الفصلالتاسع

أزمنة الحب المتصاعدة ١٩
لمريم عبدالرحمن
****
اغمضت جفنيها ثم فتحتهم لتلتقي بجسدها على فراش ناعم يلفحها الهواء اثر البحر من امامها والرمال من جانبها، ترتدي فستان ابيض يتطاير مع نسمات الهواء وشعرها ايضًا متطاير، لتشعر بتلك الرعشه التي امتلكتها بالبرودة وهي تنظر حوالها وكأن الرمال من خلفها لا نهاية لها والبحر ايضا من امامها لا نهاية له، لا يمكن ان تقول بأنها في صحراء لوجود ذلك البحر رغمًا عن المكان العجيب، لتستخلص من افكارها المرعبه وتتجه لتلك السيدة العشرينيه وهي تمسك بيد شاب عشريني يكبرها بسنوات قليله، انها والدتها وهي صغيرة، كم كانت جميلة مثلها وتشبهها تمامًا، أما عن ذلك الشاب العشريني ليس بوالدها ويا للعجب أنه محمد عطوة وهي صغير، كانت ابتسامته جميلة ونظراتهم لبعضهم البعض اجمل ما كانت، لولا أنها تعلم عشق والدتها زينب لوالدها عابد لكانت تقول تلك النظرات حقيقية ولم تحب من بعده ابدا، تريد ان تقاطع نظراتهم ولكن تركت والدتها يد محمد واتجهت الى البحر وهو ينظر لها بإبتسامه لتظل تتعمق اكثر و تحاول ليلى الصراخ بإسمها وتترجى محمد ان ينفذها ولكن لا يبالي احد بها، امها غرفت بسلام وهي لا تشعر فقط عالبر تصرخ بوالدتها.
استيقظت بعد ان كان والدها يربت على كتفيها ويحاول افاقتها من صرخاتها في كابوسها، كانت تتصبب عرقًا من صرخاتها، استفاقت وهي تبكي بأحضان والدها لتقول بنبرة منكسرة اثر بكائها:
-ماما وحشتني اوي.
-وحشتنا كلنا، اهدي بس يا حبيبتي.
ظلت تبكي بحرقه، لا تعلم لماذا كان كابوسًا وهي لم ترى اي شئ مخيف بل كان ما حولها مطمئن، شعورها فقط هو من كان كابوساً عليها، شعورها بأن والدتها تغرق وتغرق، كان صعب الشعور من امامها، لمااذا لم تكمل الحلم ويأتي والدها بقارب النجاه وينقذ والدتها! ام هي تلك الحكاية التي اكملتها الواقع!
تفاوت الوقت واخذت بحمام دافئ وسريع وخرجت من غرفتها لتلتقي بصديقتها ريمو ذات الجنسيه اللبنانيه وهي تحتضنها بقوة وتقول بضيق:
-حبيبتي ليلى انتي منيحه؟
هزت رأسها بكفاءه رغم شعورها باللنكسار ومحاولة انتشال تلك الاكذوبه لتبتلع غصه من حلقها وهي تناشدها ببحه:
-كويسه، مين قالك اني مش كويسه!
-مسيو عابد ناداني ميشان اكون جنبك اليوم.
تلألأت دموعها وهي تجيبها:
-مش عاوزة اقعد في البيت.
-طب يلا، هسوّي اي شئ يتاكل ونروح للشركه سوا، بعرف ان الشركه هتريحك كتير.
ابتسمت قليلا وهي تشعر براحه، فهو اكثر مكان امانًا كي لا تحلم بكوابيس، او تنغمس بتفكيرها في اللاشئ وتلك الخطط المتناهيه، ليس لها اية صحه ولا يعلموا هل بالفعل ستنجو من تراهاتها ام لا!! من يفقد والدته يفقد كل شئ امتلكه، يفقد الروح الذي اعطتها لجسده، وكأن الحياه لم تعطينا فرص اخرى من بعدها ولأي مدى ستشعر بذلك الألم الذي يفيض بها! تساؤلات لم ولن يكن لها إجابة.
**
بعد ان دلفت للشركه نظرت لها بابتسامه اجتاحتها للحظه، فيعتبر ذلك المكان قد بنى لها بعد الاوقات اللطيفه وكان عامل في بناء روحها من الداخل، دلفت خصوصاً الى مكتبها لتلقي فيما بعد بصديقها حسن ليتقدم وهو يقول بترحيب:
-كنت عارف انك جايه من ريمو قولت استناكي.
ابتسمت قليلاً وهي تمد يدها بالسلام ورفعت راية السعادة امامه وامام اية غريب:
-حسن ازيك، مبسوطه بترحيبك… رغم اني مش جاية اشتغل.
تعجب وقال بإندهاش:
-ايه ده! مش هتشتغلي ليه؟
-فعلا دماغي مش فايقه خالص.
استمد كلماته بثقه وواقعيه قائلا:
-هتفضل دماغك مش فايقه طول ما انتي مش بتديها مساحة تعملي حاجه بتحبيها…. يعني على حد علمي انيت بتحبي شغلك.
ابتسمت قليلاً وهي تتنهد:
-عندك حق.
-ماجد كان بيكلمني عنك امبارح وبيقول فيكي ..كلام حلو اوي.
قال جملته الاخيرة بسخرية لتضحك قائله:
-بتتريق طبعا، ده كان بيطردني من بيته اساسا ومش حابب وجودي.
-والله ماجد غلبان اوي، وطيب، هو بس عاش حاجات كتير رخمه في حياته.
هزت رأسها بالموافقه وهي تستفهم حديثه وعلاقة ماجد به:
-بس انت وماجد علاقتكم زي الاخوات بالظبط.
-انا وماجد متربيين سوا بابا طول عمره كان بيسيبني عندهم، حقيقي هو اخويا مش مجرد ابن عمي.
ابتسمت بعد ان شعرت بالاختناق من قلة الهواء، او من قلة احتوائها للموقف وما فيه، لا تريد التحدث عنه لإن حدسثه يفعل تلك القشعريره التي تسري بداخلها، تُدعى هي تلك القشعريره بأنها "فقط مجهدة" ولا تعلم إلى أين اجهادها سوف يأخذ، اتسعت نبرتها لتقول بوضوح:
-هو واضح ان علاقتكم سوا كويسه اوي، يعني انت مثلا عمرك ما تتوقع ان هو يغدر بيك؟
اشاح بنظره الى الحائط كتدليل على تفكيره وهو يبتسم بإحراج، ثم قال بنبره تساؤليه وهو يحك اسفل ذقنه:
-هو الغدر كده كده شئ محال في عيلتنا، بس مهما وصل بيه غدره ممكن ميأذنيش بل يحميني.
-واثق؟
قالتها بتساؤل ليجيبها في نبرة مؤكده وموثوقه كعينيه المستتبه تماماً:
-واثق اوي.
-طب تفتكر ممكن يغدر بيا؟
-اه.
خرجت من فمه بتلقائيه ليضحكوا اثنتيهم وهي تخرج هاتفها من حقيبتها اثر رنينه ليكون المهاتف هو ماجد.. ااااآه ياليتهم فد بعثوا بسيرة ما هو افضل، لكنها لم تأبه بذلك الاتصال وهو لم يرى ولم يتدخل بالمتصل حتمًا، لتضغط على الزر الاحمر وتكمل استماعها له، كما بدى على الحديث مريح ولم تتسائل هي نفسها (هل ما زلت اكنُّ مشاعر لحسن ام لا؟) تغير الكثير ومن التغيرات الذي هبت عليها عدم معرفة ما تريدة حول نفسها، حول شخصيتها، حول آمالها، او حتى حول عواطفها التي تميل بها الحياة للاستقرار؛ فدومًا ما يقول الفلاسفة أن مذاهب الحياة يجب ان نكون على العقل والعواطف، ان جهل شئ فيهم لم تكن لحياته مذهب يسرى عليه البقاء.. وهي نجهل عواطفها نحو اي شخص حتى ذاتها وهذا جعلها تخضع في رحلة مأساوية تجاه نفسها، تلاست تلك الافكار الذي جالت بخاطرها في ثوانٍ لتعاود التحدث بإهمال ظهر على حاجبيها المنتصبين:
-مش حد مهم، خلينا نكمل كلامنا.
أشار بيده على المقعد مبتسمًا:
-مكنتش عاوز اعزم عليكي في مكتبك انك تقعدي ونكمل كلامنا بس انا ملاحظ ان من ساعة ما دخلتي واقفه ومش راضيه تقعدي.
نظرت للمقعد وهي تلمع في افكارها بالفعل، لماذا لم تجلس حين دخلت! يبدوان الكثير بالفعل ما تغير ومتى ستتأثلم هي على التغييرات المفاجأه تلك!
ضحكت بشكل تلقائي وهي تجلس ويعمم وجهها الاحراج، تنحنح هو الاخر ليكمل حديثه:
-عادي، انا عارف اللي بتمرّي بيه، وأي انسان ممكن يعدي بيه وحقيقي هو مؤلم جدًا.
ثم اكمل بتنهيده ساخره لكن حملت في طياتها الحزن:
-معتقدس هتبقى مؤلمه اكتر من واحد ميعرفش والدته اصلاً.
اندهشت من ما وقع على مسامعها، ولكنها تجزمت على التساؤل بعد ذلك الصمت الذي دام عليها لدقائق، لتوجهه له السؤال بحيرة:
-ازاي يعني؟
-ببساطه بابا اصلا متجوزش والدتي، انتي يعتبر من العيله واسرارنا عند بعض…
قال جملته الاخيره بسخريه ليكمل فيما بعد بجديه:
-بس.. جابوني عن خطيئة اصلا، وده قبل ما يعرف مامتك زينب.
هزت رأسها بالموافقه وهي تتسائل من جديد:
-اسفه على التدخل، بس هو ايه مقربكش من مامتك؟
-بابا غامض انتي عارفه، جيت فترة اجزمت على اني مش مسامحه بس بعد كده قولت انا مليش غيره.
هزت رأسها باندهاش وهي تنظر على كمّ الاوراق من امامها، ليتشدق وهو ينهض من مقعده:
-اسيبك بقا تشتغلي و تغيري المود و تغيري دماغك وتفكيرك.
وقبل ان يضع يده على مقبض الباب وقف لينظر لتلك الجملة التي اتت بنبرة حنونة من خلفه:
-شكرًا يا حسن.
-على ايه؟
-عشان خليتني اعرفك اكتر، واعرف انك مش الشخص اللي عرفته في الاول خالص.
-دي حاجه حلوة ولا حاجه وحشه؟
قالها بسخريه لتتسارع هي بالاجابه ضاحكه:
-حاجه حلوة طبعًا.
ضحكوا اثنتيهم ثم خرج من الغرفه، لتكتمل هي مسيرة تفكيرها وليس العمل واتصلت بالاحمق ماجد، ليجيبها غاضبًا:
-بتكنسلي عليا ليه؟
-كنت قاعدة مع حسن.
-وايه مقعدك مع حسن؟
-في الشغل يعني عادي و…
وقبل ان تجيبه على اسئلته المتتاليه غضبت فيه قائلاً:
-وبعدين انت مالك ؟
-ما انا اخاف بردو تغدري عليا.
-لا يا حبيبي شغل الغدر اللي في عيلتكوا ده مش فيا ولا عليا ده انا تربية زينب اللي عمك غدر بيها.
استقام في الحديث ليضحك بصوته الرجولي ويفتت قلبها رغم ذلك كانت ضاحكاته مستفزة حد الجنون ليقول بسخريه:
-ملاحظ انك بقيتي خبرة.
-في ايه؟
قالتها بضيق ليجاوبها بصدق:
-في الردح المصري يا حبيبتي.
امسكت جماح غضبها وهي تجز اسنانها، واخيرًا بعد صمتها وضحكاته، تفوهت بغضب:
-كنت متصل ليه؟
-ممم.. بتطمن عليكي.
-وحيات امك؟
-الله يرحمها… اتكلمتي مع حسن في ايه؟
-وده يخصك في ايه يا ماجد؟
قالتها بغرور هي الاخرى ليُصدمها بإجابته كالماء المثلج على رأسها:
-هيخصني في ايه يا ملكة جمال العالم!! عاوزة اعرف كيولة تجاه الموضوع بتاع امبارح وخطتنا.
أكانت تعتقد أنه يُغار مثلًا، نعم انه شعور جميل ان تشعر بأحدهم يغار ولكن ليس ماجد يا ليلى، ليس ذلك الوغد أنه اثل ما يقال عليه حيوان بتفكير بقره وسُم افعى حادة بإحدى صحراء افريقيا، وبعدان اغلقت تفكيرها عن تلك التشبيهات أجابت بغرور قد تصنعته:
-لا اتكلمنا عن حاجات خاصه شوية.
رفع حاجبيه ولكن لحسن الحظ هي لم ترى نظراته الثاقبه، ليتنفس بهدوء قائلا:
-عامة متتكلميش مع حسن تاني وابعدي عنه.
-انت مش هتتحكم فيا.
-لاء هتحكمم فيكي، كله لأجل ومصلحتنا وخطتنا.
-ماشي يا ماجد.
اغلقت بوجهه وهو يلعن ويسبّ بها، وخرج من عرفته ليلتقي بمحمد عطوة يضع احدى الورود في فازة صغيرة مبتسم لتلك الورود بعاطفيه كبيرة وحنان ينبع من بين قلبه، ليقول ماجد من بين ضلوعه ان هذا ليس بعين رجل يمكن ان ينبع منها سلطه او شر، واقترب منه وهو يقول:
-عم محمد صباح الخير.
رمقه بإبتسامه حنونة ثم اجابه:
-صباح النور! حسن راح الشغل افطر معايا انت بقا.
-هو انا كنت عاوز انزل ادور على شغل، بس هفطر معاك الاول.

تنحنح محمد نيابة عن شيبه وسنه ليؤردف:
-ما تخلي ليلى وحسن يشغلوك في شركة عابد ابوها!
-لا لا ملوش لزوم.
-عامة يا ماجد، كنت حابب اتكلم معاك في حاجه مهمه.
هز رأسه برفق ثم جلسوا على مائدة الطعام وهو ينتظر ذلك الموضوع الهام الذي يدور بداخله ويحترق شوقًا من معرفته، ولو بيده لكان دخل بأفكاره المتهاونة وعلم ما يدور بداخلها، سم افعى متنقل ويعلم ماهيته….
يتبع….
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي