الفصل الثلاثون

بدت فكرة كونها زوجته تبيح له تخيلات لا تجوز مع وعد قطعه مسبقا .. حيث ظهر له شبح والده فوق رأسها محذرا اياه .. يتردد صداه داخل مسامعه ( امنية حياتي اسلمها لعريسها بالفستان الابيض .. ده كتب كتاب بس ياقصي .. انا واثق فيك )
اخذ يسب بداخله .. تبا لذلك الوعد .. و تبا لبرائتها المهلكة ..
و تبا لتلك الشامة فوق شفتيها ..
ليتمتم بحنق ..
: ما كانش لازم اوعده ..
: بتقول ايه .. ؟
تنهد يبعد تلك الافكار عن رأسه " مؤقتا "
: بقول اني لسة ما عرفتش السبب اللي خلاكي تمشي يوم كتب الكتاب .. و مش عايز اعرفه غير منك ..
رمشت بأهدابها في تردد لتحسم الامر بأخباره .. بنبرة يملئها الحزن تحدثت
: هقولك .. انا مشيت علشان ما قدرتش افضل بس لمجرد اني مراتك .. مشيت لما سمعت خالوا و ماما بيقولوا
و اخذت تقص فوق مسامعه ما حدث ..
و صدفة ، لم تكن مسامعه هو فقط .. لتنتفض بإجفال بين ذراعيه عندما استمعت لصوت منصور من خلفهم
: احنا فعلا قولنا كده ..
تصلبت .. سهم ما اصابها  بمقتل عندما آتاها صوت منصور الصارم من خلفهم .. لم تمتلك الجرأة على النظر و التأكد من وجوده  رغم اشتياقها له .. هي الان تحاول ايقاف نزيف روحها بما استمعت اليه الان .. بكل اصرار يخبرها انه فعل ..
لم ينكر حتى كذبا لمراعاة مشاعرها ..
نظر قصي اليهم داخله صدمة تامة لم تظهر على ملامحه ..
فقط شدد من عناقه لها عندما لاحظ تصلبها بين يديه ..
ضمها اكثر نحو صدره و كأنها جزء منه ..
وقف منصور بهيبته عند باب الكوخ تجاوره حنان بدموع باكية تنظر الى يمنى التي لا تعي شيئا مما يحدث ..
يمنى العائدة من نكبة نفسية لا يليق معها اظهار حقيقة الامر امامها ..
استدرك منصور الموقف لينظر إلى قصي بغموض
: سيبنا لوحدنا .. خد يمنى على العربية ..
فهم نظرة ابيه .. علم سريعا ان المقصود بذلك الحديث .. يمنى ..
تقدم منصور منها بعدما خرجا كلا من قصي و يمنى ..
حنان مازالت واقفة تنظر إلى حياة ببكاء .. تجلد ذاتها بتفوهها في لحظة انفلات مشاعرها بتلك الكلمات التي آذت مشاعر صغيرتها ..
وقف منصور امام حياة التي تنظر اليه باكية كطفلة .. بنظرات حزن مغلفة بعتاب اب و ابتسامة حزينة ترسم فوق وجهه يشرد بوجهها متحدثا
: حاربت زمان و خدتك من رشدي بالغصب و انتي صغيرة علشان احميكي منه  ، كنتي عوض ليا عن امك الله يرحمها .. و عن ابني اللي ما كنتش عارف هو عايش و لا ميت .. ما كنتيش بنت اختي و بس ..
نظر إلى عينيها مباشرة و قد تلاشت ابتسامته لتحل محلها دمعة لعينة تأسرها عينيه بداخلها .. اكمل و هو يراها تلك الطفلة الصغيرة التي كان يلاعبها و يطعمها بيديه و يغدقها بحنان اب خالص ..
: بنتي .. حتة مني ..
و قررت عينيه فك اسر العديد من الدموع .. تهدج صوته مكملا ..
: روحي اللي عايش بيها .. و اللي لو سابتني اموت .. و انتي موتيني يا حياة ..
تكاد حنان تنهار من شدة البكاء .. اما حياة فتستمع إليه و شلالات من الدموع تجد سبيلها فوق وجنتاها .. لتتوقف الشلالات فجأة .. ربما ستبدل الدموع بدموع اشد مرارة .. تصلبت نظرة عينيها تتسع بإدراك عندما اردف منصور ..
: حنان فعلا قالت كده ، كل اللي سمعتيه مني و منها صحيح .. لكن المقصودة بيه مش انتي .. كانت يمنى .. و الظاهر انك ما وقفتيش تسمعي بقيت الحوار اللي دار ما بينا ..
و اجتاحه غضب عاصف .. غضب اب .. عاصفته ذات زوبعة حانية .. رغم قسوتها محتوية لاتلقي بما تحتوي خارج نسماتها ..
وقفت هي متصلبه تستعيد ما استمعت اليه مرة اخرى .. كيف لم تنتبه .. كيف ظنت ان بامكانهم ابعادها عن احضانهم ..
القت بنفسها داخل احضانه ليتبخر غضبه منها في لحظة يضمها نحو صدره باكيا .. و تتمتم هي من بين بكائها
: انا اسفة .. اسفة ..
تركها لتصتدم بنظرات حنان الباكية .. فركض كلاهما نحو الاخرى في عناق .. تعاتبها حنان بضمها نحو صدرها بقوة .. تغدقها بالقبلات
: وحشتيني أوي .. وحشتيني اوي يا حبيبتي .. كده ياحياة عايزة تسيبيني .. تسيبي حضن امك ..
تبكي بين ذراعيها بندم .. ادركت انها كانت ستخسر الكثير بفراقهم .. الكثير جدا ...
_________________________

وقفت تكشف عن ساقيها تلاعب امواج البحر بين مد و جزر ..
نظر اليها بحزن ..
صغيرة هي على ان يلفظها الجميع بذلك الرفض الطاغي ..
فكرة التخلي عنها لا وجود لها بين أفكاره ..
اهدته ابتسامة مرحة تركض اليه ليتلقفها هو باحضانه ..
ضحكت تقفز قفزات متتالية .. تتحدث بما اثلج صدره و رسم ابتسامة عريضة على شفتيه ..
: انا بحب ماما حنان اوي يا ابى .. ما كنتش فاكراها حنينة و اني هحبها كده ..
بتعجب سألها
: بجد يا يمنى .. ؟
لتومأ له تجيبه بحماس ..
: و وافقت كمان اقولها يا ماما .. قالتلي انتي بنتي التالتة .. انا بحبها اوي ..
احتضنها و قد ارتاح قلبه بداخل صدره ..
كم هي سيدة عظيمه امه ..
غمز لها قائلا بمرح
: تعالي نشوفهم خلصوا عياط و لا لسة ..
ضحكت تتجه معه نحو الكوخ .. ليدخل كلاهما ..
فتفتح حنان ذراعها ليمنى بينما حياة تحت الاخر .. لتركض يمنى داخل احضانها ..
: واضح ان ما فيش مكان ليا ..
لفظها بمرح .. لتنهض تخطو نحوه حتى وقفت امامه و مع فارق الطول رفحت يديها نحو وجنته تخرج كلماتها برفقة الدموع .
: ده انت نور عيني .. نبض قلبي اللي عايشة بيه ..
التقط رأسها يقبله يحتضنها في ارتواء لكلا منهما من الآخر ..
ومن بين الدموع تتناثر الابتسامات ..
لينتهي اللقاء بتحديد موعد زفاف ...

                        _____________

ارسل له القدر نسمة هواء تحمل له زهرة , استوطنت بقلبه , فدبت فيه الحياة ..
تنزل فوق درجات السلم الذهبي ذات الدرجات الحمراء  .. بطلة خطفت لبّه و انفاسة ..
القت عليه تعويذة بسحر خاص ..
سعادتها تكاد تتفاقم حتى تبلغ نجوم السماء و هي تنظر اليه متألقا بحلته السوداء ..
على يمينها منصور يطوق يديها بذراعه نازلا معها ..
خلفها سارة تتألق برونق خاص ذات جاذبية اسرت عيني حمزة الذي يقف بدوره اسفل الدرج وسط المدعوين  بفستانها الذي يحمل مزيجا بين لون النبيذ و الذهب ..

وصل منصور بكل الحب يسلمها إليه ..
وحنان تقف تنظر اليهما ابتسامة سعادة تلقي فوقهما الورود تتساقط من عينيها دموع الفرح ..
التقط يديها مقبلا اياها يغرق فقط بعينيها و ابتسامتها المشرقة .. و كأنهما بمنعزل عما حولهم .. تعزف خلفهم موسيقى هادئة فطوق يديها بذراعه يتقدما سويا داخل قاعة الاحتفال ..
اميرته و ملكته التي توجها على عرش قلبه ..
                       
                          ~~~~~~~~
بعد وقت ليس بكثير ...
: هما الحلوين علشان حلوين يعملوا كدهو .
همس بها حمزة بجوار اذن سارة عندما تجاهلت وجوده من بين الحضور ..
لتكبح جماح ابتسامتها بصعوبة .. تهديه نظرة استنكار و تتركه ذاهبة
ليهتف بصوت مرح غير عابئا بالحضور من حوله ..
: هخطفك على فكرة ..
تلألأت ابتسامتها توله ظهرها تتجه نحو قاعة الاحتفال ..
تحرك هو خلسة نحو منظم الحفلات يطلب منه مكبر الصوت و توقف انغام الموسيقى قليلا ..
ثم أخذه متجها إليها  ببطء ..
و بدأ جميع الحضور بالانتباه اليه ما ان تحدث ..
: مساء الخير .. و الف مبروك للعروسين ..
انتبهت اليه تتسع عينيها بزهول لما يفعل .. ليكمل
: حابب اقول لواحدة معانا هنا .. ملكت قلبي من اول ما شوفتها ..
عينيه معلقة بعينيها و بدأ بعض الفتيات بالبحث عما يقع نظره عليها بحماس ..
: حابب اقولها ..
صمت الجميع .. اخذ قلبها يهدر خافقا بعنف ..
: حبيبتي ..
فلتغفري لقلب عاشق ذاب عشقا في هواكي متيمُ ..
اضحى رمادا بعدما ذاق الفراق بنار فقدك في جحيم غير محجَّمُ ..
رحماكِ شمسي من ظلام دام دهرا بالفؤاد فأعتمُ ..
بكى لهيبك راغبا محو الظلام بداخلي و أبيتِ انتِ فكان لهيبك بي أرحمُ ..
ومع انتهاء كلماته كانت عينيها اغرورقت بالدموع ..
و ابتسامتها ترتسم فوق شفتيها بعشق ..
ليتحدث هو بحب و نظرات استجداء ..
: كتبتلك شعر اهو .. سامحيني بقى ..
اومأت له عدة مرات ليختطفها داخل احضانه يدور بها بين صفير و تسفيق حاد من جميع المدعوين ..
لتشرق شمس قلبه من جديد
                  ~~~~~~~~~~~
في تلك الاثناء احدهم اخبر قصي بالحضور إلى حديقة الفندق الخلفية حيث امر طارئ و هام لا يحتمل الانتظار ..
و في نفس الوقت فتاة من المدعوين تقترب من يمنى التي تقف جوار حنان بفرح تخبرها بصوت عال اثر صخب الموسيقى من حولهم ..
: انتي اخت العريس ..
فأومأت لها يمنى لتكمل ..
: هو عايزك بره في الجنينة ضروري ..
نظرت يمنى نحو مقاعد العروسين بتجد حياة بمفردها اعادت نظراتها نحو الفتاة بعدم فهم فلم تجدها لتقرر الذهاب إلى قصي كما اخبرتها تلك الفتاة ..
بخطوات متهادية خرجت من الفندق نحو الحديقة ..
لتجد قصي يوليها ظهرها وشخص ما يقف امامه يحجب قصي رؤيته و يبدو انه يسلم عليه بحفاوة ..
و بلحظة اتسعت عينيها بزهول ..
بصدمة ..
حين عانق قصي ذلك الشخص فظهر وجهه من فوق كتف قصي ..
لتصرخ باسمه جوار خطواتها الراكضة بفرح ..
: عمررررر ...
صرخت بغير تصديق ..ثم ركضت نحوه تشده من احضان قصي بلهفة ..استدار لها اخيرا يحتضن وجنتاها بين يديه و ابتسامته تخطلت بدموعه .. اما هي فتضغط بعنف فوق زراعيه و كأنها تتشبث به او تتأكد من وجوده .. تخونها الكلمات فتقوم الدموع بالمهمة
: وحشتيني يا زأردة ..
على صوت بكائها بشدة فضمها بين يديه يربت فوق ظهرها برفق حاني ..
اما عن الجبل .. فيختفي زهوله خلف ساتر نظرته الصارمة .. و دموع الفرح يكبحها عاضا على بطانة شفتيه بقوة ..
خرج صوت يمنى المتقطع من بين بكائها
: انا شوفتك .! شوفت قصي .. انت كنت .
: ششش انا اهو قدامك .
هدأت ثم شدت عليه ضمتها ..
: عايز اعرف ايه اللي حصل .. و انت كنت فين ؟
ابتسم عمر بيأس
: عايز تعرف دلوقتي .. و عروستك و فرحك ! هفهمك كل حاجة بعد الزفة ..
احتدت نظرته بصرامة
: يمنى ..
نادها فالتفتت له
: ادخلي جوه .. ما تعرفيش حد حاجة ..
رفضت نظراتها فبكت
: لا انا مش هسيبه يا ابى ..
: و لا انا ..
القاها بصدق شارد .. كان قلبه قد تحدث بها قبل حروفه ..
فتنهد عمر بقلق داخلي .. حيث هو من سيطلب الرحيل ..
: ادخلي جوه .. احنا هنيجي وراكي على طول ..
اومأ عمر ليمنى بالإذعان ففعلت و هي نظرتها معلقة به ..
: عايز اعرف دلوقت ايه اللي حصل ..
و يبدو ان الجبل لن و لم يتغير سيظل ثابتا جامدا يتغمدهم بظلامه الحامي .. و من يأبى .. فله العاصفة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي