الفصل الخامس عشر

رفع"منصور" القطعة النقدية وما لبث ثواني إلا والقطعة تطير من يده فقد أصابها "ذو" ثم قال "منصور":

- أن قمتم بخيانتنا فسوف تهلكون أنفسكم.


قال زعيم العصابة:

- نحن نريد المال مقابل البضاعة ولا نية لنا في خيانتك وأعلم أنه أيضا لدينا رجال يصوبون بنادقهم على رأسك أن أحسوا منك خيانة.


ثم تبادلوا البضاعة، فأراد "مختار" أن يتأكد على ما تحتويه الحقيبة، لكن "منصور "قال:

- دعنا نغطي بأجسامنا على الحقيبة.


فقال "مختار":

- لماذا؟


فقال "منصور":

- من أجل أن لا يراها "ذو".


فقال "مختار":

-وهل يستطيع أبنك أن يراها من هذه المسافة وفي هذه الظلمة؟


قال "منصور":

-أصبحت اؤمن أن "ذو" ليس شخصا طبيعيا.


فقال "مختار":

-سأنفذ ما تقول.


وبالفعل تأكدوا من صحة البضاعة وعادوا إلى الغرفة قبل شروق الشمس وبدأ يحتفلون بهذا الإنجاز و"ذو" كان ينظر لهاتان الحقيبتان التي وصفهم أباه أنها أكبر عملية سيقوم بها
فبدأ الشك يدور في عقله فقام وقال:

- سأعمل لكم حليب.


ثم أخذ علبه الحليب وفتحها وبدأ يدخل يده فيها حتى عثر على الحبوب التي طحنها، ثم فتح الكيس وسكبه على الحليب
كان "منصور" يراقب "ذو" فخشي أنه يريد أن يضع شيء في الحليب فقام وقال:


- ساساعدك.


وكان يريد مراقبته وبعد أن سخن الماء بدأ "ذو" يأخذ بالملعقة من علبة الحليب وكان يغرف من المكان الذي سكب فيه الحبوب المطحونة، لم يشعر "منصور"بذلك فلما أنتهى شعر"منصور" أنه لا يوجد شيء في الحليب، وبدأ الجميع يشربون بشراهة.


وبعد أقل من نصف ساعة بدأ الجميع يتساقطون من النوم وشعر"منصور" أن "ذو" قد فعل فعلته، فبدأ يمشي بصعوبة حتى وصل إلى الحقيبتان وأحتضنهما ثم نام، أنتظر "ذو" لعشر دقائق أخرى ثم انتزع الحقيبتان من تحت أباه فلما رأى ما داخل الحقيبتان دهش، فالحقيبة تحتوي على هروين وليس رصا، فخرج خارج الغرفة ثم أشعل حطبا كثيرا ثم وضع الحقيبتان فيه، ثم أسند ظهره على جدار الغرفة ونام.


ومع آذان الظهر استفاق "ذو" وقام ينظر إلى الحقيبتان التي قد التهمتها النار، وفي نفس الوقت استفاق "منصور" وبدأ يبحث عن الحقيبتان فلم يجدهما، ثم بحث عن "ذو" فلم يره، فخرج من الغرفة فرأى إبنه واقف ينظر لبقايا النار، فلما أقترب "منصور" منه رأى بقايا الحديد من الحقيبتان،فقال:

-هل فعلتها يا "ذو"؟

فقال "ذو":


- لا أحد يستطيع أن يخدعني.

فقال "منصور":

- وأنا أيضا لا أحد يعبث معي، تذكر يا "ذو" أنك من بدأت وأقسم لك أنك ستندم.


نظر "ذو" لأبيه وقال:

-هل ستقتلني؟


قال "منصور":

-لا بل سأقهرك.


فأبتسم "ذو" وقال:

- لا أملك شيء تقهرني به.


قال "منصور":

-الأيام بيننا.


ذهب "ذو" إلى بيت جدته، وبعد نصف ساعة استفاق "مختار" فلم يجد "منصور" ولا إبنه ولا الحقيبتان فخشي "مختار"أن "منصور"قد خانه، فخرج مسرعا فرأى "منصور"واقف بجوار نارا قد خمدت فأقترب منه وقال:

- ما بك؟


فنظر له "منصور" وقال:

-ألا ترى؟


فنظر "مختار"وقال بتعتعة:

-هل هذه الحقيبتان؟


فقال "منصور":

-نعم.


فقال "مختار":

-من فعل ذلك؟


فأجاب "منصور":

- أنه "ذو".


فقال"مختار":

- هل ضاع كل شيء؟


فقال "منصور":

- نعم ولا تستغرب فهكذا هو الحرام يأتي بسرعة وينتهي بسرعة.


ثم مشى، بينما ظل"مختار" واقف يتأمل النار التي أخمدت كل أحلامه بالثراء، فخرج ابن اخيه من الغرفة ورأى عمه واقف، فذهب إليه فرأى أثار الحقيبتان فقال:

- إذا فعلها "ذو".


قال "مختار ":

-وكيف عرفت؟

قال:

- عرفت ذلك من نظراته الطويلة إلى الحقيبتان، ما رأيك يا عم أن نترك العمل مع "منصور" وإبنه فأنا أمتلك سبعين ألف رفض"منصور" أن يقبلها لما أردت أن أكون شريكا في هذه الصفقة،فإن أستغليناها سنجني أموال كثيرة.

نظر "مختار"إليه ثم قال:

- أريدك أن تنسى هذا الطريق للأبد وإن عرفت أنك أردت فقط أن تفكر أن تعود سأبلغ أباك فإن لم يردعك فسوف أبلغ الشرطة هل سمعت ما أقول؟


قال :

-نعم.


فقال "مختار ":

-إذا أذهب من هنا ولا تعود له ثانية وساعد أباك هذا أفضل لك.

بدأ"منصور"يفكر بأكثر شيء يمكنه ان يسبب ل"ذو" الحزن إن فقده، وأيضا "ذو" أصبح يفكر ويريد معرفة ما يدور في عقل أبوه،ومرت بضع أيام فشعر "ذو" ولأول مرة أن أباه أصبح ممن يقول ما لا يفعله،ومع الصباح الباكر أخذ "ذو" حقيبته وذهب للمدرسة،وبعد صلاة الظهر مباشرة جاء"منصور" إلى بيت أمه وبدأ يناديها فخرجت أمه وقالت:

-ما بك؟

فقال"منصور":

- زوجة "السيف" وقعت من على السلم وهو الآن في المركز الصحي وتحتاج لمتبرعين بالدم،ولكنهم لم يجدوا فصيلتها فاذهبي إليهم ليروا فصيلتك لعل فصيلتك تناسبها فتساعديها.

فبدأت أم"منصور"تمشي بسرعة وهي بالطريق قابلت الشيخ "حسيب" ولكنها مشت بجواره دون أن تسلم عليه، بل لم تجبه وهو يسألها:

-ما بك تمشين مسرعة؟

وبينما أم"منصور" تمشي قابلت "السيف" ومعه إبنه و"ذو" فأقبلت عليه وهي تقول:

-سلامة زوجتك.


فقال "السيف":

- وما بها زوجتي؟


قالت أم"منصور":

- ألم تقع من على السلم؟


فقال "السيف":

- ما بك يا أم "منصور" من قال لك هذا الكلام؟
فعرفت أم"منصور" أن "منصور"كذب عليها فقالت:

-يبدوا أني صدقت الحلم الذي حلمت به.


ثم أعتذرت وقالت ل"ذو":

- هيا بنا.

فسألها "ذو":

- ما بك يا جدة؟

فقالت:

-جاء إلي أبوك وأخبرني أن زوجة "السيف" سقطت وتحتاج مساعدة.

شعر "ذو" أن أباه فعل ذلك ليدبر أمرا ما، فبدأ "ذو" يركض وجدته تتبعه وتسأله:

- ما بك؟

ولما وصل "ذو" إلى البيت رأى أبوه واقف وبيده سكين قد لطخت بالدم وقد قطع رأس الناقة "البركة" ووضعه على صخرة،لما رأى "ذو" ذلك بدأ يصرخ صرخات غضب، فأبتسم "منصور" وقال:
- قد قلت لك لا تعبث معي.


ومن شدة غضب "ذو" أنقض على أبوه يريد أن يقتله، لكن أباه دفعه بقوة بيده فتدحرج "ذو" على الأرض ثم قام "ذو" ودخل البيت، كانت أم "منصور"ترى الصراع الذي كان بين "منصور" و "ذو" فلما وصلت رأت رأس الناقة فعرفت على أي شيء كان "ذو" يصارع أباه، فبدأت أم "منصور" تدعو على "منصور" بالهلاك جزاء فعلته.

ثم خرج "ذو" ومعه سكين،أرادت جدته أن تمنعه لكن دون جدوى، ثم أنقض على "منصور" فأمسك "منصور"بالسكين ثم نزعها من يده وبدأ يجرح جبهة "ذو" بالسكين وهو يقول: -من العار على الرجل أن يقتل بسلاحا كان بيده،فإن كنت تعلم أنك لست بكفؤ لان تحمل سكينا فاتركها خيرا لك من تحملها وتطعن بها.

ثم دفعه بكل قوته فسقط "ذو"على وجهه،ذهب "منصور"وأمه تدعو عليه وبقي "ذو" ملقى على وجهه لبضع دقائق وجدته جالسة بجواره لا تدري ما تفعله، فنهض "ذو" والدمع يسكب من عينيه وأخذ يمسحها وبدأ يحفر حفرة ليدفن الناقة كما يراها الأخرون ولكن "ذو" يرى أنها أمه.

كان صوت "ذو" وهو يقاتل أباه كجرس أنذار جعل أهل القرية يركضون باتجاه بيت أم "منصور"وكان الشيخ"حسيب" و"السيف" من ضمنهم فلما وصلوا رأوا الناقة وقد قطع رأسها وأيضا رأوا "ذو" يحفر فأراد "السيف" مساعدته، لكن "ذو" قال:

- لا أريد أن يدفن أمي سواي.


فظل الناس يشاهدون،فقال أحدهم بصوت خافت:

-هل ذكر"منصور" أسم الله عليها؟


فأجاب أخر:

- سوف أذهب وأسأله.

وبالفعل ذهب هذا الرجل ل"منصور" وسأله:

-هل ذكرت أسم الله عليها.


فقال "منصور":

-نعم،ولكن لما؟


فقال الرجل:

- من أجل أن نأكلها.


فضحك "منصور" وقال:

-لو سمعك "ذو" لقتلك.

فرجع وأخبرهم بما قال "منصور" فقال أحدهم:

- سوف نكلم الشيخ"حسيب".


فلما قالوا له ذلك قال الشيخ"حسيب":

- ماذا تظنون من فتى لا زالت الدموع تسكب من عينيه على ناقة كانت عنده بمثابة أمه؟ هل سيدعكم تفعلون ذلك؟ فوالله أني أخشى أن يقتل أباه بسبب هذه الناقة.


فشعر الناس بالخوف ولم يعودوا يريدون لحم الناقة،فلما أنتهى "ذو" من الحفرة أراد أن يسحب جسد الناقة إلى الحفرة، لكنه ما أستطاع فنظر نظرة إلى الشيخ"حسيب" شعر الشيخ أنها نظرة تطلب المساعدة، فبدأ يسحب معه ثم جاء "السيف" ليساعدهما، وحين رأى الناس ذلك أقبلوا جميعا يحملوا الناقة ليضعوها في الحفرة ،ثم بدأ "ذو" يدفنها وهو يبكي فلما وصل إلى دفن رأسها توقف وما استطاع،

فبدأ "السيف" يدفن رأس الناقة لعل ذلك يخفف من ألم "ذو"
فقام الشيخ"حسيب" وعزى "ذو" على وفاة الناقة، وكذلك فعل الناس.


بقي "ذو" ثلاثة أيام لا يغادر المكان الذي دفن فيه الناقة،فجاء "منصور"في اليوم الثالث فرأه "ذو" وبدأت نظرات الشر تقدح من عينيه ثم قال:

- والله سأقتلك والله سأقتلك.


و"منصور" ينظر ويبتسم، فجاءت أم "منصور" تركض ثم بدأت تطرد ولدها "منصور"من المكان.


وفي اليوم الرابع ذهب "ذو" للمدرسة ولم تكن المدرسة هدفه بل زميله "عيسى" أبن الشيخ "حسيب، ف"ذو" يذكر أن في مجلس الشيخ"حسيب" يوجد مسدس ربع بحزامه الذي يحتوي على طلقات، فأراد أن يطلب من "عيسى" أن يأتي له ببعض الرصاص،وبدأ "ذو" يرجو"عيسى" ليوم كامل دون جدوى، ثم اليوم الثاني واليوم الثالث وبلا جدوى ف"عيسى" يعتذر لأن هذا الفعل سرقة لا يمكن أن يفعله.


وكان "منصور" جالس في الغرفة لوحده وبدأ يشعر بشيء من الضيق والحزن،وفي مساء ذلك اليوم سمع الناس صراخ من قمة "جبل الخرافة" كان الصراخ عبارة عن آهات أخرجها "منصور" سمع أغلب أهل القرية ذلك بما فيهم "ذو" فجاءت أم "منصور" وهي تقول:

- هل تسمع يا "ذو" أن أباك يحرقه الندم.


فقال "ذو":

- وأنا كذلك يحرقني القهر في كل يوم يمر وهو باق على قيد الحياة.

وفي عصر اليوم التالي جاء "منصور" يريد أن يأخذ إبنه ليتفاهم معه في "جبل الخرافة"فبدأ "منصور" ينادي "ذو" لكن "ذو" لم يرد عليه فقال"منصور":

- أنا أبوك فأجبني حينما أناديك.


لكن "ذو" بدأ بالصراخ وهو يقول:

- لست أبي بل عدوي لست أبي بل عدوي.
فلما سمعت أم"منصور" صراخ "ذو" أخذت البندق وعزمت قتل أبنها "منصور" فبدأت تركض بإتجاهما لكن "ذو" ركض ودخل للبيت فأراد "منصور" أن يتبعه، لكن أمه حالت دون ذلك، بل صوبت البندق بأتجاه "منصور" وقالت:

- ماذا تريد؟

فنظر"منصور"لأمه نظرة لم ترها أمه من قبل، نظرة ضعف وأنكسار وهو يقول:

- أريد ولدي أريد ولدي.


أنزلت أم"منصور" البندق وهي لا تصدق ما تراه فعينا "منصور" قد أمتلأت دموعا، هذه الدموع التي لم ترها في عينا"منصور" حتى في صغره،فلما أحس "منصور" أنه سيبكي بدأ يركض مبتعد عن البيت،ثم بقي يمشي ولم يشعر إلا وهو واقف أمام المسجد وكان الشيخ "حسيب" و"السيف" واقفان بخارج المسجد يتكلمان عن "ذو" وماذا يستطيعان أن يقدما له، فاندهشا عندما أصبح "منصور" أمامهما.


شعر "السيف" أن هاتان العينان ليست كعينا "منصور" فنظر "منصور" لهما ثم قال:

-أريد أن أشكركما على كل شيء قدمتموه ل"ذو" وأيضا أريد أن أوصيكما عليه.


فقال الشيخ"حسيب":

-وهل سترحل؟


فقال "منصور":

- نعم.


فقال الشيخ "حسيب":

-هذا أفضل شيء ستفعله.


أحس "السيف" أن قصد"منصور" في أن يرحل ليس السفر ،بل شيء اخر قرأه "السيف" من عينا "منصور" فقال "السيف":

- بل عد يا"منصور" إلى رشدك وعهدا علي أمام الله أن استقمت أقاسمك نصف مالي ولكن عد.


والشيخ"حسيب" يهمس في أذن "السيف" ويقول له:

- دعه يرحل.


فنظر "منصور" إلى "السيف" ثم تبسم وقال:
- كنت أعتقد أني أفضل منك في الشجاعة والإقدام وكنت أعتقد أن الناس يفضلونك علي لأنهم يحقدون علي، ولكن الآن عرفت أنك أفضل مني لأنك تملك قلبا شجاعا لا يخلوا من الرحمة، وأنا أملك قلبا شجاعا لا يوجد فيه شفقة، فأنت أيها "السيف" كنت حري أن يحبك الناس.

فقال "السيف":

- أنا لا أريد أن أسمع منك هذا الكلام، بل أريدك أن تعود لنا بقلبا يريد التوبة والغفران من الرحمن.


فقال"منصور":

- لا يمكن لمثلي أن يعود فالدماء الفاسدة تجري في كل عروقي وسوف تجبرني على أن أعود إلى الشر ولا يوجد توبة لهذه الدماء الفاسدة إلا بسفكها.


فقال "السيف":

- أن هذا الشيطان يوسوس لك بأوهام ليجعلك تقنط من رحمة الله.

ثم أستأذنهما"منصور" وانصرف،و"السيف" يرفع صوته ويقول:

-الله يقبل التوبة الله يقبل التوبة الله يقبل التوبة.

حتى أبتعد عن نظره.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي