الفصل التاسع

بعد موقف إسراء ازداد قربنا، تغيرت نظرتي إليها، رغم أنها ما زالت تفقأ مرارتي بحكاياها السخيفة، ولكن ما يسعدني أن عينيها باتت أقل حزناً، ظلت تشكرني لأيام لأنني جئت إليها وسألتها عن السبب الذي يبكيها، وأنها عندما حدثتي عما يؤلمها ارتاح قلبها جداً..
ومن ذلك اليوم ضمت عصابتنا فرداً جديداً، أصبحنا نحن الأربعة أروع صديقات، رغم اختلافنا الشديد، ولكننا رغم الاختلاف متفقين، لاحظت أن هناك انسجام بين إسراء وعبق، حتى عندما نكن مجتمعين معاً يبقين مع بعضهن، ولا بأس بذلك، ففي كل مجموعة أصدقاء، تجد نفسك تميل لأحدهم أكثر من البقية..
كنا نجلس ذات يوم، قالت إسراء بأن تريد أن تصبح طبيبة، ويارا تريد أن تدرس هندسة معمار، أما عبق فقالت بأنه عليها أن تدرس الطب، وفقاً لرغبات والديها، وهي أيضاً تحب ذلك..أما أنا فأريد أن أدرس طب أسنان، لا أعرف لماذا، ولكن هكذا أحببت هذا المجال، وما حببني فيه أكثر تلك الطبيبة التي أخذتني إليها أمي ذات يوم لأن ضرسي كان يؤلمني، كانت لطيفة جداً، شعرت بأنني أريد أن أصبح مثلها..
مرت الأيام بسرعة فائقة، أقضي جل وقتي في الدراسة، وفي الحقيقة، أنا أحب الدراسة، قد يبدو الأمر غريبا ولكنني أحبها جداً، وكما قلت من قبل، أحب اكتشاف كل ما هو جديد..
تبقى أسبوع على الامتحانات، أشعر ببعض التوتر، ولكن والداي لم يقصرا، كانا يدعمانني طوال الوقت، أصبح كرشي مخزنا للعصير، طعام شهي لا يطبخ بالعادة، علبة كبيرة من الشوكلاته موضوعة على الطاولة انتاولها بلا رقابة، الاطباق أشتاقت ليدي كيف تغسلها، ما هذه الرفاهية، كدت أن أتمنى ألا تنتهي الامتحانات، حتى أمي أصبحت لطيفة جداً ولا تنعتني بأي شيء، أنظر إليها بشك وأحاول أن أستغل طيبتها هذه الأيام بقدر الإمكان، فهذه فترة لا تعوض..
بدأت الإمتحانات، كانت أمي توصلني في الصباح إلى المدرسة، ثم تذهب إلى مدرستها، تمطرني بسيل من الدعوات التي تسكن القلب، ثم عندما أعود أجد المنزل مهيئاً للدراسة، الحمد لله مرت تلك الفترة الصعبة على خير، كنت راضية عن أدائي، وعبق ويارا أيضاً، أما أسراء فلم تكن سعيدة، قالت بأنها سوف تعيد السنة بكل تأكيد، لأنها غير راضية ولن تستسطيع أن تقبل في كلية الطب بهذا الأداء، حاولنا التحدث معها وإخبارها بأن تتفائل قليلاً ولكنها قالت بأنها متصالحة مع الواقع، ولا تريد أن تصدم بعد ذلك، حتى أنها سوف تصارح والديها، كانت متخوفة، فهم لن يتقبلو الأمر بسهولة، سوف يعيرونها بأنهم جعلوها تدرس في مدرسة في المدينة بعيداً عن قريتها النائية ومع ذلك لم ينفع معها، ولكنها ستتحمل، من أجلها ومن أجلهم، فهم رغم كل شيء والديها في نهاية الأمر..
قررنا أن نعمل جلسة صديقات في منزلنا، لأن إسراء سوف تسافر إلى قريتها، ولأننا لا نعرف متى سنراها مرة أخرى، بل ربما لا نراها..
رحبت والدتي بالفكرة، حضرنا أنا وهي وجبات خفيفة ومقبلات، وكان والدي غائبا، فسوف نأخذ راحتنا جداً..
كانت إسراء أول من حضر، جلست تضحك مع أمي وتمزح، كأنها ليست تلك الفتاة البائسة، كنت أتأملها، ضحكتها البريئة، تذكرت حديثها العفوي..قبل أن تصبح صديقتي لم أن أراها إلا في المدرسة، عندما كانت تحدثني عن اعجابها بالرجال تشكل في عقلي أنها فتاة جريئة في تعاملها معهم أيضاً كما حديثها، ولكن في يوم خرجنا معاً بعد المدرسة، فرأيتها كيف تنظر إلى الرجال بريبة، نظرة غريبة أكثر من نظرتي إليهم، تتحدث معهم بحدة، ولا تبالي ..
تحدث معها صاحب البقالة بلطف بالغ، كان يمزح معنا ويدعو لنا بالتوفيق، نظرت إليها فكانت تنظر إليه بلا مبالاة، كمن لا يهتم بما تهزي يه من قول، وما إن خرجنا حتى لمعت عينيها بتلك النظرة التي أعرفها عندما تتحدث عن رجل يعجبها، نظرت إليها بدهشة، بعينين متسعتين، وقلت: هل دائما كنت تتعاملين بهذه اللا مبالاة مع كل الرجال السابقين، أقصد من أعجبت بهم
قالت ضاحكة: أجل وماذا تظنين! لا يمكنني التعامل مع جنس الرجال، إلا في الحكايا فقط
قلت بدهشة: لا أصدق!
قالت بصوت طفولي: لقد ظلمتني، صحيح أنني فاقدة للحنان، ولكنني لست جريئة ولا رخيصة، ولا أحكي عن هذه الأشياء إلا إليك، وعبق أحياناً…
قلت لها بنبرة درامية: سامحيني آنسة إسراء
قالت ضاحكة: حسنا ولكن بشرط، أخبريني بصراحة، ألم سكن الشاب جذاباً ولطيفاً
قلت: وما الجديد، العالم مليء باللطفاء، وأيضاً المظاهر خداعة يا حبيبتي
قالت متأففة: حسناً يا مفسدة المتع، أنسي الأمر..
------
جلسنا جميعنا نضحك ونمرح ونأكل، وبحكم نظرتي الشاعرية إلى الأمور، كنت أتأمل كل الحاضرين بحب، رقة يارا، مرح عبق، ضحكة إسراء وطيبتها التي لا يملكها أحد، تذكرت كل المواقف التي جمعتني بكل واحدة منهن، البدايات غير الجميلة إلا مع يارا، نظرتي لهن قبل أن يصبحن صديقاتي، مواقفي معهن التي تعلمت منها الكثير، وكيف أصبحنا أروع صديقات..
وعدنا إسراء بأن نوصلها حتى محطة الحافلات، وقبل أن تغادر شعرت بأنها تنظر إلي، نظرت نحوها فرأيت العبرات تسيل على خدها، قالت لي بنبرة حانية: شكراً يا يقين، شكراً لأنني معك جربت شعور أن يهتم بك أحدهم، تعرفت على مشاعر لم أكن أعرفها من قبل، بسببك أصبحت جزءا من مجموعة صديقات رائعات، عشت معكن أفضل أيام في حياتي، أيام لن أنساها ما حييت..
ثم ضمتني، كان حضناً أبلغ من كل الكلام..
في اليوم التالي ذهبنا معها وأوصلناها إلى محطة الحافلات كما وعدناها، ودعناها وما أصعب لحظات الوداع ثم غادرت، كم أكره الوداع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي