الفصل الثامن عشر

وأكمل "مازن" حديثة قائلا:

-أتضح لي فيما بعد أن خال "دياب" جاء إليهم بالأمس قبل صلاة الفجر بساعة ونام عندهم وظل نائم واستيقظ على صراخ ابنة أخته فأخذ عصا المكنسة فلما رآني ممسك بإبنة أخته،

وضربني على رأسي دون رحمة ثم نقلوني للمستشفى ومن بعدها نقلت للأحداث لأني كنت في عمر لا يمكن أن اسجن فيه، وأول شيء حدث لي في هذه الأحداث الذي أنا اليوم أديره صفعة على وجهي من أمين "عبده" جعلني هذا الكف استيقظ من جديد، بل وأشعل نار الحقد في قلبي

فبدأت أفكر في تعويض ما حصل وبعد مضي سنتان وبعد أن ثبت لمركز الأحداث أني أصبحت مستقيما وبالأخص تحقيقي الترتيب الأول، تم الإفراج عني فالتحقت بأحد الجامعات بقسم الإدارة واستمريت في تفوقي وتخرجت بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى

وتم قبولي للإعادة ودراسة الماجستير وسافرت لأمريكا واستطعت باجتهادي الحصول على الماجستير وأيضا واصلت الدكتوراة وحصلت عليها مع إشادة من الجميع بالإمكانيات التي أمتلكها،

ولما رجعت كانت كل المناصب العالية مفتحة أبوابها مرحبة بي، ولكني تركتها جميعا وأتجهت لكي أدير هذا المركز وبالفعل أصبحت مديرا له وفي أول يوم باشرت فيه كنت أنتظر بشوق رؤية أمين "عبده" وبالفعل كان من ضمن المرحبين بي، لم يعرفني أتعرف لماذا؟


فقال "خالد":

- لماذا؟


فقال" مازن":

- لأن الظالم ينسى والمظلوم لا ينسى،وبدأت أراقب تصرفات أمين "عبده" وأسجل له هفواته حتى اتضح لي أن أمين "عبده" يقوم باختلاسات من المركز، حيث يطلب أدوات

واجهزة للمركز فإذا وصلت أخذها فأما يستخدمها في بيته أو يبيعها، وأيضا من غير الأختلاس في المواد الغذائية، فترصدت له حتى أثبت ذلك بأوراق رسمية فلما اثبت اختلاساته
استدعيته واستدعيت معه اثنان من الأمن أتعرف لماذا أستدعيت هذان الإثنان؟


فقال "خالد":

- ليشهدان بما يقوله أمين "عبده".


فقال "مازن":

- لا بل أردتهم أن يشهدا ما سوف يحدث، فهذان الشخصان كانا موجودان لما صفعني أمين "عبده"

وأريدهم أن يكونا حاضران حين أرد صفعته،فلما دخلوا المكتب قدمت له صور من الأوراق التي تدينه وعندما قرأها بدأ يرتجف وزدت من خوفه بقولي هذه الأرواق كفيلة بفصلك وليس ذلك وحسب بل وسجنك

فبدأ يخضع ويتضرع ويتوسل لدي أن أخفي الموضوع، فوافقت بشرط، فقال وبدون تردد أنا موافق، فقلت تعال معي وأيضا ناديت الرجلان أن يأتي،حتى وصلت للمكان الذي صفعني فيه وقلت له قف هنا، فوقف،

فقلت له في نفس مكانك كنت واقف وأنا لا زلت بالمرحلة الثانوية صفعتني على وجهي أشعلت تلك الصفعة نار الأحقاد في قلبي وآن الآوان أن أطفىء هذه النار،فقال أمين "عبده"والله إني لا أذكر ذلك ولكن خذ حقك مني وأصفعني ولا ترفع بالأوراق، فقلت لن أصفعك بيدي بل بحذائي التي بيدي،

فقال أمين "عبده" أما هذا فلا،فقلت إذا سأرفع الأوراق اليوم،فقال أمين اصفعني بحذائك وأترك الأوراق في درجك،فنزعت حذائي من قدمي وصفعته بكل قوتي،

فنظر لي أمين نظرة ذكرتني بنظرتي حين صفعني كنت أشعر حينها بغضب شديد ومع ذلك لا أستطيع فعل شيء، بعد ذلك أرتحت وشعرت أني حققت بعض ما عزمت على فعله،ثم بدأت أبحث عن شريكة حياتي وكنت أعرف شخص منذ أيام الثانوية أستمرت صداقتنا وكنا دوما نتراسل بل قد خدمته أكثر من مرة فجئته إلى البيت ورحب بي واستقبلني خير استقبال وكنت أعرف أن له أخت متخرجة من

الجامعة فقلت له أريد أن أخطب أختك، فتلعثم وتغير لونه فقلت له ما بك، فقال لا شيء ولكن تذكرت مثل يقول إذا أردت صاحبك يبقى صاحبك مدى الدهر فلا تشاركه ولا تناسبه، فضحكت وقلت له لا تخشى فأنت تعرف أخلاقي وتعرف مدى صبري وصدقني لن ترى أختك ما تكره أن تزوجتني،

فقال أنا لا أشك في أخلاقك ولا صلاحك ولكن سأقول لك شيء أتمنى إلا يغضبك، فقلت له قل ولا تخجل، فقال كلمة جعلتني أدخل في دوامة من الحزن والضيقة،قال لي أنت لست مثلنا، عرفت بسرعة ما كان يقصد فأنا ليس لي أب ولا أم مثلهم أنا مجرد نزوة شيطان، أتعرف يا "خالد" معنى أن تكون نزوة شيطان؟ أتعرف معنى أن تكون نزوة شيطان؟

والله لو أعرف أبي وأمي أو أقول هذان الحقيران اللذان فعلا فعلتهم الشنيعة وحملوني ذنبا ليس لي فيه ذنب، فوالله لو قابلتهما لقتلتهما وأنا أضحك والله أني سأقتلهما وأنا أضحك والله أقتلهما وأنا في غاية السرور.


ثم قام وأمسك بكتفي "خالد" وهو يبكي ويصرخ في وجه "خالد" ويقول:

- وأنت تبكي لأنك قتلته وأنت نادم على أنك قتلته، لما تبكي من أجله أو تندم على فعلتك، فهو يستحق ما فعلته به يستحق ما فعلته به.


فكسر "عاصم" الباب بعد أن سمع صراخ "مازن" وعرف أن حالة غضب هسترية أصابت "مازن" فحقنه بإبرة مهدئة وبالفعل هدأ "مازن"،بينما "خالد" ساكت، يشعر أن ما سمعه وشاهده مجرد حلم ولكن المشكلة أن هذا الحلم أصبح يشعر أنه حقيقة بل تأكد أن كل ما حدث كان حقيقة،فأمسكة الدكتور "عاصم" بيده وأخذه لمكتبه وبدأ "خالد" يتكلم ويقول:

- هو يستحق ما حدث له.


فقال "عاصم":

- من تقصد؟


فقال "خالد":

- أبي يستحق ما حدث له ،أبي يستحق الموت.


وبدأ "خالد" يصرخ بأعلى صوته وكان أمين "عبده" موجود فقال:

-أصبحنا في مصحة نفسية لا لمركز أحداث.


فأضطر "عاصم" أن يعطي "خالد" إبرة مهدئة، ثم أخذ "خالد" لغرفته وبعد أن أوصله ابتسم، فسأله أمين "عبده":

-لما تبتسم؟


فقال:

- ابتسم من تشابه شخصية "مازن' و"خالد" فهما أن أرادا أن يحققان شيء فلا يتوقفان حتى يحققانه.


لكن هذا الكلام لم يعجب أمين ولكنه بقي ساكتا، ومع مرور الأيام نشأت صداقة حميمة بين "مازن" وبين "خالد" حتى أصبحت كالعلاقة بين الأب والإبن، وكان "مازن" حريص على مستقبل "خالد"فبدأ يتابع وضعه في الدراسة بل من حرصه عليه سجله في حلقة التحفيظ التي تقام في المركز الذي كان

يشرف عليها الشيخ "عبدالرحمن' فوصاه "مازن" بالعناية ب"خالد" وأن يساعده على حفظ القرآن، ولم يكن يعلم أن "خالد" يحفظ القرآن بالسبع القراءات، ولم يخبر "خالد" أحد بذلك.


وبالفعل بدأ يحفظ معهم لكن الشيخ "عبدالرحمن" بدأ يشك في وضع "خالد" فهو حين يقرأ لهم لا يتبع معه ولا يردد ولكن أن جاء دوره في التسميع يسمع وبدون أخطاء، بل شعر أن "خالد" ليس فقط يحفظ القرآن بل ويجيد قراءته بعدة قراءات، فخطرت على باله خطة حيث تأخر في الحضور حتى قاربت صلاة المغرب فدخل الحلقة ولم يجد إلا ثلاثة طلاب كانوا يريدوا الذهاب وكان من ضمنهم

"خالد" لكنه طلب منهم الجلوس واعتذر عن تأخره وبدأ يعطيهم المقطع الذي يجب أن يسمعوه له، ولكن آذان صلاة المغرب قاطعهم فقال الشيخ "عبدالرحمن":

- أقم الصلاة يا "خالد".


فقال "خالد":

- لا زال هناك طلاب سيأتون للصلاة.


لكن الشيخ "عبدالرحمن" كرر طلبه، فأقام "خالد" الصلاة، فصلى بهم الشيخ "عبدالرحمن" وبدأ يقرأ الفاتحة بقراءة أهل سما فكلما قال ملك يوم الدين ردا عليه الطالبان اللذان كانا مع "خالد" و"خالد" ساكت وهكذا حدث في الركعة الثانية فلما أنتهى الشيخ "عبدالرحمن" وبعد أن فرغ من التسبيح نظر ل"خالد" وقال:

- لم أسمع صوتك تصوبني.

فقال "خالد":

- أنت لم تخطي لكي أصوبك فأنت قرأت بقراءة أهل سما.


فقال الشيخ "عبدالرحمن":

- هذا ما كنت أشعر به فأنت تجيد قراءة القرآن بغير قراءة حفص.


فتلعثم "خالد" وشعر أنه انكشف فما كان منه سوى أظهار الحقيقة وأخبر الشيخ "عبدالرحمن" بأنه تتلمذ على يد شيخ اسمه الشيخ "محمود"، وكان "مازن"حريص جدا على أن يحفظ "خالد" القرآن لأن ذلك سيجعله أكثر صمود في وجه صعوبات الحياة التي سيواجهها، فأتصل على الشيخ "عبدالرحمن" وسأله عن مستوى "خالد"، فأخبره الشيخ "عبدالرحمن" بما حدث، وأيضا قال له:

- أن "خالد" يحفظ القرآن كاملا وليس ذلك وحسب بل وبالسبع القراءات.


فاندهش "مازن" وشعر بشعور غريب شعور سعادة ممزوج بحزن، فهو سعيد كون "خالد" حافظ للقرآن ولكنه حزين كون "خالد" أخفى ذلك وتظاهر كذبا أنه يسعى لحفظ القرآن، لكن "مازن" أخفى هذا الحزن حين واجه "خالد" لأنه يعلم أن الأشهر القليلة ليست كافية لبناء ثقة ولنسميها ثقة عمياء بحيث لا يكون هناك أسرار بينهم, حيث أقام "مازن" حفل تكريم وكان "خالد" هو بطل هذا الحفل كونه حفظ القرآن وبقراءته السبع في هذا العمر الصغير يعتبر اعجاز يستحق الإشادة بها.

وبعد أنتهاء الحفل دعا "مازن" "خالد" لمكتبه وقال:

-اختر الهدية التي تتمناها.
فلم يطل "خالد" التفكير حيث أجاب وبسرعة:
-أريد حصان.
ابتسم "مازن" وشعر بشغف "خالد" للفروسية.

كان "مازن" يعتبر "خالد" ولده وليس ولد في الأحداث مسؤول عنه، حيث شعر أن "خالد" يمر بما مر به واقصد عداوة المجتمع لذنب ليس لهما ذنب فيه، أراد "مازن" أن يجعل من "خالد" عالم اسطوري يجيد كل شيء ليضرب أروع مثل عن أن الإنسان هو من يصنع مكانته وليس نسبه وحسبه،طبعا أكمل "خالد" دراسته في المركز وكان "مازن" يعتبر ذلك ضروريا مع علمه مسبقا أن هذه الدراسة لن تفيد "خالد" كثيرا من الناحية العملية.

ومن هنا بدأ "مازن" في صقل مواهب "خالد" وبدأ يعلمه اللغة الإنجليزية التي أصبحت في هذا العصر شيء من ضروريات سوق العمل وأيضا شرطا اساسي لمن أراد أن يرتقي لأعالي السلم الوظيفي،
وكان "مازن" يستغل حب "خالد" للفروسية وخاصة بعد أن أشترى له حصان أسماه "خالد" ب"الشهاب" وكان "مازن" يستخدم ذهاب "خالد" للإسطبل من باب الثواب فإن أهمل في دروسه استخدم حرمانه من الذهاب للإسطبل كنوع من العقاب.

وبالفعل مرت سنتان وأصبح "خالد" يجيد حفظ خمسمائة كلمة قراءة وكتابة وأيضا يجيد أستخدام قواعد اللغة الإنجليزية في تركيبه للجمل، فشعر "مازن"بشيء من الراحة والسعادة في تحقيق الخطوة الأولى، ثم بدأ "مازن" يحاول أن يعلم "خالد" الحاسب الآلي،لكن "مازن" واجه صعوبة في ذلك، ف"خالد" كان لديه نفور جدا من تعلم الحاسب الآلي

لأن ذلك يتطلب الجلوس خلف الكمبيوتر والجلوس بسكينه وهدوء وكان ذلك ينافي طبيعة "خالد" الحركية،

فحاول "مازن" أن يستخدم اسلوب الحرمان من الإسطبل، ولكن هذه المرة فشل هذا الأسلوب وذلك لأن "خالد" سئم ومل من ركوب خيله "الشهاب" والجري به داخل مكان محدد يحدده أسياج حديدية فأصبح ركوب الخيل والدوران به في ذلك المكان أمرا مملا، فهو كان في قريته أحيانا يسمح له "السيف" بمرافقته والذهاب معه على ظهر خيل اسمه

"الحوت" ويتجول في القرية بلا قيود، وأضف أيضا أنه مشاعر حب "خالد" للخيول أنصرف لحب خيل واحد اسمه "المشهر" فشعر "مازن" أن عصاه التي كان يستخدمها لتحفيز او عقاب "خالد" قد كسرت.


ومر عام كامل و"خالد" لم ينطلق أنطلاقه المعهود في تعلم الأشياء لأنه لا يوجد رغبة في تعلم ذلك، ولكن هناك أحداث بدأت تظهر في حياة "خالد" قد تبدل هذا العزوف عن تعلم الحاسب الآلي أن أجاد "مازن"

استخدامه كأسلوب تحفيز وعقاب ضد "خالد"،حيث تم استبدال طاقم المسؤول عن التغذية بسبب سوء النظافة بطاقم أخر أغلبه مكون من _الفلبين_ وكان من ضمن هذا الطاقم رجل أسمه "ستيف" وكان دوره صرف الأطعمة للأولاد الموجودين بالمركز.


أطلع "مازن" لملفات العاملين الجدد والذي كان من ضمنهم "ستيف" فدهش "مازن" حيث اكتشف من خلال ملف "ستيف" أنه يجيد خمسة أنواع من الفنون القتالية، وقد سبق له أن جاء_القاهرة_ قبل خمس سنوات كمدرب للكارتيه ولكن تم ترحيله بسبب أنه في ذات يوم وفي صالة التدريب ضرب خمس عشر شاب كان يدربهم، فلما تم التحقيق معه أفاد أنه فعل ذلك بسبب أستهتار هؤلاء الشباب بتعليماته وأيضا إضاعة وقت التدريب بالتنكيت والضحك.


وكانت طبيعة "ستيف" طبيعة جدية لا تحب التهريج فأراد أن يؤدبهم ويعلمهم ما تعني الفنون القتالية أغلق "مازن" الملف وأخفى هذا السر، ثم أستدعى "مازن" الشخص الذي سيشرف عليهم وهو أمين "عبده"
وأخبره أن العمالة _الفلبينة_ ستستلم غدا صباحا عملهم في المركز، فهز أمين "عبده"وكأنه يقول:

-وهل هذا كل الأمر؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي