزيد من الاستعباد آنسة يقين، سوف تحبس هذه الرواية في الخزانة، وتخرج عندما أسمح بذلك فقط، لقد عرفت نقطة ضعفك!
ولكن الموضوع ممتع جدً! وهذا المفتاح سوف أعرف كيف أجده!
مرت الأيام بسرعة، أحياناً أذهب من المدرسة إلى عم إسماعيل، نتحدث قليلاً، ويحكي لي عن أنواع الكتب والروايات، أخبرته بما فعلته أمي فضحك حتى دمعت عيناه، قال أن أمي تعرف مصلحتي جيداً، وكما قالت كل له وقته المناسب..
في المدرسة، نجلس ثلاثتنا، أنا ويارا وعبق، نحل المسائل الصعبة معاً، نختبر بعضنا، نحدد دروساً ونراجعها كل يوم..
مرت الإمتحانات التمهيدية، أشتركنا أنا وعبق في المرتبة الأولى، أحرزنا نفس المعدل، وكانت يارا في المرتبة الرابعة..
قالت عبق بارتياح: أخيراً سوف يهدأ رأسي قليلاً من أسئلة والدي ووالدتي، ياا رباه، كم أنا سعيدة..
قلت: هل لأجل هذا سعيدة فقط
قالت: لا أدري ! ولكن هذا السبب الأول، النجاح جميل، وطعمه لذيذ، ونشوة الانتصار ليس لها مثيل، ولكنني أشعر بأن هناك أمر ناقص، لا أدري ما هو! أشعر بتششت وضياع..
يا ليت والداي يتقبلانني بكل حالاتي، إن نجحت أو لم أنجح، يا ليت فخرهم بي وحبهم إلي ليس مشروطاً، سوف يسعدان ولكنني أعرف بأن الأمر سينقلب إن نقصت درجة واحدة فقط..
أفهم شعورها، وكما قالت، الحب الوحيد الذي يفترض أنه غير مشروط، حب الوالدين، أصبح مشروطا، إن نجحت فهي ابنتهم التي يفخرون بها ويحبونها، وإن لم تنجح أو بالإحرى لم تتوقف، فسوف تعيش في جحيم حقيقي وتأنيب وذل، وشعور بالنقص..الله يعينها
عدت إلى المنزل فوجدت أصنافاً من الطعام قد حضرت للغداء الرائحة الزكية تجعلك تمشي خلفها بلا وعي، ذهبت إلى المطبخ، وجدت أمي تطبخ ووالدي يساعدها بتقطيع شرائح الطماطم، نظرت بدهشة واتسعت عيناي، كل أصناف الطعام التي أحبها، قلت بمرح، يا الله! ما هذا الجمال
ضحكا، ثم قالت أمي: بمناسبة أنك أحرزت معدل عالي
قلت بتعجب: وكيف عرفت ذلك؟
قالت بثقة: ابنتي ذكية ومتفوقة، كنت أتوقع أنك الأولى، وهذا الطعام مكافاة لك، لأنني أعرفك أن بطنك أكثر ما يهمك
قلت: ولكن ماذا إن خذلتكما ولم أحرز درجة مشرفة
قال والدي: إذن هذا الطعام بمثابة تحفيز لتحرزي درجة مشرفة في المرات القادمة، هيا اذهبي وبدلي ملابسك لأنني لا أستطع المقاومة أكثر من ذلك..
نظرت إليهما بامتنان، لأنهما لم يخذلاني في يوم، وأدركت أنني أعيش في نعمة عظيمة، لدى أروع والدين على الاطلاق، هما مصدر ثقتي بنفسي والأمان الذي أشعر به في هذه الحياة..
أبي أحن وألطف أب رأيته في حياتي، مواقفه معي تنسيني كل همومي، أذكر ذات مرة عندما كنت أصغر قليلاً أنني خرجت غاضبة من المنزل إلى المدرسة من دون أن آخذ مصروفي ،لأنني طلبت منه شيئا ولم ينفذه لي، كانت مدرستي القديمة بعيدة عن المنزل، وكان لدى أبي اجتماع هام جداً، كان يتحدث مع أمي عنه طوال الليل، جلست قرب بوابة المدرسة أراقب الأطفال يشترون من البائعات وأنا لا، كدت أن أبكي، فسمعت صوت والدي يناديني، ذهبت إليه، أخرج المصروف من جيبه وقال: أنا لا أحب أن أحرمك من شيء يا يقين، ولكن أيضاً أنا أكثر من يعرف مصلحتك ، إن رفضت أن أعطيك شيئا، فأعلمي أن هذا الشيء ليس من مصلحتك، هل تفهمينني؟ أومأت براسي وكلي سعادة، وأدركت لاحقاً أن والدي تأخر عن الاجتماع المهم بسببي..شعرت بالحزن فرحت جلست بقربه وبكيت، لأنني كنت سببا في تأخره، ضحك على طفولتي، مسح دموعي برفق وقال لي: رضا ابنتي الغالية أهم من كل الاجتماعات.. ما أروعه!
أما والدتي فرغم شدتها ولكنها تخاف علي من نسمات الهواء، أحيانا أجد تناقض في تصرفاتها، أحياناً أجدها قاسية وأحياناً أجدها أحن وألطف أم في الوجود، في كل مرة أشعر فيها بالانزعاج منها، تثبت لي بأن ما فعلته هو الانسب والأفضل لي، قالت لي ذات مرة: أريدك فتاة قوية يا يقين، لا أريد أن أراك ضعيفة ذات يوم، لذلك أنا أقسو عليك أحياناً، وهذا يؤلمني أكثر مما يؤلمك ولكن اعلمي أن كل ما أفعله هو لمصلحتك يا حبيبتي..
أسمعها دائما تقول أن التربية مهمة صعبة جداً وتشيب الرأس، رغم أن لديها ابنة واحدة.. التربية المهمة العظيمة التي غفل هنا الناس في هذا الزمان، حتى الرعاية باتت ناقصة، لا يعطون الأطفال حقهم من المشاعر الحانية، كل يركض في اتجاه في هذا العالم السريع، كل مشغول، وأصبحت كثير من الأولويات هي أشياء ثانوية..
أدركت أن كل إنسان سليم ومعافاة في هذا المجتمع كان لعائلته دور كبير في ذلك، وكل إنسان مريض ويعاني من نقص وضعف في الشخصية وتشوهات نفسية، فلوالديه دور كبير في ذلك..
"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" أين الأهل من هذا الحديث..
أقولها وبكل ثقة، أن شخصيتي القوية وثقتي بنفسي، مبادئ وقيمي، كلها نتاج لتربية سليمة، اجتهد فيها والداي كثيراً ، الآن أنا واثقة من أنني قادرة على خوض كل الصعاب بإذن الله، لأن الله رزقني بوالدين، هما الأروع على الاطلاق، سأفعل كل ما بوسعي لكي أسعدهما في هذه الحياة، سأحرص على راحتهما، وعلى أن أكون نعم الابنة، سأرفع رأسهما عالياً، وسأجعل الكل يقول تلك الفتاة الرائعة هي يقين ابنة طارق وجميلة، نعم الأبوين ونعم الابنة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي