سلسبيل

رغم ضيقه من عدم حضور صديقه موسى لذلك الحفل الذي كان أعده خصيصا من أجله حيث من المفترض أنها ليلة مولده، مرض معاذ أخيه الأصغر هو ما جعله يتراجع عن حضور الحفل، لا يعلم كيف مرض معاذ فجأة لكن ذلك ما حدث، لقد أنهى المكالمة مع موسى منذ خمس دقائق، اعتذر لباقي الرفاق الذين كانوا يحضرون معه الحفل، تفهم الجميع سبب عدم مجئ صاحب الحفل، قرروا أن يجلسوا سويا لبعض الوقت، فهي فرصة نادرة أن يفعلوا ذلك خاصة مع إنشغال كل واحد منهم في عمله الخاص.

بينما هو ذاهب إلى المرحاض، فوجئ بتلك الفتاة آتية من الجهة المقابلة له، أبتسم لها بوقاحة ثم غمز لها بعينيه، الفتاة جفلت تقريبا من فعلته تلك، رغم ذلك هو لم يتأثر بردة فعلها تلك، لقد كانت تقريبا تغازله منذ بداية الحفل، والآن و الواعظ موسى غير موجود من حوله ستكون فرصة هائلة ليمارس سحره في المكان.

بينما يمسك بمحرمة ورقية ينشف بها يديه التي سبق وغسلها بالمياه ظهرت في عقله فكرة، تلك الفتاة قد أعجبته بشدة، ويبدو أنه كذلك، لماذا لا يحاول معها، ربما تكون فتاة سهلة المنال، توافق على الخروج معه في مكانه المعتاد، جناح فخم في فندق، ورقة زواج عرفي جديدة مصيرها القطع، ليلة سحرية، مبلغ مالي ضخم تحصل عليه هي، ثم ينتهي الأمر.

ضحك لانعكاس صورته في المرآة، في أحيان كثيرة يفكر أنه لو استعمل عقله اللعوب ذاك في العمل لكان الآن أغنى رجل في البلاد، لكن حارسه الراعي الذي يظل يحوم حوله في الجوار دوما ما يردعه عن ارتكاب تلك الأشياء، هذا لا يعني أنه يحب ممارسة الشر على الآخرين، لكنها هي الحياة وهي ليست عادلة بالمرة، موسى يقابله في أفكاره، معتقداته، بعض المبادئ وليس كلها، لو شبه نفسه بأكتافيوس المحارب الذي يحصل على كل شيء يريده لكان موسى هو انطونيوس المحارب النبيل الذي يحارب من أجل إنقاذ بلاد ليست له!!

بعدما انتهى، ألقى المحرمة في سلة المهملات ثم خطى نحو الخارج، حيث هناك فكرة لامعة في عقله، يريد تنفيذها على الفور!

سار بخطوات متمهلة وسط موائد الطعام المتراصة داخل مطعم الفندق الشهير، أخذ يتطلع بعينيه من حوله باحثا عن شقراء الشعر تلك التي كانت تغازله بعينيها منذ قليل، وجدها تخدم على مائدة ليست ببعيدة عنه، انتظرها حتى تنتهي من خدمة الطاولة، وحينما مرت من جواره، أقترب منها، مال عليها قليلا، همس في أذنها:

"أريد أن أراك بعد الدوام، تلك هي بطاقتي، هاتفيني حينما تنتهي من عملك، سوف اكون سعيدا باتصالك"

ما يحدث الآن لها هو حلم من الأحلام، ذلك الرجل اللامع ذائع الصيت يحادثها هي عاملة المطعم! إن حكت لصديقتها جنى لن تصدق ذلك وتخبرها أنها كانت تتوهم بكل تأكيد!!

تطلعت نحوه بينما هو يسير مبتعدا عنها برشاقة فهد، وضعت يدها على قلبها الذي كادت دقاته تسمع جميع من في المكان من حولها، تنهيدة خرجت من فمها غير مستعبة لما يحدث معها، خطت حيث غرفة الطهي في المطعم، تحكم قبضتها على تلك البطاقة في يدها، تأمل أنها ستصبح سندريلا جديدة مع اقتراب أجراس رأس السنة، حيث الأمنيات من الممكن أن تتحقق!


لقد صدق في وعده لها، ها هو ينتظرها في سيارته الفارهة ينتظر خروجها من الفندق، هي ابدلت ثيابها بالطبع، والآن بينما ترتدي ثوب صوفي بلون أزرق يصل إلى الكاحل، ظنت أنها ربما لتنال إعجابه أكثر، فوجئت به يبتسم لها بينما تقترب من سيارته، ترددت قليلا في الدلوف إليها، فرغم كل شيء، إعجابها، انبهارها به، هو رجل غريب عنها!

على ما يبدو ترددها ذاك وصل إليه، فلم يجد بدا من النزول من سيارته، اعطائها دفعة قليلة من كلمات الاعجاب، ثم جعلها تستقل السيارة في النهاية.

"أهلا آنسة سلسبيل، لما التردد؟! لقد انتظرتك طويلا حقا! هلا دلفت إلى السيارة، أخشى أن يلتقط الصحفيين لي صور مع فتاة جميلة مثلك وأصبح حديث الساعة، هلا تفضلت!"

ولمزيد من الإقناع تلفت من حوله في المكان، نجحت خطته، دلفت الفريسة إلى جحر الصياد بمهارة! لقد تم الأمر!

شعورها الداخلي بوجود شئ خاطئ فيما يحدث من حولها كان يتدافع في عقلها في ثورة عاتية، حاولت ردعه لكن رغم عنها سيطر عليها القلق والريبة، خاصة مع معاملته الرقيقة المبالغ فيها لفتاة قد التقيها للتو تعمل كنادلة في مطعم! حتى جاءها عقلها بالخلاصة، هي هلعت تقريبا في مخيلتها، حينما صرخت بصوت مكتوم، لنفسها فقط:

"يا الله، هل يظن أنني فتاة لعوب تخرج مع الرجال في سهرات خاصة!! لو كان يظن هذا بي فأنا في ورطة كبيرة حقا! علي الخروج من تلك السيارة على الفور! يا الله اجعل هذا الأمر غير صحيح!"

جازفت بكل شيء، أرادت أن تمنح عقلها الطمأنينة من ناحيته، سألته بنبرة بدت هادئة رغم الهلع الذي يركض في داخل عقلها:

"إلى أين سوف نذهب سيد هارون!"

فوجئ بسؤالها ذاك، لقد ظن أنها تفهم قواعد اللعبة، حينما ارتضت أن تدلف معه إلى داخل سيارته أيقن أنها من ذاك النوع، بنبرة متسلية بعض الشيء هو قال:

"بالطبع ليس إلى شقتي سلسبيل!!"

تنهيدة راحة خرجت من فمها عقب سماعها لتلك الكلمات، لم تكد التنهيدة تغادر فمها بالكلية حتى فوجئت به يكمل حديثه، يخبرها بنبرة متشدقة، فخورة بما يعرضه عليها:

"غرفة في الفندق أو جناح بمعنى أدق سوف تكون أفضل بالتأكيد، مع خدمة ملكية لنا بالطبع، أليس كذلك جميلتي؟!"


يا الله إن ذلك يحدث حقا! هو ظنها بائعة للهوى، تركض لبيع جسدها من أجل المال، لكن لا، هي طاهرة حتى النخاع، ليس معنى أنها خدعت في مظهره الراقي، طريقته الرائعة في الحديث أن تبيع نفسها له! تلك الكلمات العفنة التي استمعت لها للتو بينما فمه يتفوه بها جعلتها ترغب في التقيؤ الآن داخل السيارة! بصوت هلع، خائف هي صرخت في وجهه قائلة:

"اللعنة عليك اوقف تلك السيارة البائسة! من تظن أني أكون؟! هل أنا بائعة للهوى تركض من فراش لآخر من أجل حفنة من المال!! اللعنة عليك وعلى أمثالك من الذكور! أوقف السيارة وإلا سوف أصرخ بصوت عال لعل شرطي ما يسمعني و أتهمك بخطفي!"


ما الذي يحدث للتو؟! هل فاته شئ ما في المنتصف! تلك الفتاة ألم تدلف لسيارته بمنتهى الرضا! ما بالها الآن تصرخ في وجهه و كأن جان ما قد تلبسها! تلعنه وتطلب النزول من السيارة! اللعنة حقا إن حاولت تنفيذ تهديدها!

بتحكم شديد في غضبه، أخبرها من بين أسنانه التي كان يطحنها طحنا، بنبرة أشبه بجحيم مشتعل:

"أيتها الفتاة الحمقاء! ألم تدلفي إلى السيارة بإرادتك الحرة؟! هل أرغمتك أنا على فعل ذلك؟! ما تلك الضجة التي تفتعلينها يا بلهاء؟!"


"هل هو ينعتها بالحمقاء و البلهاء أيضا؟! حسنا سوف تجعله يرى من هي البلهاء!"

أحكمت قبضتها على حقيبة كتفها، رفعتها عاليا لفوق رأسها، وبسرعة كبيرة هبطت بها على رأسه، لتسمع بعدها صوت زعاقه في وجهها، صرير عجلات سيارته تحتك بقوة في الطريق لتتوقف السيارة على الجانب الأيمن بينما هو يصرخ في وجهها، يهبط من السيارة، يفتح بابها من الجانب، يسحبها هي إلى الخارج، كقطة شارع يتخلص منها في مقلب قمامة، هدر بها بصوت عال جعلها توشك على الموت رعبا:

"تبا لك ولغبائك الفائق! كنت تريدين أن تقتلينا سويا بفعلتك تلك؟! اذهبي أيتها الفتاة الحمقاء، لا أريد رؤيتك بعد الآن! وعملك ذاك في ذلك المطعم سوف أحرص جيدا على أن تغادرينه تماما!"

أخبرها بذلك، أبتعد عنها بسرعة كبيرة، عاد بخطوات سريعة لسيارته، استقلها، جلس على مقعد السائق، انطلق بها على الفور، مصدرا شرارات لهب من شدة احتكاك عجلات سيارته بالطريق، تاركا إياها تكاد تموت رعبا، لقد كادت تفقد جسدها، حياتها، والآن هي وحيدة وسط طريق لا تعلم عنه شيئا!!


نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي