الفصل الخامس

فلم يشعر "المشهر" إلا بشيء قد وقع على ظهره فبدأ يركض ويرفس ويتمايل يمينه ويساره حتى يسقط من على ظهره ولكن "خالد" صمد لأكثر من دقيقة، فسقط من على ظهره فأقبل عليه "السيف" فلما رفعه رأى الدماء تخرج من أنفه فتذكر ما فعل "خالد" بالثور،فأخرج "السيف" خنجره وأعطاها "خالد" وقال:


- ان كنت تريد أن تنتقم منه فأفعل لكن دعني أقيده لك حتى لا يؤذيك.

فقال "خالد":

- والله لو عرف أني رجل لما أسقطني،ولكني في يوم من الأيام سأثبت له رجولتي.

ثم قام "خالد"وقال:

- لا تنسى ياعمي "السيف" وعدك أن تمنحني خيل يكون أبوه "المشهر" إن أنا حفظت القرآن.


ثم ذهب لبيته وهو يفكر كيف يمكنه أن يركب "المشهر"،وبعد ستة أيام وصل الشيخ "محمود" وقام أهل القرية بضيافته وإكرامه،ثم تكلم الشيخ "حسيب" نيابة عن قبيلته عن ماذا يريدون من الشيخ"محمود" فقال:

-نحن نريدك أن تصلي بنا وتخطب فينا يوم الجمعة، وأيضا تعلم أبناءنا القرآن ،وايضا سنجعل هذا الفتى اسمه"سمير" يلازمك فنريدك أن تحرص عليه أكثر فتعلمه كل ما لديك حتى إذا رحلت بعد خمس سنوات يصبح هو غرسك الصالح الذي ينوبك وبإذن الله أن لا يحرمك الأجر.

وبالفعل بعد أن استقر الشيخ "محمود" بدأ في العمل،حيث قام بتقسيم ابناء القرية إلى حلقتين ،حلقة أسماها حلقة "أبوبكر" جعل فيها الطلاب الذين لم يدخلوا المدرسة،والحلقة الثانية أسماها "ابن الخطاب" وجعلها للطلاب الذين قد التحقوا بالمدرسة.


وبالفعل بدأ الشيخ "محمود" يتعرف على الأولاد وبعد أن مازحهم قليلا،بدأ بحلقة "أبوبكر" حيث كان "خالد"أحدهم فبدأ الشيخ بقراءة سورة الناس وهم يستمعون له، فبعد أن انتهى رفع "خالد" اصبعه ،فقال الشيخ "محمود":

- نعم.

فقال" خالد":

_أريد أن اسمع سورة الناس.


فقال الشيخ "محمود":

- هل تحفظها من قبل؟


فقال" خالد":

- لا،بل حفظتها من بعد أن قرأتها.


فقال الشيخ:

-أقرأ.


فقرأ "خالد" قراءة مرتلة ومجودة جعلت الشيخ يقول:

- ما شاء الله.

ثم قال له الشيخ:

- انصرف فقد أنتهى المطلوب منك.


فذهب "خالد" لإسطبل الخيول ،فوجد "السيف" يجهز السروج على ثلاثة من الأحصنة،فسلم "خالد" فرد "السيف"السلام وقال:

- لماذا تركت الحلقة؟


قال "خالد":

-لم أتركها ،ولكن الشيخ أذن لي لأني سمعت له سورة الناس.


هز "السيف"رأسه وقال :

-اذا تعال أدربك على الفروسية.


فأراد "السيف" أن يحمله على الخيل، ولكن "خالد" رفض أن يركب خيل عليه سرج،فقال "السيف":

- إذا سأحضر لك "الحوت ".


وكان هذا أسم خيل انجليزي كان يمتلكه "السيف"،وبالفعل بدأ "السيف" يهرول بالخيل و"خالد" فوقه،فقال "خالد":

- ياعم علمني ما أفعل ثم أتركني.


فبدأ "السيف" يعلمه الحركات التي يفهم منها الخيل ما يريد راكبها منها،وبعد أكثر من خمسة وأربعون دقيقة جاء الأولاد الباقين،فقال "السيف" ل"خالد":

- سأتركك لأعلم البقية.


فقال "خالد":

- لا تخف علي.


وبينما كان "السيف" مشغول بتعليم الأولاد ركوب الخيل،بدأ "خالد" يحاول أن يجعل الخيل تركض بأقصى سرعة، فبدأ يضربها برجليه دون فائدة،فأوقف الخيل ونزل واخذ عصا ثم أمتطى الخيل فضربه بالعصا فهاج الخيل وبدأ يركض و"خالد"كان يحاول أن يسيطر على الخيل، لكن جسمه الصغير حال دون ذلك،فوقع من على ظهر الخيل ،ولكنه لم يتأذى،لكن "السيف" غضب وحرم "خالد "ثلاثة أيام من ركوب الخيل.


وبالفعل بقي "خالد"محروما من ركوب الخيل ،وكان يجب عليه أن يبقى مع الشيخ "محمود" لساعة كامله حفظ خلال هذه الأيام نصف جزء "عم"،وبعدها أصبحت الأيام كأنها روتين بالنسبة لحياة"خالد".


كان مع الصباح يساعد أمه وفي العصر يبقى مع الشيخ ربع ساعة يسمع ما يسمعه من الشيخ، ثم يذهب بعدها يتعلم ركوب الخيل،وبعد مرور سنتان أصبح "خالد" حافظا للقرآن ،وأيضا فارسا لا يشق له غبار،فما كان من "السيف"إلا أن يوفي بعهده،فقال "السيف" ل"خالد":

- لم أكن أعتقد أنك ستحفظ القرآن في سنتين ولهذا لم أعد الأمر، ولكن أنت خذ الآن "الحوت"مؤقتا حتى أجد فرسا تلفت الأنظار ،ثم أجعل "المشهر" يضربها فبإذن الله يأتي لك خيلا يعرفه القاصي والداني من أهل القرية،فوافق "خالد".


فى ذلك الوقت افتقد الشيخ "محمود" "خالد"فسأل زملاءه عنه فقالوا أنه قال أنه أكمل حفظ القرآن فلا داعي من أن يأتي إلى الحلقة،بعد أن أنتهت الحلقة ذهب الشيخ "محمود" لإسطبل الخيل ،فرحب به "السيف" فقال الشيخ:

- أعرف أنك مشغول فلا تشغل نفسك بي،فأنا أريد "خالد".


فنادى "السيف'" خالد" ثم أستأذن،فبدأ حديثا بين "خالد" والشيخ "محمود"فقال له الشيخ:
- لو رجل كان يملك ناقة وكان يتصدق بنص حليبها للفقراء
وشخص آخر معه مائة ناقة وكان يتصدق بحليب ناقة كاملة على الفقراء،فمن منهما كريم؟

فقال "خالد":
- بالطبع صاحب الناقة،أما صاحب المائة ناقة فوالله أنه لا يستحق نعمة الله عليه.

فقال الشيخ:
- إذا أنت صاحب المائة ناقة.
قال" خالد":
- كيف ذلك؟
قال الشيخ :
-لقد هباك الله نعمة الحفظ فحفظت القرآن في سنتين، بينما أكثر طالب من زملائك والذي يكبر عنك بأكثر من ست سنين بل يلازمني أكثر منك، لم يحفظ سوى خمسة عشر جزء وأنت تعرف أني أقصد"سمير".

فقال "خالد":
-ماذا إذا تريدني أن أفعل؟

قال الشيخ:
-أنت الآن حفظت القرآن بقراءة حفص، وبقي عليك ست قراءات.

فوافق "خالد"،فلما وصل "خالد" للبيت أخبر أمه بما قال له الشيخ "محمود" فقالت:
- اني لا أمنعك من الخير،لكن أنت يجب أن تتجهز، فأنت ستذهب بعد أسبوع للمدرسة.

وبالفعل بدأ أول أيام المدرسة وبدأت التحديات تواجه "خالد" والصعوبات تعترض طريقه، لما دخل "خالد" الفصل، جلس على الكرسي الأخير،لا تعتقد أن الفصل كان مزدحما؛ فكل طلاب المرحلة الابتدائية لا يتجاوزون الثلاثين،بينما فصل "خالد" عددهم خمسه فقط.

بالطبع دخل "خالد"مع زملائه ،ولكن كانوا سببا في تغيير مفاهيمه،حيث أن الأربعة الأخرون هم "مروان عبد الرازق " ولا تنسى اسم هذا الفتى،وأيضا أبناء خالته "ياسر" و "وليد" و"متعب".

بالطبع كان "مروان" ذو شخصية عصبية وذا طباع صعبة وكان عنيف في تعامله مع الأخرين وكان الآخرون يخشونه فلا يحاولون استفزازه بل طاعتهم له عمياء.

وبالطبع كعادة المدارس في القرى النائية لم يأتي مدرس ليدرسهم،حيث أمضى "خالد" أسبوع كامل يحضر للمدرسة دون فائدة،بل في أحد الحصص دخل مدرس وأختار"مروان" عريف وأمره أن لا يتحرك أحد من الطلاب.

فبدأ"مروان" يهدد أي طالب يتحرك من مكانه بالضرب،جلس "خالد" صامت ومرسمته بيده يرسم بها ،ولكن ملت نفسه من الرسم فوضع مرسمته على طاولته، لكنه حرك طاولته فسقطت المرسمة، فأراد أن يأخذها من الأرض، فتعرض لضربة في رأسه ،فلما التفت رأى أمامه "مروان"وهو يريد أن يضربه مرة أخرى ،حينها استوى له "خالد" ثم بدأ يضربه ضربا حتى شوه وجهه من اللكمات.

وفي اليوم التالي جاء "عبدالرزاق"للمدرسة وأقام الدنيا ولم يقعدها وتم معاقبة "خالد" بعشرين جلدة على اصابعه، حيث كان المدير يضربه بكل قوة لكي يبكي فيشفون غليل "عبدالرزاق"، لكن في العشر الأولى كان "خالد" يبتسم ،فغمز المدير لأحد المدرسين ففهم المدرس فتدخل واستأذن بأخذ "خالد" لبرهة قبل العشر الأخرى.

فلما أخذه المدرس لمكان لا تراه عيون "عبدالرزاق" وتعجز عن سماعه آذان "عبدالرزاق"فقال المدرس:

- اسمع يا "خالد" نحن لا نريد ضربك ولكن نفعل ذلك من أجل أن نكفيك من شر"عبد الرازق"فإن ضربك المدير فأبكي وتظاهر بالوجع.


فقال "خالد":

- ما كنت لأبكي حتى لو قتلتوني.


حاول المعلم بشتى الطرق، لكن فشل فأخذه إلى المدير وأشار له بأن لا فائدة،فبدأ المدير يضربه بأقوى ما يملك من قوة ، لكن لم تنزل ولو نصف دمعة من عيني "خالد"،خرج "عبدالرزاق" والشر في عيناه.


بالطبع في وسط هذه المعمعة وصل معلمنا المنتظر وكان لهذا المعلم أثر كبيرا على حياة "خالد"،أولا أحكي لكم عن موجز لحياة "وائل"،وهذا اسم المعلم الجديد،حيث كان يملك طموحات كبيرة، حيث كان يدرس بقسم اللغة العربية ويرجو أن يصبح معيد بالجامعة ،حيث أن معدله ممتاز والأول على الدفعة ،وهذان أمران يساعدانه على الترشح ليصبح معيد بالجامعة،ولكنه أحس أن هناك أيدي خفية(واسطة)أخذت منه هذا الحق،فما كان منه سوى التقديم على الوظائف التعليمية،وبالفعل تم قبوله.


كان "وائل" يرى من حقه أن يتم تعيينه داخل المدينة لارتفاع معدله الجامعي،ولكن ما أحس به "وائل"سابقا أحس به مرة أخرى ،الواسطة الظالمة أدخلت من هم دونه للمدينة وأخرجته هو خارج المدينة ،بل في قرية نائية، فلما وصل "وائل" للقرية ،شعر بأنه تم ظلمه ،فأصبح يكره كل شيء يقابله في القرية،بل أصبح يسخر ويستهزء بكل ما تقع عيناه.


فلما دخل على المدير وبعد أن انتهوا من كلمات الترحيب، بدأت كلمات الشد والحط تظهر على الأفق،حيث قال المدير:

- لم يتبقى سوى الصف الأول فعليك أخذ جدولهم.


بالطبع "وائل"رفض أشد الرفض، كيف يقبل ذلك وهو من كان يريد أن يبحر في أعماق اللغة العربية، يصبح مدرسا يدرس اطفالا ألف وباء وتاء وباقي حروف الهجاء، فرفض استيلام الجدول.


نعود إلى "عبدالرزاق" الذي لم يشفى غليله بعد، فخطر على باله خطة، وهو أن يحكي لابنه "مروان" قصة "منصور" و "الشيماء" وما وقع بينهما، بل حدد له الموقع الذي وقع فيه ما حصل ،وأيضا أضاف أن هذه العجوز التي تدعي أنها أمه هي جدته، حيث التقطته من الشوارع قبل أن تأكله الكلاب.


وبالفعل في اليوم التالي ولما أصبحوا في الفصل، بدأ"مروان" يحدث زملاءه في الفصل عن قصة أبو "خالد" وأمه الحقيقيان و"خالد"كان يسمع كلمات لم يفهمها مثل اغتصبها، فحملت زنا، ولد شوارع،فبدأ يفكر في كلام "مروان" هل هو يقول الحقيقة؟


اثناء ذلك فتح باب الفصل فإذا بالأستاذ "وائل" يدخل الفصل بعد تدخلات من المدرسيين تم من خلاله وضع جدول يناسب "وائل" للموافقة على تدريس الصف الأولدخل وجلس وبدأ ينظر في الطلاب ،وبعد عشر دقائق من النظرات القاسية التي وجهها الأستاذ "وائل" لطلابه بدأ يسألهم عن أسمائهم حتى وصل الدور ل"خالد" ولكن كما قلت سابقا كان "خالد" شارد الذهن ،فلما ظل "خالد" صامت.


نظر له الأستاذ "وائل" بعنف ثم أخرج كلمات ستبقى لاصقة ب"خالد" حتى الممات حيث صرخ وقال:

-هي أنت يا ذو العيون الصغيرة.


حينها أستيقظ "خالد" من شروده وعرف عن نفسه،ثم انتهت الحصة الأخيرة ،حيث أن "وأئل" رفض الدخول في الحصص الأولى حتى أقنعوه زملائه المدرسيين ووعدوه أن لا يستمر فيها فقط يمسكها لبضعة أسابيع.


خرج "خالد"وفي رأسه سؤال واحد:

-هل ما قاله "مروان"صحيح؟


بالطبع اتجه "خالد" إلى أمه مباشرة ليسألها سؤال واحد:

-هل هي أمه أم جدته؟


فتعجبت أم "خالد"وقالت :

-من قال لك مثل هذا الكلام؟


فقال:

-"مروان"، بل قال أيضا أن أبي أغتصب أمي وحملت بي أمي زنا وأنا ولد شوارع ولا أدري ما تعني هذه الكلمات.


فعرفت أن "عبد الرزاق" هو من علم ابنه هذا الكلام،فاتجهت مباشرة في وقت الظهيرة إلى الشيخ "حسيب" فأخبرته بما قاله ابن "عبد الرزاق" وأصرت على الشيخ أن يذهب معها إليه الآن،فأراد الشيخ أن يأخذ بخاطرها فذهب معها مع أنه ليس وقت زيارة.


فطرق على بيت "عبدالرزاق" فأيقظوه من نومه ،فلما أفاق وخرج عليهم،قال الشيخ"حسيب":

- ما حدث من ابنك من كلام لا يمكن أن يصدر من طفل بل لا يعلم ما معناه فكيف يقوله؟


فأمسك "عبدالرزاق" بيد الشيخ"حسيب" وبدأ يبعد به عن أم "خالد" حتى لا تسمع ما يقول،فبدأ يلوم الشيخ لمجيئه في هذا الوقت وقال:

- اعلم أن هذه العجوز هي من أتت بك في هذا الوقت ولست أشره على العجوز ولكن أشره عليك تأتي في هذا الوقت لمجرد مشاكل حدثت بين أطفال.


فما كان من الشيخ "حسيب" إلا أن انصرف وهو يشعر أن "عبدالرزاق"لا ينفع معه لغة الحوار،فلما رأت أم "خالد" ما فعله الشيخ عادت للبيت،وأمسكت ب"خالد" وقالت:

- إن عاد هذا الغلام وقال هذا الكلام فأضربه وشوه وجهه مرة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي