حدائق عشقه
في شرفة واسعة بها منضدة صغيرة مع بضع كراسي مريحة وقف الاثنان، اختارت هي الوقوف، النظر إلى الشارع، تحاول أن تعد إجابات لتلك الأسئلة التي تعلم جيدا أنه ينوي سؤالها إياها لا محالة.
تطلع إليها بحيرة، لقد اختارت الصمت في بداية حوارهما المقترح، لذا لم يجد بدا من أن يفعل مثلها، يقف مسندا ظهره لسور الشرفة، لم يتطلع إلى الشارع بالأسفل مثلها، بل أختار أن يتطلع إليها هي، من كانت جل أحلامه فيما مضى والآن بات لا يعلم هل هي كذلك! أم كتب لقصتهما النسيان، فتصبح قصة انتهت قبل أن تبدأ حتى!
لم يشأ أن يستمر الصمت بينهما، لذا أخبرها بنبرة هادئة قائلا:
"والآن علي أن أشكرك حقا رجوة، لقد كنت على قدر المسؤولية، الخطبة تمت، يبقى فقط أمر زواج أخي وزاد ثم سفرهما لخارج البلاد"
أنصتت لكلماته بينما ترسم على وجهها ابتسامة مرحة، أخبرته بنبرة مازحة:
"وهل كنت تحسب أنني لست على قدر المسؤولية يا راعي؟! عيب عليك كبير! أنا كلمتي عهدا مثل الرجل تماما!"
ضحك على مزاحها ذاك، تطلع إليها بينما تحاول أن تقف في وضع رجولي، كي تثبت له وجهة نظرها، لكنها كانت غافلة حقا عن نظرات عينيه التي كانت تأكلها أكلا، بثوبها ذاك الذي ماثل النبيذ في قوته وتأثيره على قلبه، معانقا حنايا جسدها البض الناعم، فجعلها قابلة للألتهمام في أعين أي رجل، الأمر الذي دعاه لسؤالها بنبرة ماكرة قائلا لها:
"أنت تعلمين جيدا أن تلك الخطبة هي زائفة، أمر مؤقت حتى يحل أمر أخي معاذ! فلما كل ذلك التأنق إذا؟! لقد بدوت اليوم مثل عروس سعيدا حقا بخطبتها وليس مثل مسرحية نؤديها سويا"
ابتسمت له بمرح، علمت أنه سوف يسألها ذلك السؤال على الأخص، اختارت جوابا لن يدعه يشك بما تعده له، حينما قالت بنبرة مرحة:
"ذلك من أجل الدور الذي أؤديه يا راعي، ألن يشك الجميع بنا إن اخترت أن أبدو مثل بلهاء في يوم خطبتي؟! فكر قليلا يا موسى! هيا يا رجل كن واسع التفكير قليلا، لا تتردد في استعمال كل أسلحتك و حيلك!"
رفع حاحبيه بتعجب وتسلية من حديثها المازح ذاك، لقد اختارت رجوة اليوم أن تترك العنان لنفسها معه، أراد أن يشاكسها، يربكها قليلا، حينما اقترب منها بشدة، لا يكاد يفصل بينهما سوى سنتيمترات قليلة، مائلا عليها، أخبرها بنبرة متسلية:
"هل أنت واثقة من ذلك، أن أستخدم كل أسلحتي معك؟! ماذا إن أردت أن اقبلك مثلا! فقد يتطلب الدور ذلك كما تعلمين؟!"
رغما عنها شعرت بالخوف من نبرته المتسلية تلك، تطلعت إليه بنظرات زائغة بينما يميل عليها، يكاد يفعلها حقا! يقبلها كما قال، تخشب جسدها، لم تستطع الحركة، قربه كان مثل فيروس ضرب نظامها الأساسي بقوة فأضحت بلا حول ولا قوة، الأمر الذي جعلها تتساءل في داخلها برهبة، هل سوف يكون قربه منها هكذا، دمارا حلوا ولذيذ لدفاعاتها!!
بينما هو، أخذ يلعن في داخله، لقد كاد يفعلها! يقبلها، ملتهما إياها دفعة واحدة! كاد ينسى نفسه وينسى أين هما، لكنه حمدا لله عاد إلى رشده في آخر لحظة، مع تسأل حائر في داخله، جعل الأمل يولد لديه من جديد، لما هي تمنعه من الاقتراب منها بتلك الطريقة؟! لما لم تلطمه على وجهه ناعتة إياها بالحقير!! هذا لا يعني سوى شيئا واحدا! عليه أن يفهمه! هل هي؟!!
تطلع إليها بينما هي تلتف بجسدها راحلة نحو الخارج، أراد أن يمسك بها، يرغمها على البقاء، يطالبها بإجابات لأسئلته الحائرة، لكنه لم يستطع، كانت تسابق الرياح في ركضها، ليتنهد هو بتعب وحيرة، مستسلم لوجع القلب ذلك اللذيذ.
حالما عاد إلى شقته مرة أخرى بحث عن ذاك العاق فلم يجده، خمن أنه لا يرغب في التصادم معه من جديد، على أية حال ذلك أفضل للجميع، أن يختبئ منه مثل جرذ رث.
تنهد بضيق بينما يدلف إلى غرفته الخاصة، وبينما هو يشرع في نزع ملابسه عن جسده، فوجئ برنين هاتفه المحمول، قطب حاجبيه في دهشة متسألا من ذا الذي قد يهاتفه في ذلك الوقت، سار بخطوات متمهلة نحو الكومود ملتقطا الهاتف الذي سبق وأن وضعه هناك منذ لحظات قليلة، تطلع نحو شاشته بقلق ثم سرعان ما زفر بضيق بينما يشاهد اسم هارون يلمع هنالك.
فتح المكالمة على الفور، رد بصوت جاف:
"مرحبا هارون"
جاءه جواب هارون مرحا حينما قال:
"مرحبا موسى، أعلم أنك تتساءل لمَ اهاتفك في ذلك الوقت! ولكنني حقا لم أستطع أن أنتظر حتى غدا كي أنقل إليك تلك الأخبار الرائعة! خمن ماذا؟! لقد وافقت زاد على خطبة معاذ لها! العجيب في الأمر أنها لم ترفض بل وافقت! أليس هذا شيء يسبب العجب؟! على أية ومهما كانت أسبابها أنا حقا سعيد بذلك الرابط الجديد الذي سيربط بيننا صديق العمر، أخيك و شقيقتي! كم سيكون الأمر رائعا!
"هل يخبره أنه علم الجواب مسبقا، أنه لو كان ذلك حدث قبل اليوم لكان تعجب هو الآخر! لكنه يعلم، الكسر والمهانة! الشرف والعرض اللذان أٌُنتُهكا هما السبب في ذلك"
أبقى حديثه لنفسه، أخذ نفسا عميقا، لملم شتاته بينما يبلغ ذلك الفرح على الجانب الآخر على الهاتف بنبرة هادئة:
"هنيئا لنا هارون، سوف أُبلغ معاذ بذلك النبأ السعيد، انتظرا زيارة منا في الغد كي يتم الأمر بشكل رسمي"
بوجه باسم استقبل هارون تلك الكلمات ليجيب بعدها قائلا بسعادة كبيرة:
"حسنا صديقي، سوف أخبر زاد بذلك كي تستعد بتلك الزيارة التي سوف نتشرف بها بالطبع"
"إذا سوف نكمل حديثا في الصباح، وداعا هارون"
أنصت هارون لكلمات صديقه بينما يودعه على الهاتف ليخبره هو بعدها بنبرة حانية:
"وداعا يا راعي"
و الراعي حزين، قلبه منقبض، عقله أصابه الخلل، فعلة أخيه عصفت بكل شيء زرعه فيه يوما، أخلاق، مبادئ جميعها دهست تحت نعال الرغبة!
ترك الهاتف من يده بعد انهائه المحادثة تلك، عاد ليكمل نزع ملابسه، يريد أن يتحرر من تلك البذلة الخانقة، فعلى ما يبدو أن معاذ لن يجعله يحصل على لحظة راحة قط! اختار أن يرجئ إخباره بما حدثه به هارون لصباح الغد، فليست لديه طاقة لرؤيته مرة أخرى.
أنهى استعدادات نومه، ارتقى فراشه، جهز وسادته ببضع لكمات فوقها لتسويتها جيدا، بعدما حرص بالطبع على إضاءة الغرفة قبلها، تنهد بقلة حيلة بينما يناوش النعاس عينينه، ذكرى قبلة وشيكة داعبت خياله، لتكون أحلامه بعدها عن قبلات كثيرة كانت غنيمته منها.
بعد رحيل أخيها لم تستطع أن تستكمل تلك المسرحية التي كانت تؤديها، سخرت من نفسها بينما تنظر لانعكاس صورتها في المرآة، عينيها تتسرب منهما الدموع بغزارة:
"هيا زاد! لا يليق بك ذلك الدور! ملكة الدراما! أنت لا يليق بك سوى دور الملكة الغازية، تلك الجارية الخانعة أمامي في المرآة ليست أنا! و لن تكون أنا يوما ما! سوف ننتصر! سوف أهزم ذلك الشبح بكل تأكيد!"
مسحت دموعها بظهر يديها بعنف، استدارت على عقبيها، ارتمت على فراشها، مقسمة في نفسها أنه سوف يدفع ثمن ما فعله بها، لن تدعه يفلت من العقاب، ومسرحية الزواج تلك سوف تكون البداية فقط، لعنة معاذ الراعي ستكون هي "زاد العاصي"
"موسى"
تمتمت باسمه بين شفتيها للمرة المائة، وكأنما تتغنى بذلك الاسم، ابتسمت مرة أخرى حينما عاودتها تلك الذكرى بينما هما تلك الشرفة، حيث الراعي كاد يفقد عقله و يفعلها! يقبلها هي في منزل عائلتها!
حينما سألت نفسها قبل عدة ساعات بينما تتطلع للمرآة وهي في انتظاره، هل قلب الراعي مازال لها أم أصابه عطب النسيان؟! و ها هي قد حصلت على الجواب! قلب الراعي مازال لها مازالت تتجول في حدائق عشقه! تتربع على عرش ملكه!
كل شيء كما كان في الماضي مثلما هو، فقط شيء واحد تغير! هي باتت تعرف كل شئ! البسمة عادت تناوش ثغرها من جديد، شعرت بوجنتيها تكادا تحترقا من الحرارة التي غزت حينما مر بخيالها ذكرى قبلة كادت أن تحدث بينهما! لولا رحيلها بخجل كبير.
الغد جاء، كل شيء دار سريعا، موسى أخبر معاذ بموافقة زاد على الخطبة ثم اتفاقه مع هارون على زيارة عائلة العاصي اليوم لجعل الأمر رسميا، ثم حرص بعدها على اخبار عائلة خاله بما حدث وأعرب عن رغبته في ذهابهم معهما حيث أنهما عائلته الوحيدة، الخال كان أكثر من سعيدا لسماعه تلك الأنباء، حتى أنه ناوش موسى بأن عدوى الزواج سارت في العائلة، ليبتسم له موسى بزيف، ثم يرحل مودعا إياه مع وعد بأنهم سيكونون أول الحاضرين.
كانت وصية الراعي لها حينما هاتفها اليوم أن تحرص على عدم ذكر كون خطبتهما كانت بالأمس فقط، أوصت هي بدورها عائلتها بعدم ذكر الأمر لسبب في نفسها سوف تخبرهم به فيما بعد، لم يعقبوا على طلبها ذاك، فهي سوف تفصح عن سبب طلبها ذاك كما وعدت بكل تأكيد.
رؤيته لأخيه في تلك البذلة بينما تحرص زوجة خاله على رقيته بالمعوذات قبل رحيلهم إلى منزل العاصي، جعل قلبه يسقط في قدميه، لقد تمنى ذلك الأمر كثيرا، أن يشب أخيه ويصبح رجلا ثم زوجا لإحداهن، لكن فعلته جعلت كل أحلامه تتحطم، فرحته تموت بالبطئ!
استقبال هارون العاصي له ولعائلته لم يجلب لها سوى التعاسة لا الفرح، شعوره بالذنب نحو صديقه يقتله، لكن رغما عنه لابد أن يكمل دوره كأخ سعيد بخطبة أخيه وزواجه!
حاول أن يختلس نظرة لها، تلك الملكومة في شرفها، وجدها هي الأخرى تحاول أن تمثل دور الواثقة القوية، دورا لطالما اعتادت تأديته لكن مع الأسف بات لا يليق بها، عينيها تفضحا تلك الكسرة و الهزيمة التي نالت من كبريائها و كرامتها.
دوامة، هو يغرق في دوامة، أحلامه باتت حقيقة، ها هي زاده التي لطالما راوده حلم تملكها توشك أن تصبح له، شقيقيه وشقيقها اتفقا على الخطبة هي أبدت موافقتها، قدم لها خاتم ماسي، ألبسها إياه وسط فرحة عائلة خاله، زغاريد زوجة خاله التي انطلقت عالية رجت المكان أجمع!
ورغم كل شيء، رغم تلك الفرحة التي تملأ الوجوه هو يشهر بالهزيمة، وكيف لا وقد خسر أهم معركة في حياته، الحصول على قلب زاده و الفوز به! جل ما حصل عليه هو نظرات كره واحتقار من قبلها.
تلقى مباركات الجميع لهما ببسمة زائفة على وجهه، حاول أن يبدو مثل عريس فرح بخطبته، حتى لا يشك به أحد بالطبع و على رأسهم هارون العاصي.
"هيا يا راعي، عشرة أيام مدة قليلة جدا كي نجهز زفافا يليق بكلتا العائلتين، فهذا اتحاد عائلتي الراعي و العاصي! هل تريده يكون عاديا؟! سوف أحرص أن يكون اسطوريا بالطبع!"
كان هذا جواب هارون على طلب موسى الاكتفاء بتلك الخطبة الودية بين العائلتين ثم الإعلان في الصحف والمجلات عن موعد الزفاف بعد ذلك، موسى يريد أن ينتهي بالطبع من تلك الكارثة لذا سوف يمنح العاصي أسبوعا زائدا كي يرضي غروره ذاك، ليقول بنبرة جادة:
"حسنا يا عاصي، سوف نمنحك أسبوعاً آخر كي تكمل تلك الاستعدادات الأسطورية التي تخبرنا عنها، لكن ضع في عقلك أن رحلة معاذ مع فريق البلاد سوف يكون في اليوم قبل الأخير من الشهر الجاري أي بعد ثلاثة أسابيع من الآن، وهو بالطبع يريد التمتع بعروسه قبل الانضمام لمعسكر الفريق"
"فزت يا راعي، سوف نكتفي بأسبوعين فقط للتجهيز للحفل، سوف نضطر بالطبع إلى ضغط بعض الاشياء والدفع بمبالغ كبيرة لكن كل ذلك يهون مقابل سعادة عروسينا"
زفرة راحة خرجت منه بعدما أنصت لكلمات صديقه الذي رضخ في النهاية لطلبه، الآن يستطيع التنفس قليلا بعدما كاد قلبه يقف تقريبا، فالتعجيل بذلك الزفاف سيكون أفضل للجميع، وخاصة لها هي تلك التي تحاول الآن منع دموعها من النزول، وكيف لا وهي سوف تتزوج بمن قتلها!
"والآن هيا قفا سويا بجانب بعضكما البعض كي نلتقط عدة صور لكما تصلح لأن تنشر في جميع صحف البلاد يوم غد"
تلك كانت كلمات هارون التي وجهها إلى زاد ومعاذ، طالبا منهما أن يقفا سويا، يتخذا وضعا مناسبا كي يلتقط صورا لهما، وبالطبع عليهما رسم ابتسامة عريضة على وجهيمهما!
"هيا يا زاد! بضع دقائق أخرى و سوف ينتهي ذلك الكابوس، هو سوف يغادر بعد قليل، استمري في رسم تلك البسمة الزائفة على وجهك، من أجل هارون فقط"
تمتمت لنفسها بتلك الكلمات داعية في داخلها انتهاء تلك اللحظات القاتلة بالنسبة لها، غير عالمة بما يدور في قلبه نحوها، ندم شديد ربما! حب كبير ربما! و الأكثر من ذلك شعور بالذنب يكاد يقتله.
ذلك العذاب انتهى كما تمنت، بعد ساعة رحل الجميع من منزلها، تاركين إياها تخوض مع نفسها حربا شرسة، رغبة في قتله وفضح أمرها بين الجميع وعلى رأسهم أخيها! ورغبة أخرى في الاستسلام لليأس الذي بدأ يتسرسب إلى قلبها، فلقد رأت الراعي موسى اليوم معها، رجوة التي قال أنها باتت خطيبته وعن قريب سوف تصبح زوجة له، بينما هي وضعت في تلك الخانة بالنسبة له، زوجة الأخ التي أرغمت على ذلك!
لملمت يأسها، أشباح أفكارها، ذهبت إلى الغرفة بعدما تركها أخيها معللا أنه سوف يذهب للخارج في موعد هام مع أحدهم، وكان أول شيء قامت به حالما دلفت إلى غرفتها أن نزعت ذلك القيد الذي ألهب يدها، خاتم المغضوب عليه معاذ.
نهاية الفصل.
تطلع إليها بحيرة، لقد اختارت الصمت في بداية حوارهما المقترح، لذا لم يجد بدا من أن يفعل مثلها، يقف مسندا ظهره لسور الشرفة، لم يتطلع إلى الشارع بالأسفل مثلها، بل أختار أن يتطلع إليها هي، من كانت جل أحلامه فيما مضى والآن بات لا يعلم هل هي كذلك! أم كتب لقصتهما النسيان، فتصبح قصة انتهت قبل أن تبدأ حتى!
لم يشأ أن يستمر الصمت بينهما، لذا أخبرها بنبرة هادئة قائلا:
"والآن علي أن أشكرك حقا رجوة، لقد كنت على قدر المسؤولية، الخطبة تمت، يبقى فقط أمر زواج أخي وزاد ثم سفرهما لخارج البلاد"
أنصتت لكلماته بينما ترسم على وجهها ابتسامة مرحة، أخبرته بنبرة مازحة:
"وهل كنت تحسب أنني لست على قدر المسؤولية يا راعي؟! عيب عليك كبير! أنا كلمتي عهدا مثل الرجل تماما!"
ضحك على مزاحها ذاك، تطلع إليها بينما تحاول أن تقف في وضع رجولي، كي تثبت له وجهة نظرها، لكنها كانت غافلة حقا عن نظرات عينيه التي كانت تأكلها أكلا، بثوبها ذاك الذي ماثل النبيذ في قوته وتأثيره على قلبه، معانقا حنايا جسدها البض الناعم، فجعلها قابلة للألتهمام في أعين أي رجل، الأمر الذي دعاه لسؤالها بنبرة ماكرة قائلا لها:
"أنت تعلمين جيدا أن تلك الخطبة هي زائفة، أمر مؤقت حتى يحل أمر أخي معاذ! فلما كل ذلك التأنق إذا؟! لقد بدوت اليوم مثل عروس سعيدا حقا بخطبتها وليس مثل مسرحية نؤديها سويا"
ابتسمت له بمرح، علمت أنه سوف يسألها ذلك السؤال على الأخص، اختارت جوابا لن يدعه يشك بما تعده له، حينما قالت بنبرة مرحة:
"ذلك من أجل الدور الذي أؤديه يا راعي، ألن يشك الجميع بنا إن اخترت أن أبدو مثل بلهاء في يوم خطبتي؟! فكر قليلا يا موسى! هيا يا رجل كن واسع التفكير قليلا، لا تتردد في استعمال كل أسلحتك و حيلك!"
رفع حاحبيه بتعجب وتسلية من حديثها المازح ذاك، لقد اختارت رجوة اليوم أن تترك العنان لنفسها معه، أراد أن يشاكسها، يربكها قليلا، حينما اقترب منها بشدة، لا يكاد يفصل بينهما سوى سنتيمترات قليلة، مائلا عليها، أخبرها بنبرة متسلية:
"هل أنت واثقة من ذلك، أن أستخدم كل أسلحتي معك؟! ماذا إن أردت أن اقبلك مثلا! فقد يتطلب الدور ذلك كما تعلمين؟!"
رغما عنها شعرت بالخوف من نبرته المتسلية تلك، تطلعت إليه بنظرات زائغة بينما يميل عليها، يكاد يفعلها حقا! يقبلها كما قال، تخشب جسدها، لم تستطع الحركة، قربه كان مثل فيروس ضرب نظامها الأساسي بقوة فأضحت بلا حول ولا قوة، الأمر الذي جعلها تتساءل في داخلها برهبة، هل سوف يكون قربه منها هكذا، دمارا حلوا ولذيذ لدفاعاتها!!
بينما هو، أخذ يلعن في داخله، لقد كاد يفعلها! يقبلها، ملتهما إياها دفعة واحدة! كاد ينسى نفسه وينسى أين هما، لكنه حمدا لله عاد إلى رشده في آخر لحظة، مع تسأل حائر في داخله، جعل الأمل يولد لديه من جديد، لما هي تمنعه من الاقتراب منها بتلك الطريقة؟! لما لم تلطمه على وجهه ناعتة إياها بالحقير!! هذا لا يعني سوى شيئا واحدا! عليه أن يفهمه! هل هي؟!!
تطلع إليها بينما هي تلتف بجسدها راحلة نحو الخارج، أراد أن يمسك بها، يرغمها على البقاء، يطالبها بإجابات لأسئلته الحائرة، لكنه لم يستطع، كانت تسابق الرياح في ركضها، ليتنهد هو بتعب وحيرة، مستسلم لوجع القلب ذلك اللذيذ.
حالما عاد إلى شقته مرة أخرى بحث عن ذاك العاق فلم يجده، خمن أنه لا يرغب في التصادم معه من جديد، على أية حال ذلك أفضل للجميع، أن يختبئ منه مثل جرذ رث.
تنهد بضيق بينما يدلف إلى غرفته الخاصة، وبينما هو يشرع في نزع ملابسه عن جسده، فوجئ برنين هاتفه المحمول، قطب حاجبيه في دهشة متسألا من ذا الذي قد يهاتفه في ذلك الوقت، سار بخطوات متمهلة نحو الكومود ملتقطا الهاتف الذي سبق وأن وضعه هناك منذ لحظات قليلة، تطلع نحو شاشته بقلق ثم سرعان ما زفر بضيق بينما يشاهد اسم هارون يلمع هنالك.
فتح المكالمة على الفور، رد بصوت جاف:
"مرحبا هارون"
جاءه جواب هارون مرحا حينما قال:
"مرحبا موسى، أعلم أنك تتساءل لمَ اهاتفك في ذلك الوقت! ولكنني حقا لم أستطع أن أنتظر حتى غدا كي أنقل إليك تلك الأخبار الرائعة! خمن ماذا؟! لقد وافقت زاد على خطبة معاذ لها! العجيب في الأمر أنها لم ترفض بل وافقت! أليس هذا شيء يسبب العجب؟! على أية ومهما كانت أسبابها أنا حقا سعيد بذلك الرابط الجديد الذي سيربط بيننا صديق العمر، أخيك و شقيقتي! كم سيكون الأمر رائعا!
"هل يخبره أنه علم الجواب مسبقا، أنه لو كان ذلك حدث قبل اليوم لكان تعجب هو الآخر! لكنه يعلم، الكسر والمهانة! الشرف والعرض اللذان أٌُنتُهكا هما السبب في ذلك"
أبقى حديثه لنفسه، أخذ نفسا عميقا، لملم شتاته بينما يبلغ ذلك الفرح على الجانب الآخر على الهاتف بنبرة هادئة:
"هنيئا لنا هارون، سوف أُبلغ معاذ بذلك النبأ السعيد، انتظرا زيارة منا في الغد كي يتم الأمر بشكل رسمي"
بوجه باسم استقبل هارون تلك الكلمات ليجيب بعدها قائلا بسعادة كبيرة:
"حسنا صديقي، سوف أخبر زاد بذلك كي تستعد بتلك الزيارة التي سوف نتشرف بها بالطبع"
"إذا سوف نكمل حديثا في الصباح، وداعا هارون"
أنصت هارون لكلمات صديقه بينما يودعه على الهاتف ليخبره هو بعدها بنبرة حانية:
"وداعا يا راعي"
و الراعي حزين، قلبه منقبض، عقله أصابه الخلل، فعلة أخيه عصفت بكل شيء زرعه فيه يوما، أخلاق، مبادئ جميعها دهست تحت نعال الرغبة!
ترك الهاتف من يده بعد انهائه المحادثة تلك، عاد ليكمل نزع ملابسه، يريد أن يتحرر من تلك البذلة الخانقة، فعلى ما يبدو أن معاذ لن يجعله يحصل على لحظة راحة قط! اختار أن يرجئ إخباره بما حدثه به هارون لصباح الغد، فليست لديه طاقة لرؤيته مرة أخرى.
أنهى استعدادات نومه، ارتقى فراشه، جهز وسادته ببضع لكمات فوقها لتسويتها جيدا، بعدما حرص بالطبع على إضاءة الغرفة قبلها، تنهد بقلة حيلة بينما يناوش النعاس عينينه، ذكرى قبلة وشيكة داعبت خياله، لتكون أحلامه بعدها عن قبلات كثيرة كانت غنيمته منها.
بعد رحيل أخيها لم تستطع أن تستكمل تلك المسرحية التي كانت تؤديها، سخرت من نفسها بينما تنظر لانعكاس صورتها في المرآة، عينيها تتسرب منهما الدموع بغزارة:
"هيا زاد! لا يليق بك ذلك الدور! ملكة الدراما! أنت لا يليق بك سوى دور الملكة الغازية، تلك الجارية الخانعة أمامي في المرآة ليست أنا! و لن تكون أنا يوما ما! سوف ننتصر! سوف أهزم ذلك الشبح بكل تأكيد!"
مسحت دموعها بظهر يديها بعنف، استدارت على عقبيها، ارتمت على فراشها، مقسمة في نفسها أنه سوف يدفع ثمن ما فعله بها، لن تدعه يفلت من العقاب، ومسرحية الزواج تلك سوف تكون البداية فقط، لعنة معاذ الراعي ستكون هي "زاد العاصي"
"موسى"
تمتمت باسمه بين شفتيها للمرة المائة، وكأنما تتغنى بذلك الاسم، ابتسمت مرة أخرى حينما عاودتها تلك الذكرى بينما هما تلك الشرفة، حيث الراعي كاد يفقد عقله و يفعلها! يقبلها هي في منزل عائلتها!
حينما سألت نفسها قبل عدة ساعات بينما تتطلع للمرآة وهي في انتظاره، هل قلب الراعي مازال لها أم أصابه عطب النسيان؟! و ها هي قد حصلت على الجواب! قلب الراعي مازال لها مازالت تتجول في حدائق عشقه! تتربع على عرش ملكه!
كل شيء كما كان في الماضي مثلما هو، فقط شيء واحد تغير! هي باتت تعرف كل شئ! البسمة عادت تناوش ثغرها من جديد، شعرت بوجنتيها تكادا تحترقا من الحرارة التي غزت حينما مر بخيالها ذكرى قبلة كادت أن تحدث بينهما! لولا رحيلها بخجل كبير.
الغد جاء، كل شيء دار سريعا، موسى أخبر معاذ بموافقة زاد على الخطبة ثم اتفاقه مع هارون على زيارة عائلة العاصي اليوم لجعل الأمر رسميا، ثم حرص بعدها على اخبار عائلة خاله بما حدث وأعرب عن رغبته في ذهابهم معهما حيث أنهما عائلته الوحيدة، الخال كان أكثر من سعيدا لسماعه تلك الأنباء، حتى أنه ناوش موسى بأن عدوى الزواج سارت في العائلة، ليبتسم له موسى بزيف، ثم يرحل مودعا إياه مع وعد بأنهم سيكونون أول الحاضرين.
كانت وصية الراعي لها حينما هاتفها اليوم أن تحرص على عدم ذكر كون خطبتهما كانت بالأمس فقط، أوصت هي بدورها عائلتها بعدم ذكر الأمر لسبب في نفسها سوف تخبرهم به فيما بعد، لم يعقبوا على طلبها ذاك، فهي سوف تفصح عن سبب طلبها ذاك كما وعدت بكل تأكيد.
رؤيته لأخيه في تلك البذلة بينما تحرص زوجة خاله على رقيته بالمعوذات قبل رحيلهم إلى منزل العاصي، جعل قلبه يسقط في قدميه، لقد تمنى ذلك الأمر كثيرا، أن يشب أخيه ويصبح رجلا ثم زوجا لإحداهن، لكن فعلته جعلت كل أحلامه تتحطم، فرحته تموت بالبطئ!
استقبال هارون العاصي له ولعائلته لم يجلب لها سوى التعاسة لا الفرح، شعوره بالذنب نحو صديقه يقتله، لكن رغما عنه لابد أن يكمل دوره كأخ سعيد بخطبة أخيه وزواجه!
حاول أن يختلس نظرة لها، تلك الملكومة في شرفها، وجدها هي الأخرى تحاول أن تمثل دور الواثقة القوية، دورا لطالما اعتادت تأديته لكن مع الأسف بات لا يليق بها، عينيها تفضحا تلك الكسرة و الهزيمة التي نالت من كبريائها و كرامتها.
دوامة، هو يغرق في دوامة، أحلامه باتت حقيقة، ها هي زاده التي لطالما راوده حلم تملكها توشك أن تصبح له، شقيقيه وشقيقها اتفقا على الخطبة هي أبدت موافقتها، قدم لها خاتم ماسي، ألبسها إياه وسط فرحة عائلة خاله، زغاريد زوجة خاله التي انطلقت عالية رجت المكان أجمع!
ورغم كل شيء، رغم تلك الفرحة التي تملأ الوجوه هو يشهر بالهزيمة، وكيف لا وقد خسر أهم معركة في حياته، الحصول على قلب زاده و الفوز به! جل ما حصل عليه هو نظرات كره واحتقار من قبلها.
تلقى مباركات الجميع لهما ببسمة زائفة على وجهه، حاول أن يبدو مثل عريس فرح بخطبته، حتى لا يشك به أحد بالطبع و على رأسهم هارون العاصي.
"هيا يا راعي، عشرة أيام مدة قليلة جدا كي نجهز زفافا يليق بكلتا العائلتين، فهذا اتحاد عائلتي الراعي و العاصي! هل تريده يكون عاديا؟! سوف أحرص أن يكون اسطوريا بالطبع!"
كان هذا جواب هارون على طلب موسى الاكتفاء بتلك الخطبة الودية بين العائلتين ثم الإعلان في الصحف والمجلات عن موعد الزفاف بعد ذلك، موسى يريد أن ينتهي بالطبع من تلك الكارثة لذا سوف يمنح العاصي أسبوعا زائدا كي يرضي غروره ذاك، ليقول بنبرة جادة:
"حسنا يا عاصي، سوف نمنحك أسبوعاً آخر كي تكمل تلك الاستعدادات الأسطورية التي تخبرنا عنها، لكن ضع في عقلك أن رحلة معاذ مع فريق البلاد سوف يكون في اليوم قبل الأخير من الشهر الجاري أي بعد ثلاثة أسابيع من الآن، وهو بالطبع يريد التمتع بعروسه قبل الانضمام لمعسكر الفريق"
"فزت يا راعي، سوف نكتفي بأسبوعين فقط للتجهيز للحفل، سوف نضطر بالطبع إلى ضغط بعض الاشياء والدفع بمبالغ كبيرة لكن كل ذلك يهون مقابل سعادة عروسينا"
زفرة راحة خرجت منه بعدما أنصت لكلمات صديقه الذي رضخ في النهاية لطلبه، الآن يستطيع التنفس قليلا بعدما كاد قلبه يقف تقريبا، فالتعجيل بذلك الزفاف سيكون أفضل للجميع، وخاصة لها هي تلك التي تحاول الآن منع دموعها من النزول، وكيف لا وهي سوف تتزوج بمن قتلها!
"والآن هيا قفا سويا بجانب بعضكما البعض كي نلتقط عدة صور لكما تصلح لأن تنشر في جميع صحف البلاد يوم غد"
تلك كانت كلمات هارون التي وجهها إلى زاد ومعاذ، طالبا منهما أن يقفا سويا، يتخذا وضعا مناسبا كي يلتقط صورا لهما، وبالطبع عليهما رسم ابتسامة عريضة على وجهيمهما!
"هيا يا زاد! بضع دقائق أخرى و سوف ينتهي ذلك الكابوس، هو سوف يغادر بعد قليل، استمري في رسم تلك البسمة الزائفة على وجهك، من أجل هارون فقط"
تمتمت لنفسها بتلك الكلمات داعية في داخلها انتهاء تلك اللحظات القاتلة بالنسبة لها، غير عالمة بما يدور في قلبه نحوها، ندم شديد ربما! حب كبير ربما! و الأكثر من ذلك شعور بالذنب يكاد يقتله.
ذلك العذاب انتهى كما تمنت، بعد ساعة رحل الجميع من منزلها، تاركين إياها تخوض مع نفسها حربا شرسة، رغبة في قتله وفضح أمرها بين الجميع وعلى رأسهم أخيها! ورغبة أخرى في الاستسلام لليأس الذي بدأ يتسرسب إلى قلبها، فلقد رأت الراعي موسى اليوم معها، رجوة التي قال أنها باتت خطيبته وعن قريب سوف تصبح زوجة له، بينما هي وضعت في تلك الخانة بالنسبة له، زوجة الأخ التي أرغمت على ذلك!
لملمت يأسها، أشباح أفكارها، ذهبت إلى الغرفة بعدما تركها أخيها معللا أنه سوف يذهب للخارج في موعد هام مع أحدهم، وكان أول شيء قامت به حالما دلفت إلى غرفتها أن نزعت ذلك القيد الذي ألهب يدها، خاتم المغضوب عليه معاذ.
نهاية الفصل.