أريدك أنت

تطلع نحوها بنظرات قلقة، هي تنطق بكلمة واحدة منذ أن خرجا من منزله، حتى حينما أخبرها عن ضرورة التكتم وعدم إظهار شئ أمام أخيها هارون ريثما يأت هو وأخيه من أجل التقدم لخطبتها هي فقط أومأت برأسها كإعلان عن موافقتها.

زفر بضيق مما يحدث، لاعنا أخيه بصوت خافت فهو السبب في تلك الكارثة التي هم فيها الآن، بنبرة حاول أن تبدو هادئة هو قال:

"للمرة المائة اعتذر لك زاد عما فعله أخي، أعلم أن اعتذاري ذاك لن يفيد بشئ ولن يعيد إليك ما قد سلب منك، لكن ذلك جل ما استطيع تقديمه الآن لك، لو كان موته سوف يعيد إليك حقك لكنت قتلته أمامك لكن ذلك لن يفيد بشئ، عليه أن يتزوج منك ثم بعد ذلك نستطيع القصاص منه وبأي طريقة تريدين ذلك"

نظر إليها بنظرات مشفقة، أراد أن يحصل منها على ردة فعل على كلماته تلك، وقد حصل حينما أنصت إليها بكلمات تمنى أنها لو ظلت صامتة لكان أفضل لكليهما:

"كنت أريدك انت من تكون زوجي وليس هو! لقد أحببتك أنت موسى، أحببتك منذ اللحظة التي وقعت عيناي عليك، كنت فارس أحلامي طوال فترة مراهقاتي ولازلت كذلك، غيرته منك هي من دفعته لأخذ ما هو ليس من حقه، أخيك قتلني بدم بارد من أجل حقده وغيرته من عشقي لك موسى"

صاعقة نزلت عليه بكل تأكيد، فهو لا يستطيع تصديق تلك الكلمات التي تفوهت بها زاد للتو، زاد التي اعتبرها دوماً شقيقة له، لكن على ما يبدو أنها كانت تضعه في مكانة أخرى يجهلها تماما، بنبرة حاول أن لا تكون جارحة هو قال:

"ولكن كيف؟! زاد أنت شقيقتي، لطالما كنت كذلك، تلك هي مكانتك في قلبي التي لم تتغير قط! أنا لا أشعر نحوك سوى بمشاعر حب أخوي وليس أكثر! لا أتذكر مرة أنني قد تصرفت معك خلافا لذلك"

أنصتت لكلماته التي كانت تعلمها جيدا، هو لم يحبها يوما! أجل! علمت ذلك لكنها حاولت كسب قلبه بالتقرب إليه على الدوام لعله يشعر بمشاعرها نحوه، لكن على ما يبدو أن جميع محاولتها معه كانت فاشلة والدليل على ذلك الذهول الذي شعر به حينما اعترفت له بحبها له!

التفت بجسدها نحوه، مدت يدها، وضعتها على ساعده الأيمن، أخبرته بنبرة متوسلة:

"أرجوك موسى أنا لا أريد أخاك! ألا تستطيع الزواج مني؟! أنا سوف أقدم لك حبي، أحاول أن اسعدك بكل طاقتي! فقط دعني أكون بجانبك!"


ما يسمعه الآن هو ضرب من الجنون، زاد فقدت عقلها بكل تأكيد، هي لا تدرك معنى تلك الكلمات التي تفوهت بها للتو! كيف لها أن تنطق بها من الأساس، الأمر الذي يصرخ بها فاقدا لقدرته على التحكم في نفسه:

"ما الذي تتفوهين به زاد؟! هل جننت حقا؟! عن أي زواج تتحدثين؟! أنت شقيقتي! شقيقتي ألا تفهمين معنى تلك الكلمة؟! ثم كيف تطلبين مني الزواج بك وأنت بمثابة زوجة لأخي؟! ألم نتفق على ذلك؟!"


"نستطيع الزواج بعدما أحصل على طلاقي من معاذ"

"اللعنة"

لم يستطع مواصلة قيادة السيارة بعدما أستمع إلى جنونها الجامح، بسرعة كبيرة صف سيارته على جانب الطريق، إن لم يفعل لكان ارتطم بسيارة ما بكل تأكيد! كلماتها تدفعه إلى الجنون، زاد غير واعية للموقف الذي هي فيه الآن! كيف يستطيع أن يجعلها تفهم أنه لا يشعر نحوها بأية مشاعر، أنه لا يستطيع الزواج منها فهي أضحت خاصة أخيه حتى لو كان ذلك وضع مؤقت بينهما!!

سباب خافت واصل ترديده حتى استطاع في النهاية كبح جماح غضبه، زفر بقوة، نظر إليها بنظرات غاضبة بينما يقول بنبرة حادة:

-  ربما أن لا تدركين ما الذي تتفوهين به زاد! أنا امنحك العذر لذلك، لكن هناك أمر يبدو أنك لا تعلمينه حتى الآن! أنا لا أستطيع الزواج منك، ليس فقط لأنك سوف تكونين زوجة أخي ولكن أيضا لأنني على وشك الزواج، سوف اتزوج من رجوة ابنة خالي، نحن قرأنا الفاتحة منذ أيام قليلة وعقد القران على وشك تحديد موعده.

وتلك كانت كذبة كبيرة منه، هو يعلم جيدا، لكنها كانت الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها جعلها تعود إلى صوابها، وحصل على ما أراد، شهقة قوية خرجت من فمها، حدجته بنظرات خيبة أمل، ثم توالت دموع صامتة الهبوط من مقلتيها، لتوقن هي بعدها أنها قد خسرت كل شيء، جسدها، روحها وحتى حبها هو الآخر خسرته!!


عاد يقود السيارة من جديد على الطريق وفي أقل من ربع الساعة كان يقف بها أمام الفيلا الخاصة بها، بصمت تام هي هبطت من السيارة، متجاهلة نداءه لها الذي وصل إلى سمعها بكل تأكيد، لقد أراد أن يشدد عليها أن تبدو طبيعية أمام أخيها، لكنها لم تكن تريد سماع المزيد، هي اكتفت بتلك الخسائر التي جمعتها في تلك الليلة البائسة من حياتها، فليتركها ترثي حالها مع نفسها.


شيعها بنظرات قلقة، تنهيدة حزن خرجت من فمه، تمنى لو استطاع منع ما حدث، أنه قد جاء في وقت مبكر لكان لحق بها قبل لحظة أخذ أخيه لها، لكن ذلك بات محال، ما حدث قد حدث! هو لن يستطيع أن يغير الماضي، جل ما يستطيع فعله هو الاقتصاص لها من أخيه، أمر آخر عليه تدبره، لقد أخبرها عن زواجه الوشيك من رجوة، تلك كانت حفرة حفرها لنفسه، لا يعلم كيف سوف يستطيع الخروج منها!!

بسرعة كبيرة انطلق بسيارته عائدا بها إلى الطريق، فليس هناك من داع لوجوده هنا بعد الآن.

*************************************
بعد نصف ساعة

عاد إلى المنزل، صف سيارته في مرآب السيارات التابع للمبنى السكني الذي يقطن به، استقل المصعد، ضغط على أزارر الطابق الخاص به، أستمر المصعد في التحرك لأعلى، حتى فوجئ به يتوقف في أحد الطوابق، وحينما نظر نحو لوحة الأرقام وجد رقم الطابق الخاص بعائلة خاله هو ما يظهر أمامه.

بعينين حائرتين تطلع نحو ذلك الوجه الباكي الذي يطل من خلف باب المصعد الذي فتح أمامه ببطء، والذي لم يكن سوى وجه رجوة ابنة خاله.

تنهيدة متعبة خرجت من فمه بينما هو يخرج من ذلك المصعد الذي سرعان ما أغلق بابه من خلفه بينما يخطو نحو الدرج بخطوات مهزومة ثم يتخذ منه مقعدا.


تطلعت نحوه بآسى وحزن، لقد انتظرت عودته في شرفة غرفتها، وحينما رأته قد عاد قررت أن تتحدث معه، تحاول أن تطمئن على زاد، وكيف أضحى حالها.

رمقت ملامحه المتعبة، كانت ملامح جندي مهزوم في معركة لم يخضها قط، سنوات من شعور الندم واليأس أحاط به كثقب أسود يوشك على ابتلاعه بداخله.

لم تجد بدى من أن تفعل مثله، تخطو نحو ذلك الدرج، تجلس على مسافة منه، تنصت إلى صوته المكتوم بينما يخبرها بنبرة بائسة:

"لقد كانت تحبني أنا، أرادت أن تتزوج مني بدلا منه"

لم تشعر هي بالدهشة من تصريحه ذاك، فهي والجميع أيضا كانوا يعلمون بحب زاد له وتعلقها الشديد به، لكن ما جعلها حقا تشعر بالحيرة، هو اختيار زاد لتلك اللحظة كي تعترف له بحبها ذاك!

تطلع نحوها بنظرات قلقة، حاجبيه ارتفعا في تعجب من صمتها ذاك، انتظر منها أن تعلق على كلماته تلك، لكنه تلقى منها الصمت فقط ونظرات مبهمة أيضا، وجد نفسه يخبرها بنبرة حائرة:

"ما بالك صامتة زاد، ألم تشعري بالدهشة من كلماتي تلك؟! لقد أخبرتك أنها تحبني أنا! عرضت علي أن نتزوج بعد طلاقها من أخي!!"

رمقته بشفقة بينما تنصت لسؤاله ذاك، وجدت نفسها تخبره بنبرة مشبعة بالحزن، رغم علمها أن كلماتها ستكون مثل مزيد من الحطب في آتون غضبه، لكنها قالت بنبرة تقرر واقعا وليس وهما:

"لا لم أدهش من ذلك موسى، فأنا كنت أعلم أن زاد تحبك بجنون و متعلقة بك أيضا"

سماعه لتصريحها ذاك جعله ينتفض بقوة، ينظر نحوها بغضب شديد، يخبرها بنبرة خشنة:

"اللعنة يا رجوة! هل كنت أنا الوحيد الأعمى عن رؤية ذلك الحب؟! ولكنني لا أذكر يوما أن قمت بمعاملتها بطريقة توحي بذلك النوع من المشاعر، بل على العكس من ذلك تماما، كنت أعتبر زاد كشقيقة صغرى لي وتصرفت معها على ذلك الأساس! فيما قد أخطئت أنا؟!"

الطريقة الغاضبة التي يتحدث بها، ذلك الشعور المتفجر من عقدة الذنب التي يشعر بها نحو زاد، بدا كثقب أسود يوشك أن يبتلعه بداخله، لقد تعاطفت معه، شعرت بالشفقة نحوه، أرادت أن تجيبه، تخبره بنبرة نافية أنه لم يفعل، لم يخطئ بشئ، هزت رأسها نافية، فتحت فمها لتتحدث، لكن ما حدث بعدها ألجمها عن الحديث، بينما تنظر لوجه أبيها وهو يتطلع إليهما بنظرات غاضبة غير راضية عما يحدث أمامه بكل تأكيد.

***************************************


"ما الذي يحدث معكما أنتما الاثنان؟! و لمَ تجلسان مثل المتسولان على الدرج بتلك الطريقة؟!"

هذا ما ينقصه حقا! أن يجده خاله أكرم يجلس مع ابنته على الدرج بتلك الهيئة، وفي تلك الساعة المتأخرة من الليل! سوف يعطيه العذر بالغضب أو الشعور بالضيق وعدم الرضا منه!!

هكذا فكر موسى بداخله بينما يتطلع لوجه خاله الغاضب، نظر نحو رجوة التي جعلتها الصدمة تنتفض واقفة على الفور ثم تنكس رأسها خجلا من والدها، هو لم يكن ليتركها تتحمل غضب أبيها أو شكه بها، كما أن ذلك الموقف الذي يحدث كان كضربة بالنسبة له، فهو لم ينسى تلك الكذبة التي أخبر بها زاد حول خطبته لرجوة وقرب موعد عقد قرانهما.

استقام واقفا من جلسته تلك، أومأ إليها برأسه، يرسل إليها إشارة تؤكيد أنه ها هنا بجوارها، لن يتركها عرضة لتوبيخ والدها أو غضبه منها، هو قال بنبرة بدت هادئة، لكن كانت بالنسبة له استسلام لقدر محتوم، هو قال:

"آسف خالي أكرم على رؤيتك لنا نجلس هكذا في ذلك الوقت، لكن الحقيقة أن لا ذنب لرجوة في ذلك الأمر، أنا الوحيد المخطئ في ذلك، كان علي من البداية أن أقصدك أنت في طلبي ذاك وليس هي، فأنت بمثابة أبي وليس خالي فقط"

لم تصدق تلك الكلمات التي تفوه بها موسى للتو، خافت حقا من أن يكون يقصد بها الأمر الذي حدث مع زاد ومعاذ، لكنها تدرك جيدا أن موسى تفكيره أفضل من ذلك، ماذا إذا كان يقصد بكلماته، نظرت إليه بحيرة وقلق فوجدته يومئ لها مرة أخرى تلك الإماءة المطمئنة، انتظرت جوابه على سؤال والدها الذي قال:

"وما هو ذلك الأمر الذي كان لابد أن تخبرني به قبلها موسى؟! هل أخبرتني بدلا من تركي أشتعل بنار الغضب!!"

وجوابه كان كإعصار تسونامي اجتاحها على الفور، زلزال بقوة تسعة ريختر هدم ثوابتها، حين قال بنبرة هادئة:

"خالي، أود الزواج برجوة، لقد سألتها عن رأيها لكني لم اتلقى الجواب بعد، فهل لك أن تسألها أنت عن جوابها، وكما أخبرتك قبل ثوان، أنت هنا تمثل دور أبي وليس خالي، عليك تذكر ذلك أرجوك"


"ما الذي يحدث بحق الله؟! ما تلك الكلمات التي يستمع إليها من فم ابن شقيقته الراحلة، موسى الراعي يطلب يد ابنته رجوة! كيف ذلك بحق الله وهما يظهران العداوة لبعضهما البعض! هل هناك شيء ما فاته في المنتصف؟! هل كانا يؤديان مسرحية هزلية حول مدى كرهمما لبعض أمام الجميع؟! ثم ما الذي يطلبه منه؟! أن يضع نفسه في موضع والده هو وليس والدها هي! ما هذا الهراء الذي يحدث بحق الله؟!"

علم موسى جيدا أن الأمر لن يتم بسهولة أو هدوء، لكن غايته تستحق ما سوف يعانيه، رغم النظرات العاتبة والحائرة من قبلها، رجوة! يستغل طيبتها وإنسانيتها أجل! لكن الأمر يتسحق حقا.


جواب سؤاله أتاه حقا، لكن ليس من خاله، بل من زوجته التي خرجت من خلفه ثم أخذت تتطلع نحوه بنظرات حانية، تخبره بنبرة حنونة ودافئة:

"وهل وجدت أكرم غير ذلك يا موسى؟! ألم تجده نعم الأب لك ولمعاذ طوال تلك السنوات الماضية؟! ولكن يا بني ألا توافقني الرأي أن طلب الزواج يستحق تقدير أكثر من الجلوس فوق درج المنزل مما يجعلكما عرضة لأحاديث الناس؟! ألا تتفق معي في ذلك موسى؟!"


"حسنا، زوجة خاله سددت هدفا في مرمى ضميره المتعب، رجوة تستحق احتراما وتقديرا أكثر من ذلك، رغم نبل غايته، لكنها لا تستحق أن تعامل بتلك الطريقة، وجد نفسه يخبرها بنبرة معتذرة قائلا:

"معك حق خالتي، رجوة تستحق افضل من ذلك، لذا أتمنى أن تحددوا لي موعدا للقدوم غدا من أجل التقدم لخطبة ابنتكما العزيزة رجوة"

بنبرة هادئة هي أجابت قائلا:

"هكذا تماما بني هي الأصول، نحن سوف ننتظرك غدا بعد صلاة المغرب أنت وأخيك إن شاء الله، وسوف نتناقش سويا في طلبك ذاك"

أومأ بتفهم إلى زوجة عمه دعاء، تلك المرأة الرقيقة الحليمة، ثم فعل بالمثل مع خاله ورجوة، ألقى عليهم تحية وداع:

"تصبحون على خير، وإلى لقاء قريب غدا إن شاء الله"

قال كلماته ثم سار مبتعدا نحو المصعد، ضغط على زر الاستعداء، وحينما وصل إليه، دلف على الفور بينما يشاهد النظرات البائسة التي ترمقه بها ابنة خاله والتي سوف تضحى عما قريب زوجته!

نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي