الفصل الثالث

وبعد مضي أيام العزى وفي منتصف الليل أراد"جاسر" أن يسافر من قبيلته إلى _القاهرة_ دون أن يراه أحد فأراد أن يأخذ الطفل من "الشيماء" ليوصله لبيت جدته، لكن بدأت "الشيماء" تتوسل أبوها وأخوها بأن يسمحوا لها بأخذ ابنها معها،لكن"جاسر"أنتزع ولدها بكل قوة، ثم قال لها:

-بعد خمس عشر دقيقة سنسافر من هنا.


وخرج"جاسر"وهو يحمل الطفل ولما أقترب من بيت أم"منصور" خطر بباله فكرة شيطانية فهو يعرف أن"منصور"يسكن في غرفة في طرف القرية ويكون في هذا الوقت في حالة سكر شديد،فإن أعطاه هذا الطفل في هذا الوقت فإن حياة الطفل ستكون في خطر شديد.


وبالفعل وصل الغرفة ووضع الطفل عند الباب وطرق الباب ففتح"منصور" الباب و"جاسر" واقف من بعيد،فقال"جاسر":

-ياشيطان، هذا طفلك فأعتني به.


ثم مشى وترك طفل مولود عند أب سكران يخشى هو على نفسه منه،ولكن"جاسر"كان يرجو أن يختفي أي شيء يذكر الناس بهذا العار،فحين ولدت أخته بعد ستة أشهر عرف الناس أن هناك أشياء حدثت قبل الزواج وأنما أقيم هذا الزواج من أجل أن يستر هذه الجريمة،فإن قتل"منصور" ابنه فيكون قد صاد عصفورين بحجر واحدة.


سافر"جاسر"وأبوه وأخته التي يعتقد أهل القرية أنها ماتت
إلى_القاهرة_ لتبدأ الأسرة حياة جديدة.


حمل"منصور" الطفل وهو يترنح ورمى به على الفراش وهو استلقى على الأرض ونام،وقبل شروق الشمس استيقظ بعد أن انتهى مفعول الخمر،فأخذ كل ما معه من مال ليتقابل مع صديق له من_لبنان_ يكون وسيط بينه وبين مروجي الحشيش،وترك الطفل الرضيع يبكي.


وبعد شروق الشمس اتجهت أم"منصور"لبيت أبو"جاسر" فلما وصلت وجدت"عبد التواب" وابنه"سعيد"عند البيت، بالطبع كان كل منهما يكره الاخر، فسألت أم"منصور":

- أين ابو"جاسر"؟


فأجاب أبو"سعيد"قائلا:

_ قد سافروا جميعا ولن يعودوا أبدا.


فقالت:

-والطفل؟ أين هو؟


فغضب أبو"سعيد" وقال:

- هل تحقيقين معي؟ لا شأن لي بك وبطفلك،فالذي يجب أن تعرفيه أن هذا المكان أصبح ملكي فلا تعودي هنا أبدا.


اتجهت أم "منصور"إلى بيت الشيخ"حسيب" وقالت:

- قد ذهبت إلى بيت أبو"جاسر"وقد رحلوا ولا أدري أين وضعوا حفيدي،فلقد قال لي ابنهم"جاسر" أنه سيحضره لي قبل رحليهم.


ابتسم الشيخ "حسيب"وهدأ من روع أم"منصور" وقال:

- لا تخافي الأمور ستكون على ما يرام،فأنا أعتقد أن أمه تمسكت به وأصرت على أخذه فهو الآن في أحضان أمه،وأنت يا أم"منصور" اصبحتي كبيرة على رعاية طفل.


قالت أم"منصور":

- أنا أعرف"جاسر" فلن يرتاح له بال حتى يتخلص من الطفل.

فغضب الشيخ"حسيب" من أم"منصور" وقال بإنفعال:

- إتقي الله ولا تسيئي الظن ب"جاسر" فكل ما يدور برأسك من وسوسة الشيطان.


وبينما الشيخ "سعيد"يتكلم قاطعه أحد ابناء القبيلة وكان أسمه"حسين" حيث كان خارجا بالماشية إلى المراعي التي تقع الغرفة التي يسكنها"منصور"بجوارها فسمع صوت طفل يبكي بكاء مرير،حين سمعت أم"منصور" الحديث أطلقت ساقيها للريح تركض بدون شعور، وتبعها الشيخ"حسيب"

فلما وصلت الغرفة وجدت الباب مفتوح، فدخلت الغرفة فوجدت الطفل يبكي وقد أنهكه البكاء،حملته بأحضانها وبدأت تبكي مع الطفل،فلما وصل الشيخ"حسيب" ورأي الحال أرسل الولد"حسين" إلى بيته ليحضر رضاعة،فمن الأكيد أن الطفل يبكي من الجوع.


وبالفعل بعد أن رضع الطفل سكت عن البكاء فحملته جدته إلى بيتها،بدأ الطفل بالبكاء مرة أخرى فاحتارت أم"منصور"ما ترضعه،فليست تملك سوى كم شاه لا لبن فيها،
ولكنها تذكرت ولدها"حسن" فهو قبل شهر رزق بمولودة أسماها "سلمى" فلن يرفض"حسن" أن ترضع امرأته أبن أخيه.


فذهبت لبيته والطفل معها، فلما رأى "حسن" الطفل، اسود وجهه فالكل عرف قصة"منصور" وما فعله ب"الشيماء"
فقالت أمه:

- أريد من زوجتك أن ترضع ابن أخيك مع ابنتك "سلمى".


فنكس "حسن"رأسه وقال:

- يا أمي ان هذا الطفل شرعا ليس أبن أخي لأنه تزوج أم هذا الطفل وقد حملت به.


نظرت الأم بشدة ل"حسن "وقالت:

- الآن أصبحت تتكلم عن الشرع والدين فحين تصلي الخمس الصلوات في المسجد حينها تكلم عن الشرع،خذ هذا الطفل وقل لزوجتك ترضعه ،فما يدريك لعله هو من يحامي عن عرضك وأرضك.


وكانت زوجته بالغرفة تستمع للحوار، فغضبت من كلام عمتها، فخرجت عليها وبدأت ترفع صوتها وتقول:

-هل تعتقدين أني بقرة أسقي المواليد حليب؟ وهل تريدين من طفل الشوارع هذا يصبح أخا ل"سلمى"؟ وأيضا أين كنتي من قبل فلم تحضري زواجي بابنك ولم تزوريني لما ولدت "سلمى" فلما احتجتينا اتيتي الينا ؟فأخرجي من بيتي من غير مطرود.


نظرت أم"منصور" لولدها "حسن" الذي سمع كلمات الطرد لأمه ولم يحرك ساكنا،فخرجت من بيت ابنها ورجعت لبيتها وزاد بكاء الطفل، فما كان بيدها سوى البكاء معه،فطرق الباب ففتحته بسرعة ترجو من الله الفرج،فوجدت الشيخ"حسيب" ومعه ناقة وقال لها:

-أعرف أن الطفل يحتاج لحليب ليرضعه وأنت لا تملكين مصدرا للحليب فهذه أعز وأكرم ناقة امتلكها أسميها بالبركة لغزارة حليبها فهي هدية مني للطفل.


فملأت الدموع عيني أم "منصور"وقالت:

- والله لا أملك شيء لأعطيك غير الدعاء لله بأن يوسع رزقك.


فقال الشيخ:

- ان دعائك هذا أغلى عندي من كنوز الدنيا.


ثم أستأذن للإنصراف ولكن استدار بسرعة وسأل أم"منصور":

- ما اسم الغلام؟


فقالت له:

- لم اسميه بعد،فما رأيك أنت؟


فقال:

-هو حفيدك وأنتي من لها الحق في تسميته.


فقالت:

- بل أقسمت بالله عليك أن تسمه أنت.


فقال الشيخ:

- ان كنت مسميه فأني مسميه"خالد" فأنا واثق أنه ستبقى أفعاله خالدة على ألسن الناس.


فقالت أم"منصور":

- ونعم الاسم وأنا من اليوم سيكون اسمي أم"خالد" فهذا الولد ليس بولد ابني، بل ولدي.


جلست أم "خالد" طبعا نزولا لرغبة ام"منصور" ابدلنا لها اسمها،تتأمل في "خالد"حيث يتضح أن "خالد" كان يشبه أمه أشد الشبه ،ما عدا عيناه الصغيرتان فهي كعيني أباه،ابتسمت أم "خالد"وقالت في نفسها:

- أخشى أن اتعب في تربيته ثم يصبح مثل أباه.


ثم أستعاذت بالله من هذه الأفكار،وبدأت الأيام تتوارى ليبان المخفي وتتابعت الشهور حتى وفت الأثنى عشر شهر لعمر "خالد" حيث أصبح عمره سنة واحدة.


وكالعادة كان الشيخ"حسيب" يأتي كل يومان يتفقد أم "خالد"وولدها ،فلما وصل وجد "السيف" يتكلم معها ويسألها عن احتياجاتها، فسلم الشيخ عليهما فردا عليه السلام،ثم قال "السيف":

- لا أدري أبارك لك أولا ،مع أن مولودك جاء في ظهر اليوم بينما مولودي جاء في صباح اليوم.

فقالت أم "خالد":

- بل أنا من ابارك لكما فلم أعلم إلا من كلام "السيف".


فقال الشيخ:

- لا أريدكما تباركا لي، بل أدع الله أن يبارك الله فيه ويصلحه فكلما سمعت أن أبوان رزقا بمولود إلا دعوت لهم أن يصلح لهم مولوهم ويرزقهم بره.


نظر الشيخ لأم "خالد" وهي تذرف الدمع من عيناها،فأحس الشيخ أنها فهمت كلامه خطأ فأراد أن يوضح لها،لكن قاطعته أم "خالد" وقالت:

- أنا أعرف أنك لا تقصد ولدي،ولكني فرحت بعد ولادتي بولدي ولم أكن أعلم أنه سيأتي يوم أتمنى أني لم ألدهما.


فحاول "السيف" أن يهون عليها مصيبتها فأشار إلى "خالد" وكان جالس يلعب بالتراب، بينما كانت الناقة تبعد عنه أمتار تنظر له،وفجأة أنطلقت الناقة بأتجاه "خالد" بأقصى سرعته فظن "السيف"أنها تريد أن تبرك عليه، فأخرج خنجره يريد أن يقتل الناقة،لكن الناقة بدأت تضرب بخفها على الأرض بجوار "خالد"ثم توقفت، فلما أقترب "السيف" منها وأبعدها عن الولد ونظر في المكان الذي ضربت الناقة بخفها، وجد فيها عقرب كبيرة قد ماتت من أثر خف الناقة.


فكبر "السيف" ووحد الله وقال:

- والله إن الحيوانات أكثر رحمة من البشر.


انتشر خبر الناقة والعقرب بين أهل القرية وأصبحت قصة تقال في كل المجالس،وفي أحد الأيام زار القرية بعض المصطافون فوجدوا كرم الضيافة في كل مكان ذهبوا له، بل أقام الشيخ لهم وليمة غداء ،فلما تناولوا غداءهم أبدى أحد المصطافون وكان اسمه "سامر" استياءه من مبنى المدرسة والمركز الصحي وأيضا عن الطرق الترابية.


فقال الشيخ:

- نحن كل شهر نرسل خطابات لوزارة الصحة ووزارة التعليم ولكن بدون فائدة تذكر.



أستأذن الضيوف للإنصراف للعودة لديارهم،ولما وصل "سامر" عند الباب أمسك الشيخ وقال له:

- ان أردت كل أمور قريتك تتحسن فأكتب معروض بأحتياجاتكم ثم تذهب بنفسك وتقابل الوزير فإن وصلت للوزير فثق أن كل مشاكلكم حلت.


بعد أن ودعوا الضيوف اجتمع الشيخ"حسيب" بجماعته وأخبرهم بما قاله ضيفهم "سامر"فعزموا على أن يفعلون ما نصحه به "سامر" فجهزوا معروض وسافر الشيخ"حسيب"الى_القاهرة_ وبعد أسبوع من المحاولات لمقابلة الوزير، نجح الشيخ في ذلك وأصبح في مجموعة من الناس قد اصطفوا يريدون أن يقابلوا الوزير.


وبالفعل صافح الشيخ الوزير وقدم له المعروض وشرح له حالة القرية فوعده خيرا،ولما رجع الشيخ لقريته أخبر جماعته بما فعله ،ولم يمر أسبوع إلا ومندوبي من وزارة الصحة والتعليم يزوروا القرية ويحددوا المواقع التي سيقام فيه المشاريع،وكذلك وصلت معدات من وزارة النقل من أجل صيانة الطريق وسفلتته،ولم ينتهي ذلك العام إلا والمباني جاهزة.


فأجتمع الشيخ بجماعته وذلك من أجل حل مشكلة سكن المعلمين وكذلك الطبيب وممرضيه،فأقترح أن يبنوا لهم مساكن بجوار مقر عملهم،يكونون فيه ضيوف معززين مكرمين ،وبالفعل تم الموافقة من قبل الجميع.


وزاد "السيف" اقتراح آخر أن يبحثوا لهم عن شيخ يجعلونه أمام للمسجد،وكذلك يعلم أبناءهم القرآن وقت العصر،فقال الشيخ:

- فهل تعرف شيخا يقبل أن يقوم بذلك؟


فقال:

- أعرف شيخ اسمه "محمود".


وافق الجميع على ذلك، ولكن الشيخ أضاف أن يفرغوا أحد أبناء القرية من الأعمال التي يقوم بها الأبناء من رعي الغنم أو جمع الحطب ويبقى مع الشيخ "محمود" فيحفظ القرآن ويتفقه في الدين فإن رحل الشيخ "محمود" يكون هناك أحد أبناء القرية موجود يعلم أبناء القرية دينهم،فقالوا:

-من تقترح ياشيخ"حسيب" من أولاد القرية؟


فقال:

- لا أجد أكثر من"سمير" أجدر بهذه المهمة.

فقال "السيف":

-ونعم الأختيار ف"سمير" من أكثر أولاد القرية صدقا وأمانة.


وبالفعل تم تطبيق ما قالوه في واقعهم،وبدأت الأيام تمر لتجري الحياة بعجلتها فتغير الأحداث فيصبح الفتى شابا والشاب مسنا وهكذا الدنيا.


ولن أقول لكم أن "خالد"أصبح شاب، بل أصبح عمره خمس سنوات،وأصبحت جدته او لنقول عنها أمه تعتمد عليه في كثير من الأمور،حيث كان مع الصباح يذهب للحظيرة فيطعم أمه الناقة ،لا تعتقد أني أخطأت بل هي الحقيقة التي رسخت بقلب "خالد" فهو يعتبر الناقة التي أسمها "البركة" أمه فهو يبر بها كما يبر أمه التي هي جدته.


وكان أيضا يجمع البيض لكي تعده أمه للفطور،طبعا كان هناك من أهل القبيلة وأسمه "بشير" مشهور بأنه ينتج أجود السمن حيث كان معه خمس بقرات وكانت زوجته هي من تقوم بحلب البقرات ثم إنتاج السمن،ولكن ولأن الحياة يجب لها من نهاية توفت زوجة "بشير"فأحتار ما يصنع بعدها

وجاء الشيخ"حسيب" بعد عدة شهور من وفاة زوجته يريد شراء سمن فتفاجأ أنه لا يوجد لديه شيء،فسأله:

- لماذا؟


فقال:

-أنت تعرف بعد وفاة زوجتي لم يعد أحد يحلب البقرات وبناتي رفضن أن يقمن بذلك فلم أرد إجبارهن.


فقال الشيخ:

-هل أدلك عن من يهتم بحلب البقرات وتعد السمن؟


فقال "بشير":

- من؟

قال:

- أم "خالد" اذهب لها وأعرض لها الموضوع.


وبالفعل ذهب "بشير" لأم "خالد"وتفاهم معها على الشراكة حيث يحضر بقراته في حظيرته وهو من يتكفل نفقت أكلهاوعليها أن تحلب البقر وتعد السمن والأرباح بالنصف بينهما،
وافقت أم "خالد" مباشرة فهي تريد أن تعتمد على نفسها في نفقتها.


وبالفعل بدأت أم "خالد" بالعمل وأصبحت تنتج سمن أجود من ذي قبل،وبدأت حالتها المالية تتحسن من بيع السمن وعادت الأموال تتدفق على جيب "بشير" من هذه الاتفاقية،وكان "خالد" يساعد أمه فهو من يحلب الأبقار.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي