الفصل الثاني

ازمنة الحب المتصاعدة ١٢
مريم عبدالرحمن
****
كم عدد المرات التي خُذلنا فيها و أمسينا بمفردنا، نعلم كم هم حولنا ولكن شعور الوحده مُقيت وسخيف، لما يكن من بعدها آلام سوا أن تلك الشعور التي بداخلنا لا يُمكن ان نشرح ماهيتها ولا أحد من هؤلاء الحول يدرك كمّ شعورنا الغير مفهومه، تصبح الحياة اكثر حيوية عن مرادفها حين نعلم كيف نستدير لظلماتنا ونسير في ما تبقى من امالنا، وكالعادة لا تُخذلنا الامال إن خذلنا الجميع.
في تلك الليله الشاردة اصبح على وجوههم علامات الحيرة لتستأنف من ذلك انهم ليسوا الفاعلين، لتؤردف وهي في حزنها الذي يظهر رغمًا عن غضبها:
-انا هسيبكم تصلحوا الغلط ده، وترجعوهالي.
رمقها بحدة حتى اجابها بأسف:
-مش هنعرف، احنا مش قد عيلة عطوة.
-مش عيلة عطوة دي عيلتك؟
قالتها بغضب وهو يمسك زمام غضبه الاخر ورغم انه قعيده الا انه تقدم بالعربه تجاهها ليقول:
-زينب كانت بتحب الانسحاب، انسحبي بهدوء حياتك كده افضل، شكلك برّاويه.
ضحكت بإستهزاء وتلك هي المرةِ الاولى التي تجرؤ على التطاول مع احد يكبرها سنًا وخطورة:
-بص يا.. استاذ محمد، ماما الله يرحمها مكنتش بتحب الانسحاب، كانت بتحب السلام.
ثم اكملت وهي تتراجع ذاهبه لباب المنزل:
-انا بقا اعتبرني برّاويه… بس مبسبش حقي ابدًا.
غمزت بطرف عينها قبل ان تخرج من المنزل وتغلق الباب بنفسها من خلفها وينظر هو الى حسن الذي جلس مبتسم في صمته على ما واجهه الان من فتاة شرسه قد غيرتها الاقدار والزمن، ليتقدم وهو يحاول ان يختلس افكار والده:
-انا مخدتش السلسله، انا كده كده لو خدتها مش هعرف اتعامل معاها، اكيد نش هنتحر.
هز رأسه بإيماءه وهو ينظر للفراغ يحاول ان يستفهم شئ يمقته، ليهمس بحقد:
-عيلة عطوة مش ناوية تسيبنا في حالنا.
-بابا، انت قولتلي زمان انك قولت لعيلتنا ان بنت نور خدت السلسله وهربت.
-ومسكتوش ودوروا عليها واهم جابوا زينب وقتلوها اكيد.
رفع حسن احدى حاجبيه مستعجبًا ليقول:
-اشمعنا عيلة عطوة هي اللي عاوزة السلسله مع انها مؤذيه.
هز رأسه نفيًا عن حديثه مجيبًا بحنقه:
-عشان هي مِلك للعيلة فعلًا، بترجع اصولها للدم بتاعنا، وطول ما هي مع حد من دمنا مش هتإذيه بل هتخدمه.
-وانت ايه عرفك الحكاية دي! مقولتليش قبل كده.
تنهد والده بأريحيه وهو يصب كأس من النبيذ بجانبه ثم قال بهدوء:
-في حاجات كتير اوي محدش يعرفها غيري، و ده اللي خلاني منء زمن طويل ابحث واجري وراها واجيبها.
-واشمعنا انت بس؟
-جدك قالها لي قبل ما يموت.
اقترب حسن منه وجلس من امامه لينظر الى عينيه بإبتسامه خبيثه وابتسم والده كمثلها ليذكره به في شبابه قبل تلك التجاعيد ان تنهال عليه وتجعله جليس الحسرة:
-متبصليش كده يا حسن، مش هقولك بردو.
تنهد ابنه ثم قال و هو ينهض من مقعده:
-مش هجبرك، بس متنساش ان مسيرك تروح زي جدي، وساعتها محدس هيبقا عارف وهيبقا ذنب الكل في رقابتك.
تركه في حيرة من امره واستند على خيباته متمسك بأسرارة، من الممكن ان تكون الاسرار ضارة و يمكنها ان تكون نافعه، وكيف من خلف ذلك الرجل نوافع! سوا لنفسه.. حتى فلذة كبده لا يريد ان ينفعه.
****
مساء اليوم وفي غرفة ليلى تحديدًا تجلس بغرفة والدتها تفتش بأوراقها ليدلف من خلفها والدها مندهشًا، فتلك المرة الاولى التي يشاهد فيها ابنته تعبث في اوراقهم وخصوصياتهم دون إذن، الحياة لا يمكن ان تغير الحياء او التربية او من نمط تفكير شخصٍ ما مهما ساءت به الايام وهبت به الى الجحيم، لينطق حروفه بهدوء كي لا يجعلها مذنبه هو يعلم كم هي بحاجه لذلك الشعور الهادئ:
-بتدوري على حاجه معينه؟
هدأت من روعتها و هي تنظر له بحرج شديد ثم هبت من جلستها لتقترب منه وهي تستشيره بهدوء:
-انا عاوزة ازور عيلة ماما، غريبه محدش جه العزاء.
-ولا حد هييجي يا ليلى.
تنهدت وهي تقول:
-انا اسفه اني فتشت في اوارقك انت وماما بس…
قاطعها وهو يربت على كتفيها بابتسامه صاخبه:
-متعتذريش، عارف حالك دلوقت.
ثم اكمل بحب:
-اقعدي اتكلم معاكي.
جلست على مقعدها وهي تحاول ان ترفع رأسها من الخجل وربما الامل ايضًا، الامل الذي محى بعد ان كل دروبها اصبحت مغلقه، ان كانت والدتها هنا لما كانت دروبها ستغلق هكذا كانت ستُفتح لها بشكلٍ ما، استمعت لكلمات والدها المحقه:
-انتي يا ليلى عارفه كويس ازاي مامتك اتغدر بيها زمان وعاشت وسط الم ازاي، لكن انقذت نفسها بالالم ده عبرك انت، بنِت عيله كبيرة و عيلتنا كبيرة عشان متماسكين، ومتأكد انها منتحرتش بإرادتها وانا مس هسكت عن ده.
-ولا انا كمان هسكت.
قالتها بكسرة ليجيبها سريعًا:
-مش هنسكت، بس نتصرف بذكاء.
ربتت هي على كتفيه تلك المرة مبتسمه بحب وعيونها الصادقة تنفي غلطاتها التي ارادتها:
-بابا ، انشغل انت بالشغل الكتير اللي في الشركه وانا هنشغل بموضوع ماما.
-بس انا مش عاوز اقحمك في امور ملهاش اخر ولا ليها طريق معلوم.
-كفايه اني هرضي ضميري.
صمت قليلا ليعجز عن اقناعها يشعر وكأن العالم من حوله سكن، يتألم بشده لفراق محبوبته وزوجته لكن ما احد هنا ليظهر له ذلك الألم، ليس وقت ليظهره امام ابنته التي تحتاج لكل ذرة من القوة في الآونة الاخيرة يكتفي فقط بالصبر الذي يجتاحه بأنه قريبًا سيذهب لها لعد ان يطمئن على ابنته رغمًا عن عدم ارادته في ان يتركها بمفردها في تلك الحياه، يتصارع داخليًا في ما يريده وهذه هي حرب النفس التي نجهل بها بما نريد، لم يريد ان يترك يديها قبل ان يبوح لها بأول طريق قد اجهلته هي ايضا لينير داخلها بذلك الصندوق الذي كان اسفل الفراش، صندوق مستطيلي قوي من صلبته يحفر عليه حروف وبقفلٍ صغير وقد اعطاها مفتاحه، ليؤردف لها بسرور:
-اعتبريه اول مفتاح لأول لغز.
انفرجت اساريرها لتقترب منه وهي تحتضنه بقوة لم يرفض ابدًا ان تهلك نفسها في ذلك الطريق، ولكن لن يوقفها احدًا بعد اليوم ويعلم والدها اذا رفض لن تستسلم وستظل كما هي بحاجة لعامل يدفعها الى الهلاك.
تركته و هي تنفرد بذلك الصندوق في غرفتها، اشبه بالاشياء المتهالكه منذ قرون وكأنها دُفِنت تحت الارض، لم يعطيها حتى والدها اية معلومات اظن يعرف ان الاجابات بأجمعها ستلتقي بها هنا، لقاء حاسم بعد ان فتحت القفل بمفتاحه الصغير لينسدل من داخله رائحة الاتربة، هو مغلق كي للاتربه ان تخرج من داخله يبدو انه عتيق تمامًا كتاريخ عائلة عطوة، يملؤ اوراق!! امسك تلك الورقه الاولى لتكون عنوان في بيت بلبنان وجميعها صور لعائلة عطوة ومذكور من خلفها اسم كل شخص ، البُعد عن العائله مؤلم يبدو تلك الصور هي المنقذ الوحيد لوالدتها كي لا تشتاق اهم، ثم اتتها تلك الصورة التي تحمل جدتها نور وزوجها سليمان و بصدر نور القلاده بأريحيه، مبتسمين ويمسك كفها بحب، وأخر ورقه قد وقعت عليها هي ورقه قديمه تالفه بخط بارز (تمنّي ما شئتِ وإياكِ والحب)....

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي