الفصل الثاني عشر

في صباح اليوم التالي أستيقظ "منصور"مبكرا، ولكنه لم يجد ولده موجود في البيت،فلما سأل أمه قالت:

-ذهب للمدرسة.


فذهب "منصور" للمدرسة، فسأل عن ولده،فدلوه على الفصل، فلما طرق باب الصف وفتح المعلم الباب،طلب"منصور"من المعلم أن يسمح ل"ذو" أن يذهب معه،فقال المعلم:

- هل أنت أبوه؟


فقال"منصور":

- نعم.


فبدأ المعلم يثني على"ذو" وعلى عبقريته،ولكن"منصور" قاطعه وقال:

- أنا مستعجل وأمور ولدي في المدرسة لا تهمني،كل ما يهمني أن يصبح ولدي رجل بما تعنيه الكلمة.


ثم نظر"منصور"لولده وقال:

- أترك حقيبتك عند أحد أصدقائك.


وبالفعل ترك "ذو"حقيبته وخرج مع أبيه،وقال"منصور"لإبنه:

-ألم أقل لك أننا غدا سنذهب؟


قال"ذو":

-كنت أحسبك تقصد بعد صلاة العصر.


فضحك "منصور"وقال:

-إن هذا المشوار سيكون أطول مشوار في حياتك.


وبدأ"منصور"وإبنه يخرجان من القرية ويصعدان من جبل وينزلان آخر،حتى وصلا إلى جبل مرتفع جدا له قمة من المستحيل تسلقها،فلما بدأ يتسلقان الجبل،قال"منصور" لابنه:

-هل تعرف اسم هذا الجبل.


فقال "ذو":

- لا.

فقال" منصور":

- يسموه أهل قريتنا "جبل الخرافة"أتعرف لما يسموه بهذا الإسم؟


قال "ذو":

- لا.


فقال "منصور":

-لأنهم يعتقدون أنه من الخرافة أن يستطيع أحد أن يتسلقه،أما أنا أسميه "جبل الشجعان" أتعرف لماذا؟


فقال "ذو":

- لماذا؟


فقال "منصور":

- لأن قمة هذا الجبل لا تسمح لأي جبان أن يتسلقه،فحين يصل رجل جبان إلى نصف هذا الجبل ويرى وعورة الصعود، فهو يعلم تماما أن السقوط من أعلى الجبل يعني الموت فيتراجع من حيث أتي.


فلما وصلا"منصور"وإبنه إلى الأماكن الوعرة،نظر"منصور" إلى إبنه وقال:

- أجبان أنت فنرجع أو شجاع أنت فنمضي قدما.


فقال "ذو":

-لو كان الموت ينتظرني في أعلى الجبل فسوف أصعده.


فأمسك "منصور" بالتميمة التي كان "ذو" يضعها على رقبته،ثم قال:

-أعرف أن جدتك من أعطتك هذا،واتعجب منك كيف تصدق كلام عجوز جاهلة؟ فهذه التمائم لن تنفعك ولن ترد الضر عنك، بل هاتان.


وأشار إلى يديه وقال:

_ هما اللتان سترد عنك الضر وتجلب لك النفع.
فقال "ذو":

- أنا أعلم أن هذه التمائم لا تنفع ولا وتضر، وأعلم أن جدتي جاهلة، وأعلم أيضا أنك أجهل منها، فإن يداك لن ترد ضر ولا تجلب نفع، وإنما الله وحده هو الذي إن شاء ضرك وإن شاء نفعك.


فنظر"منصور" إلى إبنه بإستغراب وقال:

- ما دمت لا تؤمن بها فلما تضعها في رقبتك؟


فقال "ذو":

- من أجل أن أريح قلب جدتي.


وبدأ"منصور"بالصعود وإبنه خلفه،و"منصور"مسرور وهو يقول:

-ما أجمل أن تصعد قمة وتشعر أن الموت يحيط بك من كل مكان!


فقال "ذو":

- لا أعتقد أنك ستكون مسرورا أن ضمك الموت الذي يحيط بك.


فلما وصلا القمة شعر "ذو" أن حياته ردت من جديد وقال في نفسه:

- أن هذا الرجل يملك من الشجاعة عشر ما أمتلكه.


ثم بدأ "منصور" يصرخ بأعلى صوته ويقول:

- اااااه.


و"ذو" يناظر له بتعجب، فلما سكت"منصور"قال "ذو":

- ما الذي حملك على فعل هذا؟


فقال "منصور":

-سأخبرك بشيء لم أقله لأحد غيرك، إني في أغلب الأحيان أشعر بضيقة تكاد تقتلني وأنا أعرف أنك ستقول أنها المعاصي، ولكن رجل مثلي سلك طريقا لا يمكنه الرجوع منه، فإن صراخي هذا يخفف شيء من الضيق هنا.


ثم أشار"منصور" وقال لإبنه:

-أنظر لذلك الجبل.


فقال "ذو":

-أتقصد "جبل الموت"؟


فقال"منصور":

- إذا أنت تعرفه؟


قال "ذو":

- نعم فهذا الجبل يقع تحته مرعى لقبيلتنا،ولكن قبيلة الشيخ"سيناوى" دوما يعتدوا علينا فيه،ولقد حدث نزاع، لكن أحد شيوخ القبائل حلوا المشكلة.


فقال "منصور":

- ألم يحدثوك عن المعركة التي صارت فيه؟


قال "ذو":

- نعم ويقولون أن فروسية "السيف" هي التي أجبرت قبيلة الشيخ "سيناوى" على الهرب.


فقال "منصور":

-إنهم يكذبون.

ثم أشار إلى كومة من الحجار المرصوصة وقال ل"ذو":

- أبعد تلك الأحجار وأحفر تحتها.


فلما حفر "ذو" وجد صندوقا فقال"منصور":


-أفتحه.

فلما فتحه وجد أسلحة وذخيرة فقال:

- أخرج واحدا منها.


وبالفعل أخرج "ذو"أحد الرشاشات وأعطى أباه،ثم قال"منصور":

- كنت نائم في فصل الشتاء في قمة هذا الجبل،وقبل شروق الشمس سمعت أطلاق رصاص، فلما أمعنت النظر رأيت خمسة رجال قد تمركزوا في "جبل الموت" ولم أكن أعرفهم
وكانوا يطلقون النار على رجالا تحتهم، فلما سمعت صوت أحدهم وهو يقول لأصحابه:


- أجعلوا من الصخور حماية لكم من الرصاص.
فعرفت صوت ذلك الرجل كان" السيف"فأخرجت رشاشي وبدأت أصيب من كان على "جبل الموت" حتى قضيت عليهم،وبعد أن شعر "السيف" أن لا أحد في "جبل الموت" صعد فرأه أصحابه فاعتقدوا أن "السيف" هو من قضى على الرجال الذين كانوا يتمركزون على "جبل الموت" فسألوا "السيف":


- كيف فعلت ذلك؟


فقال:

- وجدتهم مقتولين.


لكن أفراد القبيلة أعتقدوا أن "السيف" لا يريد أن يظهر بالمظهر البطولي، فلما جئت إلى القرية وأخبرتهم بما فعلته لم يصدقني أحد وصار"السيف" فارسهم المحبوب وصرت أنا المجرم المنبوذ.

نظر"منصور" إلى إبنه وقد شعر أن إبنه لا يصدقه فقال:

-حتى أنت يا "ذو" لا تصدقني، هي بنا لنبحث عن صيد نأكله.


فنزل"منصور"وإبنه الجبل ووصل مكان منبسط فقال"منصور" ل"ذو":

- انتظرني هنا.


وبدأ"منصور"يبحث عن صيد حتى وجد ثعبان طوله لا يتجاوز المتر فأمسكه وجاء به إلى "ذو" فقال "ذو":

- هل تريدنا أن نأكل ثعابين؟

فقال "منصور":

-لا أريدك تأكل الثعابين ولكن أن أردت أن تبقى حيا فكل منها لأننا سنبقى هنا لعدة أيام.
ثم قال:

- ما دمت أني أمسكت الثعبان فإن عليك أن تجمع الحطب.


فذهب "ذو" يجمع الحطب فوجد مجموعة أخشاب مركومة على بعضها،فلما أراد أن يأخذها سمع صوت كصوت الثعبان

فالتفت فرأى هذا الثعبان الكبير الذي يفتح فمه ليخيفه، لكن كل محاولات الثعبان من أجل إخافة قلب "ذو" فشلت، فأمسك "ذو" به وجاء به لوالده، فلما رأه والده أندهش وبدأ يقارن ثعبانه بثعبان "ذو" فوجد أن ثعبانه ليس إلا كالطفل الرضيع بجوار الرجل البالغ فرمى "منصور" بثعبانه وقال:

- ما دمت أنك أمسكت بالثعبان فعلي أن أجمع الحطب.


وبالفعل أكل "منصور" و"ذو" من الثعبان ثم بدأ ينظفان لهما مكانا لكي يناما فيه،أستلقى "ذو" وبدأ ينظر للسماء ليشعر ولأول مرة قول الله تعالى:

(ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح)

واصبح يتأمل في النجوم حتى نام، وفي صبيحة اليوم التالي نهض "ذو" ورأى أباه يضع الرصاص بالرشاش فسأله "ذو":

-ماذا تفعل؟


فقال "منصور":

-أقطع البصل.


عرف "ذو" أن سؤاله ساذج،فسأله بصغية أخرى:

- لما تملأ مخزن الرشاش بالرصاص؟

فقال"منصور":

-من أجل أن أعلمك الرماية.


شعر "ذو" بالسعادة ،ثم أخذ "منصور" بعض الرصاصات وقال ل"ذو":


- ضعها على تلك الصخرة البعيدة.

فقال "ذو":

- هل تريدنا أن نرمي الرصاص من هذه المسافة البعيدة؟


فقال "منصور":

- أفعل ما أمرك به وأنت صامت.


وبالفعل وضع "ذو" الرصاص على الصخرة وعاد لأبيه،ثم أعطى "منصور"إبنه الرشاش وبدأ يعلمه كيف يسدد، فعليه أن يكتم أنفاسه لكي يتحكم بتوازنه، وحاول "ذو" عدة مرات ثم قال:

- أعتقد حتى أنت لن تستطيع إصابتها.


فأخذ "منصور" الرشاش من يد إبنه بسرعة خاطفة وبخمس طلقات أصاب الخمس رصاصات،فاندهش "ذو" من مهارة أبيه،ولما نظر "ذو" لأبيه رأى إبيه يمد له بخمس رصاصات ويشير برأسه أن ضعها على الصخرة.


فاستمر "ذو" وأبيه على هذا الحال لمدة خمس أيام،وفي اليوم السادس أصبح "ذو" يستطيع أن يرمي الرصاصات فقال أبيه:

-حقا أنت معجزة، كيف أستطعت أن تصيب هذه الرصاصات بهذه السرعة؟

لكن "منصور"قال ل"ذو":

- لا تفرح فإن هذه البداية فقط.


ثم نهض وأتجه إلى الصخرة وكان في جيبه إبرتان فأخرجهما، فبينما كان يحاول أن يثبت الإبرة الأولى جرحته الإبرة الثانية، فمسح بها الدم الذي خرج من إصبعه،ثم ثبتها بجوار الإبرة الأولى،ثم رجع لإبنه "ذو" وقال له:

- ركز فأنت سترى شيء يلمع من أشعة الشمس إنها إبرتان ثبتهما هناك فصوب عليهما.

فقال "ذو":

- هل أصيب الإبرة التي فيها الدم أو الإبرة التي ليس عليها دم؟


فأندهش "منصور" وقال:

- هل تميز الإبرة التي بها دم والتي ليس بها دم؟

قال "ذو":

- بكل وضوح.


فأبتسم "منصور" وقال:

- أن هاتان العينان الصغيرتان ليست عينا بشر بل عينا صقر.


ولم تمضي ساعة واحدة إلا قد أصاب "ذو" الإبرتان،فأبتسم "منصور" وقال:

- ليس بعد فالأهداف في العادة لا تكون ثابتة.


فأمسك عودان وثبتهما على الصخرة، ثم أتى بعود ثالث ووضعه عليهما، ثم ادخل خيطا في الإبرة وربطها في العمود الثالث بحيث أن الرياح ستحرك الإبرة يمينا ويسارا، ثم بدأ "ذو" يحاول أن يركزعلى الإبرة، لكن دون جدوى، فنظر"ذو" لأبيه وكأنه يريد منه أن يساعده فقال"منصور":

- لا تركز على الإبرة، بل ركز على مسارها، فإن اتجهت يمين فأطلق الرصاصة في المكان الذي ستمر منه.


وبالفعل بدأ "ذو" يركز طلقاته على المكان الذي ستمر منه الإبرة وبعد مضي ساعات أصاب "ذو" الهدف، ثم أعاد"منصور" له الإبرة،فيحاول "ذو" أن يصيبها فيخطئ عدة مرات ثم يصيبها،حتى أن "منصور" لما أعاد الإبرة الخامسة أصابه "ذو" بطلقة، ثم أعادتها "منصور" فأصابها "ذو" بطلقة واحدة،فأعادها "منصور" فأصابها "ذو" مرة أخرى بطلقة واحدة،حينها قال"منصور":

-لم تعد إصابتك للإبرة المتحركة بصدفة، بل مهارة كم أنت مذهل يا "ذو" تعلمت كل هذا في ثمانية أيام.


عاد "منصور" وإبنه للقرية وكانت أم"منصور" قد أشغلت الجميع عن "ذو" فهي تخشى أن يغضب "ذو" أبيه فيقتله، فلما شاهدت أم"منصور" "ذو" يمشي مع أبيه وهو يبتسم شعرت أن في الأمر غرابة، فلما وصلا إليها أمسكت أم "منصور" ب"ذو" وسحبته عندها وسألته:

-أين أخذك أبيك؟

فقال:

- قد علمني أبي الرماية ،حتى أني أصبحت أصيب الإبرة وهي تتلاعب بالهواء.


إستأذن "منصور" أمه وذهب لصديقه"مختار" فلما تقابلا أخبره بما حدث ثم قال:

-أصبحت الآن في مشكلة، فلم أعد أملك شيء أعلمه له.

فضحك"مختار"وقال:

- بلى لا زلت تملك شيء تعلمه له.

فقال"منصور":

- ما هو؟


فقال "مختار":

-هذا.

ثم رفع كأس الخمر الذي بيده وقال:

- وأيضا العبث بالنساء.

فضحك "منصور" ضحكا شديدا وقال:


- يا لك من شيطان! أتريد أن أعلم أبني على شرب الخمر والعبث بالنساء؟

فقال "مختار":


-الست تريد أن يصبح إبنك قريب منك وإلا يأخذه منك الشيخ"حسيب"وجماعته؟

فقال:


- نعم.


فقال"مختار":

-علمه ما أنت تفعل فإن عرف الشيخ "حسيب" وجماعته أن إبنك "ذو" أصبح سكيرا فسوف يقاطعوه كما فعلوا معنا.


فهز"منصور"رأسه وقال:

- صدقت صدقت.


وبدأ "منصور" يفكر كيف يجعل من ولده صورة مطابقة له،فطرأت في باله فكرة، فذهب لصديقه"مختار" وقال:

- له سوف نجتمع اليوم في الغرفة وسوف نغتاب أخوك "عبدالرزاق" أمام "ذو" فمن المؤكد أن "ذو" سيخرج كل ما في قلبه على أخيك وبعد أن ينتهي، أعطيه كأس خمر وقل له أشرب يا بني لتنسى آلامك وهمومك.


فأبتسم"مختار" وقال:

- أن الشيطان نفسه لا تطرى على باله مثل أفكارك يا معلم الشياطين.


وفي المساء ذهب"منصور" وإبنه إلى الغرفة وبقي "منصور"ساكت ينتظر قدوم "مختار"وبالفعل حضر"مختار" والغضب واضح على وجهه،فسأله "منصور":

- ما بك يا رجل؟


فقال "مختار ":

-دع ما في قلبي لتجرحه ولا تجعلني أخرجها فانفضح.


قال "منصور":

-أف لك يا "مختار "هل بين الأصدقاء فضائح أفصح ما في قلبك.


فقال "مختار":

-أخي "عبدالرزاق".


فقال :

- ما به؟


قال "مختار":

-إنه رجل جشع في هذه الدنيا ويردني أن أصبح مثله، يريدني أن أصحو مع الصباح وأهتم بالمزارع وأيضا أشتري ماشية وأهتم بها، يريد مني أن أصبح مثله ألهث خلف هذه الدنيا الفانية.


فقال"منصور":

- دعك من هذا الأخ الفاسد فإني منذ عرفته وأنا أكره وأبغضه ولا أحب رؤية وجهه النتن.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي