الذئب البشري

بعد عدة أيام

لقد نفذ ذلك الوغد وعده لها، ها هي تبحث عن عمل جديد لها بعد أن طردت من عملها في ذلك الفندق كما وعد تماما، الرجل الذئب ذاك! ما الذي استفاده من طرده لها من عملها؟! هل أثبت لنفسه بتلك الفعلة أنه رجل ذو سلطة ونفوذ؟! يالا لحماقة الرجال حقا هي أغبى الكائنات على الكوكب!!

رنين هاتفها المحمول أخرجها من حالة الشرود تلك، ذلك الهاتف الذي كان السبب في إنقاذها ذلك اليوم، حيث بواسطته استطاعت حجز سيارة أجرة من تطبيق شهير على الهاتف، تم إنقاذها بنجاح في تلك الساعة من الليل، حمدت ربها كثيرا حينها أن الله نجاها من تلك الحفرة التي كادت تقع بداخلها دون أن تدري!

رمقت شاشة الهاتف بقلق، والدتها هي من تتصل بها، وهي لا تفعل ذلك إلا حينما يكون الأمر ضروري للغاية، بسرعة شديدة فتحت المكالمة، قالت بصوت قلق:

"أمي، ما الأمر؟! هل أنت بخير؟! ما الذي حدث؟!"

نطقت بتلك الكلمات، انتظرت الجواب، لكن الصوت الذي آتى من الجانب الآخر لم يكن صوت والدتها، بل صوت جارتهم أم سليم التي تطمئن على والدتها من وقت لآخر كما توسلت إليها هي! أمها مريضة قلب، تحتاج لرعاية، علاج باهظ أيضا، لكن ما باليد حيلة! ليس هناك غيرهما، تقطنان في شقة في حي متواضع تركها لهما والدها الراحل، لا أحد يسأل، لا أحد يريد أن يسأل عليهما بمعنى أصح!!

لم تستطع كتم نبرة الذعر في صوتها حينما قالت:

"خالتي أم سليم! لم أنت التي تجيبين على الهاتف وليس أمي؟! ما بها؟! هل حدث لها مكروه لا قدر الله؟!"

أخبرتها بذلك، انتظرت جوابها، والذي كان كصاعقة لها:

"أنا آسفة بنيتي سلسبيل، لكن والدتك بينما نحن في طريقنا للسوق هناك سيارة ما قد صدمتها، ابني سليم كان في مكان عمله بجوار السوق لحسن الحظ وساعدنا في طلب سيارة إسعاف لها"

لم تستطع سماع المزيد من الكلمات، قاطعتها على الفور بنبرة هلعة قائلة:

"لا تقولي أم سليم، أرجوك لا تقولي أن أمي ماتت"

كان دور أم سليم هنا في المقاطعة حينما قالت:

"ابصقي تلك الكلمات من فمك صغيرتي، والدتك مازلت على قيد الحياة الحمد لله، لكنها تحتاج النقل إلى المشفى على الفور، سوف نأخذها أنا وسليم إلى هناك بعربة إسعاف قد طلبها هو منذ دقائق كما أخبرتك، أنت الحقي بنا على الفور، سوف ننتظرك هناك صغيرتي، وداعا الآن على ما يبدو العربة وصلت"

رغم أن المكالمة قد انتهت بعدما أغلقت أم سليم لكن الهاتف مازال على أذنها، الصدمة قد جمدتها، هي لا تستطيع التحرك من مكانها الآن، لكن عليها أن تفعل، تهزم خوفها، قلقها والدتها تحتاج لها بقوة

اخفضت الهاتف، وضعته في حقيبتها، بحثت عن سيارة أجرة فارغة، وحينما وجدت، أشارت لها على الفور، ليقف سائقها أمامها، دلفت هي في ثوان لداخل السيارة بينما تملي على الهاتف اسم تلك المشفى القريبة من مكان سكنها.


مشفى خاص بالقرب من الحي المتواضع وصلت إليه سيارة الإسعاف، ومن بعدها بدقائق سيارة الأجرة التي حملتها هي، نقدت السائق ثم ترجلت من السيارة بسرعة كبيرة، أخرجت الهاتف من الحقيبة، هاتفت أم سليم، تريد معرفة مكانها، اجابتها على الفور، وصفت لها المكان الذي يحتجزون به والدتها الآن، هرعت هي إليه دون تفكير.


حينما وصلت لذلك المكان، فوجئت بأم سليم تقف بصحبة ابنها أمام غرفة الإنعاش في المشفى، هذا لا يعني سوى شيئًا واحد، والدتها في حالة خطرة!


هرولت ناحية أم سليم، أخذت تسألها عن حالة والدتها بصوت جزع، وجدتها تضرب كفا على كف، تشاركها البكاء على حالة والدتها تلك بينما تجيب:

"لا اعلم شيئا بنيتي، لقد ادخلها الأطباء و المسعفين إلى تلك الغرفة بعد دخولنا على الفور، لم يقل أحدهم شئ حتى الآن! اهدئي صغيرتي، سوف يخرج طبيب ما بعد قليل ويخبرنا عن حالاتها، عليك التحلي بالصبر سلسبيل، انهيارك لن يفيدها بشئ!"

انصتت لكلمات أم سليم بذهن مشتت، رغم عنها مهما حاولت لن تستطيع كبت حزنها على والدتها، هي الوحيدة المتبقية لها في تلك الحياة البائسة! لكن عليها أن ترغم نفسها على التماسك، أن تقوي حالها أكثر! والدتها لن تكون راضية عنها إن رأتها على تلك الحال!

مسحت دموعها بظهر يدها، تظاهرت بالجلد والقوة أمام الجميع، انتظرت معهم خروج أحد الأطباء من داخل غرفة والدتها، وحينما حدث ذلك، هرعت نحوه، سألته عن حالة والدتها، فوجئت به يخبرها بنبرة عملية:

"مع الآسف آنستي، والدتك في حاجة لعملية في القلب على الفور، على ما يبدو أنها أهملت في تناول أدويتها منذ فترة ليست هينة، وذلك الحادث أدى لتفاقم المرض، الآن ليس هناك طريقة لإنقاذ حياتها سوى إجراء جراحة لها!!"


استمعت لكلمات الطبيب بقلب متعب، مثقل بالوجع، لقد أخبرها أن السبيل الوحيد الذي تستطيع أن تكون والدتها به على قيد الحياة هو إجراء جراحة لها، والتي لابد أنها تكلف الكثير من المال؛ حاولت أن تسأل ذلك الطبيب عن تكلفة الجراحة تلك، تريد أن تعلم هل هي تغرق في بحر أم محيط عميق، فوجئت به يخبرها برقم فلكي لن تستطيع تجميعه بعد عدة أعوام وليس بعد عدة ساعات كما يخبرها!!

وجدت نفسها تتراجع للخلف بخطوات مقهورة، تجلس على ذلك المقعد الحديدي البارد، تضع جسدها المثقل بالهم عليه، تفكر في مصيبتها تلك، المعضلة الكبرى كانت، من أين سوف تأت بذلك المبلغ؟! هل تبيع الشقة التي تعيشان بها؟! حتى إن فعلت! يلزم ذلك أسابيع من الزمن! هل تقترض من أحدهم المال؟! ولكن من لديه مثل ذلك المبلغ في حيهم الفقير؟!

نظرت إلى أم سليم بقلة حيلة، بينما يغادر الطبيب الذي ابلغهم أن والدتها الآن تلقت عقارا مهدئا، سوف تنام بعده لعدة ساعات، ليس هناك فائدة من جلوسها هنا، سوف تذهب لجلب فنجان قهوة لها، لكن بعد أن تقدم الشكر لأم سليم وابنها أيضا.



بعدما نجحت أن تباع لها كوب من القهوة من داخل مقهى المشفى، حملتها في يدها وبدأت تبحث لها عن طاولة فارغة، حالما ابصرتها توجهت لها على الفور، جلست على المقعد بعدما وضعت كوب قهوتها على سطح الطاولة، داهمها وجع الرأس بقوة، بكاؤها على والدتها، حالة القلق والتوتر التي كانت تعيش فيهم مؤخرا ساهم في تفاقم ذلك الوجع، فكرت في نفسها أنه ربما تكون هناك حبة لوجع الرأس في داخل حقيبتها، وبينما هي تفعل، تمد يدها لداخل الحقيبة بحثا عن تلك الحبوب، إذ بيدها تقع على ورقة قاسية ما، حينما اخرجتها من داخل الحقيبة بتعبير متعجب رسم على وجهها، إذ بها تفاجئ ببطاقة ذلك الذئب البشري الذي راودها عن نفسها في تلك المرة.

صراع مرير نشأ في داخلها بعدما وقعت تلك البطاقة في يدها، شعورها بالخوف والعجز حول والدتها دفعها لتفكر في عرضه المخزي لها، شعور آخر بكرامة وكبرياء يأبيان الخضوع من ناحية أخرى، رغما عنها دمعات عينيها تساقطت كغيمة ألقت حمولتها من غيث فجأة، حتى أن تلك البطاقة حينما عادت لتمسكها مرت أخرى بينما هي تنهض من على ذلك المقعد حاسمة أمرها، كانت مبتلة عن آخرها، ها هي دموعها سقطت قبل حتى أن تسقط هي.

سيارة أجرة قامت بإيصالها إلى العنوان الذي كتب في ظهر تلك البطاقة، ضحكت بسخرية على حالتها بينما تنقد السائق أجرته، ها هي تساق لقاع الرذيلة التي رفستها، لكن سوف تحرص ألا يكون الثمن بخسا، بل باهظ بقوة، سوف يكون نجاة والدتها من الموت!


فتاة الاستقبال نظرت بسخرية إلى تلك الفتاة التي تريد مقابلة رئيسها في العمل الآن، ذلك المظهر الرث، الوجه الخالي من الزينة ليس من نوع رئيسها المفضل في النساء، هي تعلم ذوقه جيدا، أليس جميعهن يمررن عليها في كل وقت وحين، حاولت أن تخبر الفتاة بلطف عن صعوبة استقبال رئيسها لها، خاصة مع عدم وجود موعد مسبق لها، هي قالت بنبرة هادئة بدت مهذبة:

"أخشى آنستي أنك لن تستطيعي مقابلة السيد هارون الآن، فهو لديه اجتماع هام، كما أنك ليس لديك موعد مسبق معه، لذا أرجوك أن ترحلي في هدوء من المكان!"

علمت جيدا صعوبة مقابلتها له في مكان عمله، فهو الرئيس كما يقولون عنه، محال أن ينظر إلى فتاة مثلها أو أن تحظى هي بموعد معه، نظرت لتلك الفتاة التي ترمقها بنظرات ساخرة رغم نبرة الرقي الزائف التي تتحدث بها معها، قررت أن ترمي ما في جعبتها من حديث حينما أخبرت الفتاة العاملة بنبرة نزقة:

"أخبري رئيسك هارون أن الآنسة سلسبيل، فتاة المطعم تريد رؤيته، اعطيه هذا أيضا!"

نطقت بتلك الكلمات، بينما تمد يدها لها بتلك البطاقة التي مازالت لم تجف تماماً بعد، لترمقها الفتاة بنظرات غير مصدقة، فرئيسها لا يعطي بطاقته الخاصة لأي أحد! ماعاد فتاة ما قد تروق له، لم تشأ أن تنل غضب سيدها إن علم أن الفتاة قد جاءت إلى هنا وهي صرفتها، لذا هي لجأت إلى الحل الأسهل، قامت بطلب الرقم الخاص بمكتب المساعدة الشخصية للسيد هارون، ثم تحصل على الجواب منها.


علمت جيدا بينما تصحبها الفتاة نحو المصعد الخاص بالشركة كي تقابل المدعو هارون أنه لن يفلت تلك الفرصة من يده بعدما قد جاءته بقدميها إلى عرينه، سوف تكون فرصة رائعة للتشفي بها والانتقام منها أيضا، تسلحت ببعض الكبرياء الواهن بينما تسير بصحبة الفتاة، تدلف إلى المصعد ومنها إلى الطرقة المؤدية إلى مكتب "هارون العاصي"


لم يصدق ما سمعه للتو، حينما أخبرته المساعدة الخاصة به راجية عن اسم تلك الفتاة التي تريد رؤيته كاد يبصق القهوة من فمه! سؤال صارع للخروج على لسانه سأله لنفسه بعدما غادرت المساعدة كي تستقبل الفتاة لدي مجيئها إلى المكتب، وهو:

"تبا، ما الذي جاء بتلك الفتاة إلى هنا الآن؟! هل جاءت من أجل أن تحصل على بعض المال نتيجة ابتزازي بنشر ما حدث في أحد المجلات أو المواقع الإلكترونية؟!"

غضب شديد تملك منه بعد أن جالت تلك الأفكار في عقله، ليقف فجأة من على مقعده، يتجه نحو الخارج، ليكون في استقبال الفتاة بدلا من راجية، فليس هناك من داع أن يدعها تثرثر مع مساعدته والتي من الجائز تنقل الأخبار إلى موسى، الأمر الذي سيكون ضربة قاضية له بكل تأكيد.



ذلك القناع الجامد الذي وضعه على وجه قبل مقابلتها، تلك الأفكار الغاضبة التي جالت في عقله، جميعها ذهبت حينما وقع بصره عليها! تلك الفتاة التي أمامه الآن لا تمت بصلة للفتاة التي أرادها بشدة منذ عدة أيام! هذه فتاة أخرى بالتأكيد، رغم تشابه الملامح، لون الشعر ولون العينين كذلك، لكن ذلك الوجه البائس، الاحمرار الشديد في العينين، الفتاة تبدو وكأنها خرجت من فراش الموت للتو!! بينما الأخرى كانت متوهجة، عينيها تبرقان بينما تنظر إليه بانبهار، فرح كبير على وجهها الفاتن!

كان يفكر في ذلك ولا يعلم أن تلك تكاد الحقيقة فعلا!!

وجد نفسه ينقل نظراته من عليها إلى مساعدته بينما يخبرها بنبرة هادئة قائلا:

"هلا تركتنا لوحدنا راجية، من فضلك أيضا اوصي لنا ببعض من العصير الطازج، شراب ليمون سيكون أفضل"

انصتت المساعدة لطلبه، غادرت في هدوء، حاول هو أن يتماسك قليلا، يخرج من حالة الصدمة التي وقع فيها للتو، لذا بهدوء شديد سار نحو نافذة المكتب التي تحتل منتصف حائط، نظر إلى أسفل حيث شوارع العاصمة المختنقة بالزحام، سألها بنبرة جامدة دون أن يلتفت لها قائلا:

"ما الذي جاء بك إلى هنا؟! هل جئت من أجل الحصول على بعض المال مني؟!"

فوجئ بها تخبره بنبرة خافتة:

"أجل"

جوابها فاجأه حقا، جعله ينزع يلتفت لها، ينزع عن قناع الجمود الزائف، مخرجا وحش الغضب من معقله، بينما يقول بنبرة خارجة من آتون مشتعل:

"أنت تخبريني بكل وقاحة ممكنة أنك تفعلين!! يا لك من فتاة رخيصة الثمن حقا!"

فوجئت من هجومه عليها بتلك الكلمات المهينة، لقد ظنت أنه سوف يسعد بانتقامه منها وليس ردة الفعل تلك، رغما عنها وجدت نفسها تخبره بنبرة زاعقة مشبعة بالألم بينما تشير بسبابتها نحوه:

"بل أنت الرخيص حقا، لقد قمت بمساومتي على جسدي وحينما رفضت غضبت بقوة مني، والآن حينما جئت إليك في مكان عملك أعلن استسلامي لك تنعتني بالرخيصة! انظر جيدا إن كنت تظن أنك تملك الناس بمالك فأنت مخطئ بكل تأكيد، اللعنة عليك يا رجل!"

ما الذي أستمع إليه للتو؟! هل هي قالت إنها جاءت تعلن استسلامها له الآن! أي أنها لم تأت من أجل أن تساومه على قصتهما معا مقابل بعد المال! تلك الفتاة تبدو أنها تحتاج المال بشدة، فلو يوجد واحدة بمثل كبرياؤها تخنع وتستسلم لما يعرضه عليها إلا أنها في حاجة بائسة للمال، كاد أن يستسلم لفضوله كي يسألها عن سبب تراجعها عن رأيها لكنه فوجئ بالطرقات على باب مكتبه، علم أن هذا ربما يكون العامل يوصل له المشروبات التي طلبها، بصوت عال هو قال:

"ادخل"

لبى الطارق النداء، دلف على الفور حاملا في يده صينية صغيرة عليها كوبان من العصير وكوب واحد من الماء، أشار له أن يضع الصينية على سطح المكتب ثم يعود أدراجه على الفور.

رمقها بنظرات حائرة بينما هي تحاول أن تتمالك غضبها في وجود العامل، وجد نفسه يخبرها بعدما تأكد من كونهما وحيدين في المكان:

"هناك سوء فهم حدث بيننا، تعال لتناول كوب من العصير الطازج ثم بعدها نعاود الحديث"

فوجئ بها تخبره ردا على طلب هدنة بينهما:

"أنصت إلي جيدا، أنا لم آت للتسلية، أنت عرضت علي عرض وأنا قبلت، جسدي مقابل بعض المال، هناك شرط واحد فقط أود أن أخبرك به قبل البدء في أي شيء"

فعل كما أرادت منه، أنصت إليها جيدا، كانت حازمة في كلامها، لم يروق الأمر له بالطبع، لا أحد يفعل ذلك معه، يعطيه الأوامر بتلك اللهجة وينجو، هو فقط يعطيها الحبل الذي سوف تشنق به نفسها، يؤجل لها الحساب لساعة الحساب والذي سوف يحرص أن يكون مضاعفا، أخبرها بنبرة جامدة عكس الغضب الكامن في داخله:

"وما هو شرطك آنسة سلسبيل؟! هل اخبرتني به الآن من فضلك؟!"



نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي