الفصل الثامن
كنت في طريقي إلى الفصل فلمحت إسراء جالسة بعيداً وتبكي بطريقة هستيرية، توجهت نحوها بذهول، هل هذه البلهاء تعرف البكاء؟
جلست بقربها وسألتها بلطف عما يحدث معها، ارتبكت عندما رأتني، صمتت قليلاً ثم قالت: سوف أحكي لك بما أنك الوحيدة التي أشاركها أسراري
قلت: بما أنك لم تبدي حديثك بحيائي لا يسمح لي، إذن الأمر ليس له علاقة برجل
ضحكت وعينيها مليئة بالدموع ثم قالت: لا، ليس له علاقة برجل
قلت باهتمام: أخبريني ما الذي يبكيك يا إسراء، أنا أسمعك
قالت بحزن: الأمر له علاقة بعائلتي
كنت أنظر في عينيها، رأيت حزن دفين
تابعت بمرارة: لماذا يتزوج الناس إن كانو لا يستطيعون الاعتناء بأبنائهم، ألم يكتفي هذا العالم من المرضى النفسيبن! تعبت من حياتي ومن كل ما فيها، أشعر بالاختناق وأنا في منزلي والذي من المفترض أن يكون هو ملاذي وأماني، أكره الجلوس وسط عائلتي، لا أستطيع تحمل أفرادها الذين لا يعرفون كيف يتحدثون بهدوء، صراخ وشتيمة طوال اليوم، أوامر فقط، لا شيء آخر في ذلك المنزل..
نظرت إليها بدهشة، ما الذي تهزي به هذه الفتاة؟
نظرت إلي ثم ضحكت بمرارة وتابعت: ترين حديثي عن الرجال سطحيا ويفقأ المرارة، ولكن في الحقيقة أنا لم أكذب، كنت أحكي لك ما أشعر به، ستقولين أنني فتاة خرقاء ولست طبيعية، نعم أنا كذلك، لم أذق طعم الحنان في يوم، أشتهي أن أسمع كلمة يا ابنتي من والدي أو والدتي، أسرتنا أسرة متبلدة، علاقتنا يحكمها الجفاف، لدرجة أنني لا أستطيع الجلوس مع والدي في نفس المكان، أشعر بالتوتر، أكاد أن أموت من الدهشة عندما أرى فتاة تمازح والدها أو تضحك معه، أما أمي فلا أعرف ما كان هدفها من انجابي، لا تعرف عني أي شي، مشغولة طوال اليوم، لا تفرغ من جلسات القهوة مع نساء الحي والقيل والقال، أتمنى أن يهتم أحد لأمري، لمرة واحدة فقط يأتي أحد ويسألني عن دراستي، كيف تسير، ماذا أريد، لا أحد يهتم يا يقين، عندما أسمع فتاة تتذمر من حرص والديها على دراستها واهتمامهم وضغطهم عليها، أحسدها وأتمنى أن أكون مكانها، مر أسبوعان ولم يتصل بي أحد ليعرف أخباري، تعبت من هذا الجدب ومن هذه الحياة الخاوية، تعبت جداً
ثم غطت عينيها بيديها وبكت بحرقة، آلمني قلبي على هذه الفتاة..
لم أستطع أن أتحدث معها، رن الجرس وطلب منا الدخول إلى الفصول..
لم أركز في الدرس، كل تفكيري كان مع هذه الفتاة المسكينة، لقد ظلمتها كثيراً، كنت أسخر منها، وكل يوم أرى وجهاً جديداً وزاوية أخرى لصورة كنت أراها ناقصة، من زاوية واحدة، يا ليتني عرفت مشكلتها من قبل
بعد انتهاء اليوم الدراسي بحثت عنها في كل مكان، ولكنني لم أجدها، شعرت بالحزن وعدت إلى المنزل، وجدت نفسي أبكي على حالها، قلبي يؤلمني بشدة، شعرت بالظلم الواقع عليها، لماذا تحتم عليها أن تعيش هذه الحياة القاسية كما قالت، ولماذا انجبوها إن لم يهتموا بها..
أخرجني من شرودي صوت والدي، كان ينظر إلي بملامح حانية، ضمني إليه ثم قال: من أحزن فلذة كبد والدها؟
قلت: ما رأيك فيني يا أبي؟
قال وقد بدأ عليه أنه أستغرب سؤالي: أنت فتاتي الرائعة المميزة، الفريدة من نوعها والتي لا تشبه أحد
ابتسمت ثم قلت: أنا رائعة لأن لدي والدان رائعان
قال باهتمام: أحكي لوالدك إذن
تنهدت ثم قلت: لماذا الحياة ظالمة يا ابي؟ هذا ليس عدلاً، لماذا يتحتم على الإنسان أن يعيش حياة قاسية!
صمت قليلاً، تنهد ثم قال: يا ابنتي، سوف أحكي لك قصة، ذهبت فتاة يوما ما إلى ابيها تشكو له ضغوط الحياة وعدم قدرتها على التعامل مع ما تواجهه من مشاكل .
فأخذها أبوها إلى المطبخ ثم احضر ثلاثة قدور مملؤة بالماء ووضعها على النار ثم وضع في القدر الأول حبة بطاطس
وفي الثاني بيضة .. وفي الثالث ملعقة بُن ..
فقالت له أبنته يا أبت لقد جئتك لتساعدني في حل مشاكلي وأنا لست بجائعة الأن
فأجابها الأب أنتظري قليلا وسأساعدك على حل مشاكلك
بعد قليل أطفاء الأب النار ثم سأل أبنته ماذا حدث داخل القدور الثلاثة ؟
قالت الأبنة : ماذا تقصد ..!!
فال الأب ماذا فعل الماء المغلي للبطاطس والبيضة والبن؟
قالت حبة البطاطس اصبحت طرية وضعيفة
أما البيضة فقد سلقت وأصبحت قوية ومتماسكة
والبن ذاب وحول الماء إلى قهوة
فقال لها الأب :
الماء المغلي هو كالحياة تماما ندخل فيها جميعا وعلى الرغم من أن الماء هو الماء ولكننا نتأثر به بشكل مختلف
فمنا من هو كحبة البطاطس لا يتحمل أعباء الحياة فتضعفه وتجعله طريا ضعيفا
ومنا من هو كالبيضة يتقوى بما يواجهه من أعباء الحياة ويصبح أكثر صلابة ..
ومنا من هو كالبُن يستطيع أن يتفاعل مع الحياة ويغيرها ..
قبل أن تفكري في حل مشاكلك يجب عليك أولا أن تحددي …
نظرت إليه بدهشة، أثرتني هذه القصة، يا له من درس رائع، قلت له: أنت رائع يا ابنتي
قال ضاحكا: القصة ليست مرتجلة، بل سمعت بها وجئت لأطبقها معك..
تحدث معي أبي كثيراً، حدثته عن قصة إسراء، سمعني حتي النهاية، سمع تذمري واعتراضي على حالها، ثم قال لي: الحياة الدنيا ليست دار عدل يا ابنتي، وكما قلت أنك دائما ترين الصورة ناقصة، ثم تتضح لك، وفي هذا الأمر أنت ما زلت لم تري الصورة كاملة، ربما تكون في معاناتها هذه نجاتها، من يدري!
كله مقدر ومكتوب، والله يا ابنتي لو عرفنا الحكمة من كل ما يحدث في حياتنا لما أخترنا غير الذي كتبه الله لنا، وكما أخبرنا حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمر المؤمن كله خير، وليس ذلك لأحد إلا لمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، فمثلا، قد يكتب لأحدنا سعة في المال، لأن في ذلك خير له، سوف يعرف كيف يتصرف به، يحسن إلى نفسه وإلى الآخرين، ويجعل ذلك المال له لا عليه يوم الحساب وآخر إن أصبح معه نفس المال طغى في الأرض وأفسد نفسه وأفسد على الآخرين ثم خسر خسراناً عظيما، أو قد يكون يحتاج إلى هذا الخسران لكي يتوب ويتغير ثم يوسع عليه الله رزقه..
ضعي في بالك أن كل شيء يحدث معنا في هذه الحياة لحكمة، إن أدركناها أم لا، وأن أمر المؤمن كل خير إن صبر وشكر..
لا أستطيع أن أصف مدى الراحة التي شعرت بها بعد حديث والدي، شعرت بسخافتي وجهلي، وهل هناك أرحم من الله علينا! معاذ الله! هو أرحم بنا منا ومن كل مخلوق سبحانه وتعالى..
في اليوم التالي جائتني فكرة، أخذت إسراء وذهبنا إلى المستشفى، كانت متعجبة، تسألني طوال الطريق إلى أين سأخذها، كنت أتحدث معها بلطف لم تعتده، جعلها مندهشة طوال الطريق..
دخلنا إلى المستشفى، كنت أريها معاناة الناس هناك، من يأتي لغسيل الكلى ثلاث مرات في الأسبوع، يخرج دمه كله من جسده لينظف، إبرة ضخمة جداً مغروزة في يده، الألم يكسو وجهه، أموال كثيرة فوق طاقته، وإن سألته ما أمنيتك، يقول أن تعود كليتي كما كانت، طبيعية، أن أتخلص من هذه المعاناة، أليست هذه بنعمة عظيمة! لدينا كلية تغسل دمنا آلاف المرات في فترة بسيطة، ولكننا أعتدنا النعم، نشكو ونقول بأننا مظلومين ولا نملك شيئا..
خطرت لي الفكرة عندما فتحت الجريدة بالأمس ووجدت مقال يتحدث عن الكلى ووظائفها، طفنا أنا وإسراء في المكان، نراقب الوجوه المتعبة، وقلوبنا تؤلمنا عليهم، واستشعرنا النعم العظيمة التي نملكها..
بعدها خرجنا وجلسنا في الخارج، أخبرتها بأنني رأيت فيلما كانت وراءة رسالة عظيمة، واليوم تذكرته، عندما عرض الفيلم في السينما، مرت ثمانية دقائق، والكاميرا موجهة نحو السقف فقط، مل الحضور مللاً شديداً، انزعجو وشارفو على المغادرة، ثم بعدها تحركت الكاميرا نحو طفل صغير مشلول مستلقي على سريره، وكتب على الشاشة، هذا المنظر يراه الطفل لأيام وساعات متوالية، وأنت مللت من أول ثمانية دقائق، ومع ذلك لا تدرك عظمة النعمة التي تملكها، أشكر الله لأنك سليم وليس معاق..
قلت: يا إسراء أنا لا أقلل من قيمة أحزانك، ولكننا كثيراً عندما نشعر بالضعف والانكسار، نشعر بأننا محرومين، وننسى نعم الله علينا، ننسى أنه الحكيم، يدبر لنا الأمر، وقد قال" وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" هو الرحيم، والعليم، واللطيف، هل تفهميني؟
ضمتني إسراء وقالت بابتسامة: نعم أفهمك وأشعر بتحسن كبير الآن، شكراً يا صديقتي، شكراً على اهتمامك بما يؤلمني وحرصك على سعادتي..
لا أعرف كيف تحدثت بهذه الطريقة معها، ولكنني تعلمت كثيراً من هذا الموقف، تعلمت الكثير حقاً..
بعدها ذهبنا وتناولنا آيسكريم، جلسنا نضحك ونمرح، سرحت إسراء قليلاً ثم نظرت نحوي وقالت: مشكلتنا أننا نرى ألا يحدث لديه مثل أحزاننا، أن حزننا لو قسم على أهل الأرض لأهلكهم، ولكن زيارة واحدة إلى المستشفى تنفي كل توهماتنا، الحمد لله أنه جعلك في طريقي، الحمد لله على هذه النعم التي لا تحصى ولا تعد، سامحنا يا الله على جهلنا وتفكيرنا المحدود..أرزقنا الحكمة يا رب، ومن أتيته الحكمة فقد نال خيراً كثيرة، الحكمة التي تجعلنا نتقبل كل ما يحدث معنا برضا، نتصالح مع أحزانتا ومصائبنا، وندرك أن كل شيء يحدث معنا لحكمة أنت تعلمها يا رحيم
نظرت إليها بدهشة، من هذه التي تتحدث!؟
ضحكت وقالت: اسمع جدتي دائما تردد مثل هذه الكلمات، ولكنني لم أكن أفهمها، اليوم علمتني درساً مهما يا يقين..
قلت لها بابتسامة: وأنا أيضاً تعلمت درساً مهما يا إسراء، وهو الرضا، أن نرضى بما كتبه الله لنا، لأنه الخير، وأمر المؤمن كله خير إن صبر وشكر، أسأل الله أن يرضى عنا ويرضينا، ويرنا الحق حقاً، ويرزقنا اتباعه، ويرنا الباطل باطلاً ويرزقنا إجتنابه، كما يدعو والدي دائما..
كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها الجانب الآخر من إسراء، كانت في نظري دائما هي تلك الفتاة البلهاء..
عدت إلى المنزل وأنا سعيدة، سمعت والدي يقول أن سعادة المنح تفوق سعادة العطاء، فعندما جعلت أسراء ترى الجانب الآخر من مشكلتها، ورأيت ابتسامتها، كانت فرحتي مضاعفة، أن تكون سبباً في ابتسامة أحدهم أو تخفف عنه بعض من أحزانه، شعور مريح جداً..
قصصت لوالدي ما فعلته، فضحك وأخبرني بأنني أصبحت فتاة واعية، وتصرفت تصرفاً رائعاً، نمت وأنا قريرة العين..
جلست بقربها وسألتها بلطف عما يحدث معها، ارتبكت عندما رأتني، صمتت قليلاً ثم قالت: سوف أحكي لك بما أنك الوحيدة التي أشاركها أسراري
قلت: بما أنك لم تبدي حديثك بحيائي لا يسمح لي، إذن الأمر ليس له علاقة برجل
ضحكت وعينيها مليئة بالدموع ثم قالت: لا، ليس له علاقة برجل
قلت باهتمام: أخبريني ما الذي يبكيك يا إسراء، أنا أسمعك
قالت بحزن: الأمر له علاقة بعائلتي
كنت أنظر في عينيها، رأيت حزن دفين
تابعت بمرارة: لماذا يتزوج الناس إن كانو لا يستطيعون الاعتناء بأبنائهم، ألم يكتفي هذا العالم من المرضى النفسيبن! تعبت من حياتي ومن كل ما فيها، أشعر بالاختناق وأنا في منزلي والذي من المفترض أن يكون هو ملاذي وأماني، أكره الجلوس وسط عائلتي، لا أستطيع تحمل أفرادها الذين لا يعرفون كيف يتحدثون بهدوء، صراخ وشتيمة طوال اليوم، أوامر فقط، لا شيء آخر في ذلك المنزل..
نظرت إليها بدهشة، ما الذي تهزي به هذه الفتاة؟
نظرت إلي ثم ضحكت بمرارة وتابعت: ترين حديثي عن الرجال سطحيا ويفقأ المرارة، ولكن في الحقيقة أنا لم أكذب، كنت أحكي لك ما أشعر به، ستقولين أنني فتاة خرقاء ولست طبيعية، نعم أنا كذلك، لم أذق طعم الحنان في يوم، أشتهي أن أسمع كلمة يا ابنتي من والدي أو والدتي، أسرتنا أسرة متبلدة، علاقتنا يحكمها الجفاف، لدرجة أنني لا أستطيع الجلوس مع والدي في نفس المكان، أشعر بالتوتر، أكاد أن أموت من الدهشة عندما أرى فتاة تمازح والدها أو تضحك معه، أما أمي فلا أعرف ما كان هدفها من انجابي، لا تعرف عني أي شي، مشغولة طوال اليوم، لا تفرغ من جلسات القهوة مع نساء الحي والقيل والقال، أتمنى أن يهتم أحد لأمري، لمرة واحدة فقط يأتي أحد ويسألني عن دراستي، كيف تسير، ماذا أريد، لا أحد يهتم يا يقين، عندما أسمع فتاة تتذمر من حرص والديها على دراستها واهتمامهم وضغطهم عليها، أحسدها وأتمنى أن أكون مكانها، مر أسبوعان ولم يتصل بي أحد ليعرف أخباري، تعبت من هذا الجدب ومن هذه الحياة الخاوية، تعبت جداً
ثم غطت عينيها بيديها وبكت بحرقة، آلمني قلبي على هذه الفتاة..
لم أستطع أن أتحدث معها، رن الجرس وطلب منا الدخول إلى الفصول..
لم أركز في الدرس، كل تفكيري كان مع هذه الفتاة المسكينة، لقد ظلمتها كثيراً، كنت أسخر منها، وكل يوم أرى وجهاً جديداً وزاوية أخرى لصورة كنت أراها ناقصة، من زاوية واحدة، يا ليتني عرفت مشكلتها من قبل
بعد انتهاء اليوم الدراسي بحثت عنها في كل مكان، ولكنني لم أجدها، شعرت بالحزن وعدت إلى المنزل، وجدت نفسي أبكي على حالها، قلبي يؤلمني بشدة، شعرت بالظلم الواقع عليها، لماذا تحتم عليها أن تعيش هذه الحياة القاسية كما قالت، ولماذا انجبوها إن لم يهتموا بها..
أخرجني من شرودي صوت والدي، كان ينظر إلي بملامح حانية، ضمني إليه ثم قال: من أحزن فلذة كبد والدها؟
قلت: ما رأيك فيني يا أبي؟
قال وقد بدأ عليه أنه أستغرب سؤالي: أنت فتاتي الرائعة المميزة، الفريدة من نوعها والتي لا تشبه أحد
ابتسمت ثم قلت: أنا رائعة لأن لدي والدان رائعان
قال باهتمام: أحكي لوالدك إذن
تنهدت ثم قلت: لماذا الحياة ظالمة يا ابي؟ هذا ليس عدلاً، لماذا يتحتم على الإنسان أن يعيش حياة قاسية!
صمت قليلاً، تنهد ثم قال: يا ابنتي، سوف أحكي لك قصة، ذهبت فتاة يوما ما إلى ابيها تشكو له ضغوط الحياة وعدم قدرتها على التعامل مع ما تواجهه من مشاكل .
فأخذها أبوها إلى المطبخ ثم احضر ثلاثة قدور مملؤة بالماء ووضعها على النار ثم وضع في القدر الأول حبة بطاطس
وفي الثاني بيضة .. وفي الثالث ملعقة بُن ..
فقالت له أبنته يا أبت لقد جئتك لتساعدني في حل مشاكلي وأنا لست بجائعة الأن
فأجابها الأب أنتظري قليلا وسأساعدك على حل مشاكلك
بعد قليل أطفاء الأب النار ثم سأل أبنته ماذا حدث داخل القدور الثلاثة ؟
قالت الأبنة : ماذا تقصد ..!!
فال الأب ماذا فعل الماء المغلي للبطاطس والبيضة والبن؟
قالت حبة البطاطس اصبحت طرية وضعيفة
أما البيضة فقد سلقت وأصبحت قوية ومتماسكة
والبن ذاب وحول الماء إلى قهوة
فقال لها الأب :
الماء المغلي هو كالحياة تماما ندخل فيها جميعا وعلى الرغم من أن الماء هو الماء ولكننا نتأثر به بشكل مختلف
فمنا من هو كحبة البطاطس لا يتحمل أعباء الحياة فتضعفه وتجعله طريا ضعيفا
ومنا من هو كالبيضة يتقوى بما يواجهه من أعباء الحياة ويصبح أكثر صلابة ..
ومنا من هو كالبُن يستطيع أن يتفاعل مع الحياة ويغيرها ..
قبل أن تفكري في حل مشاكلك يجب عليك أولا أن تحددي …
نظرت إليه بدهشة، أثرتني هذه القصة، يا له من درس رائع، قلت له: أنت رائع يا ابنتي
قال ضاحكا: القصة ليست مرتجلة، بل سمعت بها وجئت لأطبقها معك..
تحدث معي أبي كثيراً، حدثته عن قصة إسراء، سمعني حتي النهاية، سمع تذمري واعتراضي على حالها، ثم قال لي: الحياة الدنيا ليست دار عدل يا ابنتي، وكما قلت أنك دائما ترين الصورة ناقصة، ثم تتضح لك، وفي هذا الأمر أنت ما زلت لم تري الصورة كاملة، ربما تكون في معاناتها هذه نجاتها، من يدري!
كله مقدر ومكتوب، والله يا ابنتي لو عرفنا الحكمة من كل ما يحدث في حياتنا لما أخترنا غير الذي كتبه الله لنا، وكما أخبرنا حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمر المؤمن كله خير، وليس ذلك لأحد إلا لمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، فمثلا، قد يكتب لأحدنا سعة في المال، لأن في ذلك خير له، سوف يعرف كيف يتصرف به، يحسن إلى نفسه وإلى الآخرين، ويجعل ذلك المال له لا عليه يوم الحساب وآخر إن أصبح معه نفس المال طغى في الأرض وأفسد نفسه وأفسد على الآخرين ثم خسر خسراناً عظيما، أو قد يكون يحتاج إلى هذا الخسران لكي يتوب ويتغير ثم يوسع عليه الله رزقه..
ضعي في بالك أن كل شيء يحدث معنا في هذه الحياة لحكمة، إن أدركناها أم لا، وأن أمر المؤمن كل خير إن صبر وشكر..
لا أستطيع أن أصف مدى الراحة التي شعرت بها بعد حديث والدي، شعرت بسخافتي وجهلي، وهل هناك أرحم من الله علينا! معاذ الله! هو أرحم بنا منا ومن كل مخلوق سبحانه وتعالى..
في اليوم التالي جائتني فكرة، أخذت إسراء وذهبنا إلى المستشفى، كانت متعجبة، تسألني طوال الطريق إلى أين سأخذها، كنت أتحدث معها بلطف لم تعتده، جعلها مندهشة طوال الطريق..
دخلنا إلى المستشفى، كنت أريها معاناة الناس هناك، من يأتي لغسيل الكلى ثلاث مرات في الأسبوع، يخرج دمه كله من جسده لينظف، إبرة ضخمة جداً مغروزة في يده، الألم يكسو وجهه، أموال كثيرة فوق طاقته، وإن سألته ما أمنيتك، يقول أن تعود كليتي كما كانت، طبيعية، أن أتخلص من هذه المعاناة، أليست هذه بنعمة عظيمة! لدينا كلية تغسل دمنا آلاف المرات في فترة بسيطة، ولكننا أعتدنا النعم، نشكو ونقول بأننا مظلومين ولا نملك شيئا..
خطرت لي الفكرة عندما فتحت الجريدة بالأمس ووجدت مقال يتحدث عن الكلى ووظائفها، طفنا أنا وإسراء في المكان، نراقب الوجوه المتعبة، وقلوبنا تؤلمنا عليهم، واستشعرنا النعم العظيمة التي نملكها..
بعدها خرجنا وجلسنا في الخارج، أخبرتها بأنني رأيت فيلما كانت وراءة رسالة عظيمة، واليوم تذكرته، عندما عرض الفيلم في السينما، مرت ثمانية دقائق، والكاميرا موجهة نحو السقف فقط، مل الحضور مللاً شديداً، انزعجو وشارفو على المغادرة، ثم بعدها تحركت الكاميرا نحو طفل صغير مشلول مستلقي على سريره، وكتب على الشاشة، هذا المنظر يراه الطفل لأيام وساعات متوالية، وأنت مللت من أول ثمانية دقائق، ومع ذلك لا تدرك عظمة النعمة التي تملكها، أشكر الله لأنك سليم وليس معاق..
قلت: يا إسراء أنا لا أقلل من قيمة أحزانك، ولكننا كثيراً عندما نشعر بالضعف والانكسار، نشعر بأننا محرومين، وننسى نعم الله علينا، ننسى أنه الحكيم، يدبر لنا الأمر، وقد قال" وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" هو الرحيم، والعليم، واللطيف، هل تفهميني؟
ضمتني إسراء وقالت بابتسامة: نعم أفهمك وأشعر بتحسن كبير الآن، شكراً يا صديقتي، شكراً على اهتمامك بما يؤلمني وحرصك على سعادتي..
لا أعرف كيف تحدثت بهذه الطريقة معها، ولكنني تعلمت كثيراً من هذا الموقف، تعلمت الكثير حقاً..
بعدها ذهبنا وتناولنا آيسكريم، جلسنا نضحك ونمرح، سرحت إسراء قليلاً ثم نظرت نحوي وقالت: مشكلتنا أننا نرى ألا يحدث لديه مثل أحزاننا، أن حزننا لو قسم على أهل الأرض لأهلكهم، ولكن زيارة واحدة إلى المستشفى تنفي كل توهماتنا، الحمد لله أنه جعلك في طريقي، الحمد لله على هذه النعم التي لا تحصى ولا تعد، سامحنا يا الله على جهلنا وتفكيرنا المحدود..أرزقنا الحكمة يا رب، ومن أتيته الحكمة فقد نال خيراً كثيرة، الحكمة التي تجعلنا نتقبل كل ما يحدث معنا برضا، نتصالح مع أحزانتا ومصائبنا، وندرك أن كل شيء يحدث معنا لحكمة أنت تعلمها يا رحيم
نظرت إليها بدهشة، من هذه التي تتحدث!؟
ضحكت وقالت: اسمع جدتي دائما تردد مثل هذه الكلمات، ولكنني لم أكن أفهمها، اليوم علمتني درساً مهما يا يقين..
قلت لها بابتسامة: وأنا أيضاً تعلمت درساً مهما يا إسراء، وهو الرضا، أن نرضى بما كتبه الله لنا، لأنه الخير، وأمر المؤمن كله خير إن صبر وشكر، أسأل الله أن يرضى عنا ويرضينا، ويرنا الحق حقاً، ويرزقنا اتباعه، ويرنا الباطل باطلاً ويرزقنا إجتنابه، كما يدعو والدي دائما..
كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها الجانب الآخر من إسراء، كانت في نظري دائما هي تلك الفتاة البلهاء..
عدت إلى المنزل وأنا سعيدة، سمعت والدي يقول أن سعادة المنح تفوق سعادة العطاء، فعندما جعلت أسراء ترى الجانب الآخر من مشكلتها، ورأيت ابتسامتها، كانت فرحتي مضاعفة، أن تكون سبباً في ابتسامة أحدهم أو تخفف عنه بعض من أحزانه، شعور مريح جداً..
قصصت لوالدي ما فعلته، فضحك وأخبرني بأنني أصبحت فتاة واعية، وتصرفت تصرفاً رائعاً، نمت وأنا قريرة العين..