الفصل التاسع عشر

_______________________

فروع من الاضائات الرقيقة المزينة بالورد تلتف حول ساحة المنزل ..حفل عقد قرانه وحياته ..اقتصر الحضور عليهم فقط في جلسة عائلية ويوسف صديقه ..المأذون على وشك الوصول ..خرج منصور يتكأ على عكاز حديدي يجلس جوار ولده بابتسامة فرحه يملئ ناظره برؤيته .. بينما تنزل حنان درجات السلم بتوتر وقلق ..
: منصور ..حياة مقطعة نفسها من العياط فوق ..
التفت الجميع إليها في صدمة ..ليتحدث منصور
: ليه ... في ايه ..؟
اذدردت حنان ريقها بصعوبة تتعلق نظراتها بولدها ..
: مش موافقة على الجواز ..
اتسعت عيني يوسف بينما بنظرات ثابته نظر إليها قصي بشرد ..ليتحدث منصور بحدة ..
: يعني ايه مش موافقة ..ايه لعب العيال ده ..؟
استقام قصي بهدوء ..ينظر إلي والده ..
: بابا بعد إذنك ممكن اطلعلها ..
زفر منصور بنفاذ صبر يومأ له ..
ليصعد قصي الدرج يتجه نحو الرواق المؤدي لغرفتها ..
هم بطرق الباب ليستمع إلى صوت شهقاتها الحارة ..فتحه مباشرة داخلا ..لتستقيم هي تنظر إليه بترقب خائف ..غصة حارقة آلم قلبه العاشق لها عند رؤيته لدموعها المنسابة بسلاسة فوق صفحة وجهها ..ابتسم بحنو يقترب منها رويدا ..حتى بات لا يقصل بينهما سوى انفاسه وشهقاتها .. احتوى ذراعيها بين يديه يشد عليهما برفق ..مسحت دموعها المتجددة ذاتيا ..ليرفه هو يده نحو عينيها مزيلا بها تلك الدموع ..ثم وضع اصبعيه تسفل ذقنها يرفع وجهها إليه قائلا
: بتعيطي ليه كده ..؟
بكت مجددا تنفي برأسها باعتراض .. تحبه كثيرا ..لكنها لا تريد الزواج منه بتلك الطريقة ..فكرة اضطرارها للزواج فقط لتبقى بجوارهم تقتلها ..وان ترفض ويبقى بعيدا عن والديه بسبب وجودها موت آخر ..احجية مشاعرها صعبة الفهم ..والحل ..
: حياة ..
همس بها بكل حبه لها ،رفعت نظرها إليه ..لتتبدل نظراته بأخرى غامضة .. رغم نبرته الحانية ..
: لو مش عايزانا نتجوز قوليلي ..ما تخافيش ما فيش حد  هيقدر يجبرك على حاجة طول ما انا عايش ..لو مش موافقة قوليلي دلوقت مش موافقة وانا هتحمل المسؤولية كاملة قدامهم تحت .. ولو على السفر والدراسه ، هتسافري تكمليها وهفضل حمايتك حتى لو من غير جواز ...
كلماته أذابت هالة الجليد فوق مشاعرها نحوه ..التهبت خفقاتها تنبض بعشقه ..لتشتد في البكاء أكثر .. اختلقت فكرة استكمال دراستها فقط لتبتعد ..محض ذريعة ..والذريعة تشترط وجوده معها ..معضلة عليها حلها بكل المقاييس ..لن تستطيع اكمال درب العشق مع شعور انها عبئ ما فوق كاهلهم ..ولن تستطيع الزواج منه بجوار ذاك الشعور المؤلم الجارح لكرامتها ..
: انا طلبت اكمل دراستي بره علشان انا عايزة كده ..مش عايزة اتجوز ..لازم بقى ادفع ضريبة رغبتي دي بالموافقة على جوازي منك ...؟
قالتها باندفاع مقصود ..ارادت جرحه فقط ليطلق سراح روحها العذبة ..لم تكن هي ..انسلخت عن جلدها واخلاقها وطبيعتها المراعية لشعور الاخرين ..انسلخت عن عشقه او هكذا ظنت ..احتدت نظرة عينيه فوق ليل عينيها المعتم ..
: انتي مش عايزة تسافري يا حياة ..
نظرت له بزهول ..وكانه اخترق افكارها ..روحها .. اختلج خافقها عند فكرة اختراقه لقلبها ورؤية ما تكنه له من العشق ..
: انا اديتك الحل وانتي مش عايزة تشوفيه اساسا ..
هو محق ..وسؤاله لها وضعها بين نياط الجبل وخوفه ..وربما عشقه ..
: انتي عايزة تبعدي من غير سبب  ..وانا مش منقول من هنا الا لما اعرف ليه ..؟ والا الجوازة هتتم برضاكي او غصب عنك
ثم اقترب من أذنيها يكمل بهسيس مرعب
: وساعتها هعرف السبب  ..بس بطريقتي ..
يمرر لها اهانه مغلفة من بين كلماته وهذا ما فهمته ..لكن في حقيقة الامر وهو يبني ساحة حرب ..هي وهو فقط ..تحمل كلماته بداية لتحدى ما ..وبمعنى اخر " يستفزها " ..صمتت وفي صمتها السماح له بالبدأ أولا ..طرقت حنان الباب ثم دخلت قائلة بارتباك ..
: المأزون جه تحت وبابا عايزك يا مازن ..
خرج تاركا اياها في حالة من الزهول ..لتتقدم منها حنان مربتة فوق وجنتها برفق ..تحدثت حياة بتيه لم يرتاح له قلب حنان البته ..
: بعد إذنك يا ماما ..هغير واجهز عشان انزل ..
ابتسمت حنان بنظرات قلقة لكن بالنهاية خرجت واغلقت الباب خلفها .. نزلت اليهم بالاسفل لتجد كل من الاب و ولده يمسك كل منهما بيد الآخر يرددون خلف المأزون ما يلقنهم اياه ...
: بارك الله لهما وبارك عليهما وجمع بينهما في خير ...
وصوت رسالة ..فارقت الدماء وجهه مصفرا من الفزع ..فحواها كارثة كونية ..
( الف الف الف مبرووووووك ..العروسه وصلت )
نظر إلى والدته التي تبتسم له بحب وسعادة يسألها
: حياة فين ...
: بتجهز ونازلة حالا يا حبيبي ..الف مب....
بترت عبارتها المهنئة حيث تركهم راكضا محو غرفتها .. في اقل من الثانية تقريبا وصل يفتح باب غرفتها بعنف ..ليصتدم بما جعل النيران تشتعل بنظرة عينه ..الجحيم ذاته يجري بين اوردته الان ..حيث حياته لا وجود لها ..فارقته ...
______________________
وقف امامه معصوب العينين ..مقيد اليدين ..ومن جانبيه رجلين يرتدي كل منهما حلة سوداء ..سأل بصوت ثابت لا مبالي فاقدا للحياة ..للهوية ..
: انا فين ..و انتوا مين ..؟
اشار ديفيد لرجاله ..ففك احدهم عصبة عينيه والآخر قيد يديه ..رمش بعينيه أثر شدة الاضائة حتى اعتاد على الرؤية ينظر حوله في استكشاف ونظرته غابة مظلمة مخيفة ..نظر امامه إلى الجالس فوق مكتب عريق يحمل من الفخامة والرقي ما لم يراه من قبل ..تحدث مرة أخرى
: انا فين ..؟
آخر ما كان يتذكره هو وجود مجموعة من الاسود يفصل بينه وبينهم قضبان حديدية تبيت حوافها المدببة بتجويف في الارض ..فجأة فتحت القضيان وزئير الاسود الجائعة وصل إلى مسامعه مع روئية لعابها يسيل من فمها ..وهو مقيد اليدين والقدمين ..ظل ساكنا يحدق فيهما بلا ارتياع او خوف ..مرحبا بالموت ..او يستنكر حقيقة وجود ذلك الكم من الاسود وهو بمفرده بينهم ؟ هو نفسه لم يعد يعلم ..فتحت القضبان ..بينه وبينهم  فقط الموت ممزقا بفعل اسنانهم ..ظل على ثباته تستنكر نظراته ما يحدث ..اول من التفت اليه من الاسود بخطوات متروية تقدم اليه ببطء تام ..وكأنه يريد الاستمتاع باثارة الخوف به كي ينقض عليه ملتهما اياه .. هو ثابت بلا حراك كالصنم ..ركض الاسد نحوه وفي لحظة واحدة نزلت القضبان فوق رقبته ..مات الاسد ..عصبت عينيه ثانية و فك احدهم وثاق قدمه ثم وجد نفسه يقف هنا امام ذلك الرجل الذي لا يعرفه ..
: انت في حضرة السيد ديفيد ..
هتف بها ديفيد ينظر اليه بإعجاب ..فلأول مرة لايخاف طعام اسوده امام الموت ..ذلك الفتى ثروة عليه استثمارها ...
: ما اسمك ..؟
لم يرد .. ليس لأنه لا يتحدث اللغة الاجنبيه ..بلى هو يتقنها بطلاقة ..لكنه لم يرد ..
استقام ديفيد يقف امامه يحدث نفسه ..
: ممم لا تتحدث الانجليزية ..
: بلى ...اتحدثها باتقان ..
التمعت عينيه ديفيد اعجابا به وكأنه كنز ما ..
: إذً ما اسمك ..؟
: و من انت ..؟
: صديق الاسود ..
: انت مالك الاسود التي كانت على وشك التهامي إذً ..؟
اطلق ديفيد ضحكة خافتة يرجع واقفا خلف مكتبه ..
: خطأ ..قلت لك انني صديقها ..فالأسود لا تُمتلك ..
: ولما انا هنا ..؟
: لأن الاسود لا تأكل بعضها بعضا يا صديقي ..
لم يفهم مقصده ..لا يعرف انه رآه ..حيث يفضل مشاهدة اسوده الجائعة عند افتراس وليمتها الحية ..ثم امرهم بقفل القضبان فورا عندما لاحت له ندورة شجعاته اللتي لم يجدها سوى بالاسود فقط ..اكمل ديفيد
: هل تعلم انني ضحيت بأسد من اسودي مقابل حياتك ..؟ انت مدين لي ..
سأله بتعجب ..
: بأسد ..؟
اجابه ديفيد بغموض
: ربما ..هذا ما ستحدده اجابتك ..
نظر إليه باستفهام ليباغته ديفيد بالسؤال ..
: قل لي ..ما الفرق بين الاسود والضباع ..والكلاب ..
اختلفت شخصيته ..تبدل تماما عن ما مضى ..لمح سلاح ناري فوق سطح مكتب ذلك الرجل ..التقطه بخفة في حركة واحدة صار خلف ديفيد يقبض بمرفقه حول رقبته مصوبا السلاح نحو رأسه باليد الاخرى ..تأهبوا الرجال للمهاجمة ليشير لهم ديفيد بالرجول ..يحدثه ..
: ماذا تفعل ..؟
: اعطيك الاجابة ...الكلاب لا تجرؤ على إظهار انيابها بوجه سيدها ..والضباع تلتهم اسيادها ما ان اتاحت لها الفرصة ..اما الاسود ..فلا تفعل ..
ثم تركه فجأة يمد يديه إليه بالسلاح ..اخذه منه ديفيد مشدوها به ..يخاطره سؤالا واحدا ..من اين لمراد بمثل هذا الفتى ..؟ ..ابتسم بفخر قائلا
: حسنا يا صديقي ..هيا اذهب معهم ..
: إلى أين ..؟
رد ديفيد يلتقط كأس النبيذ الخاص به فاردا ذراعيه بالهواء
: إلى مملكة السيد ديفيد ..حيث لا مكان سوى للأسود ..
هم بالخروج برفقة رجاله ليهتف ديفيد
: انتظر ..ما اسمك ..؟
ان تختبر الشر ،القسوة ..شيء ..وان تعيشها ..تتجرعها ..تختلط بانفاسك ..بدمائك ..و بالمحيطين حولك ..شيء آخر
: عمر ..عمر الزيني ..
______
التصالح مع مخاوفنا امر شاق ..بينما العيش بها واقع مرير ..مميت ...
_________________
القت بنفسها بشجاعة واهية داخل احدى المواصلات المارة على الطريق الرئيسي ..لا تدري إلى اي وجهة راحلة ..زهرة اجبرت ساقها على الانتزاع من باطن الارض ..حين ظنت ان الارض ضاقت بها رحبا ..لتذروها الرياح كيفما شائت ..تقودها نحو بعد آخر ..اما لبستان غناء ..او جحيم فَنّاء ..توقفت العربة بمكان يعج بالمارة من شتى الاعمار والاشكال ..مشت بلا وجهة محددة ..لتتفاجئ بهاتفها ما يرن داخل جيب فستانها ..نست تركه قبل هروبها ..رقم مجهول غير مسجل ..يتردد اصبعها فوق زر الرد ..لتستمع إلى صوت احد منهم لآخر مرة ثم تلقي بالهاتف جانب الطريق و ينتهي الامر ..ضغطت على الزر ثم رفعت الهاتف نحو اذنيها تكتم بيدها الاخرى فوق فمها شهقات بكائها ..ليأتيها صوت رقيق طفولي ..
: انا حياة ،فاكراني ؟
تذكرتها مرحبة بها تحاول مداراة نبرة بكائها ..
: ماما جاتلي في الحلم لعبت معايا وحكيتلها عنك ..
قالتها الصغيرة بسعادة بالغة ونبرة حماسية ..بينما يجلس ابيها جوارها تغيم عينيه بألم ..
: قوليلها حياة بتقولك شكرا اوي ..حياة انا مش انتي ..اوعي تتلغبطي .
طيف ذكرى والدتها مر بخاطرها ، دون ارادتها علت وتيرة بكائها بعض الشيء حتى استشعرتها الصغيرة عبر مسامعها ..ومن حولها ..
: طنت حياة انتي بتعيطي ليه ..؟
ردت تنفي وتكذبها نبرة صوتها الباكية ..لتتفاجئ بصوت ثخين معاكس لرقة الصوت الآخر ..
: انسة حياة انتي كويسة ..؟ في مشكلة معاكي ؟
بنبرة قلقة نطق بها بعدما التقط الهاتف من بين يدي صغيرته.. استماعه لصوتها الباكي وزامور السيارات بالشارع من حولها اثار ريبه ..
تفاجئت به يخترق محادثتها مع الصغيرة ..لترتبك مغلقة الخط سريعا ..ستشتاق كثيرا لتلك الفتاة الصغيرة ...وستظل برائتها ذكرى معلقة بمخيلتها ..لحظة استدراك هبوط الليل يجثم بعتمته فوق دنياها البائسة والسقيع يلف جسدها من جميع الجهات ..وازت ذكرى استلقائها بداخل احضان زوجة خالها الدافئة ..نصل حاد يخترق قلبها كلما تذكرت ما سمعته خلف الباب من حديث ..لحظة استدراك وجدار ارادتها ينهار ..شجاعتها تتضائل مع رنين الهاتف مرة أخرى برقم مسجل .. رقمه ، من كانت على مشارف لقب زوجته ..لا تدرك انها اصبحت بالفعل ..انتهى الاتصال وفكرة الرجوع تقتلها ..رنين اخر من ذاك الرقم المجهول خاصة الصغيرة حياة ..رنين كحبل النجاة ما اذا تمسكت به .. فقط ضغطة ذر .. لا احد لها ..لا مكان ولا سبيل تسلك دربه ..ابتلعت غصة مريرة ..بصوت متهدج اجابت عندما كرر السؤال ..
: ممكن اطلب من حضرتك طلب ..؟
كانت اقرب لصورة الصغيرة عندما كانت تائهة .. مفتقدة ملاذا ما ..وربما فاقدة ..كلمات متقاطعة وتنتهي المحادثة ..
: خليكي مكانك ،دقايق واكون عندك ..
______________________________
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي