بائعة للهوى

آلام شديدة كانت تقتات على جسدها الذي طالبها بالعودة إلى الحياة مرة أخرى، بوهن شديد فتحت عينيها، رمشت عدة مرات تحاول استيعاب المكان الذي هي فيه الآن، لمحات من فتاة تصرخ بقوة مستنجدة بأحد ما كي ينقذها من رجل يحاول اغتيال روحها وبراءتها.

الفتاة كانت هي، ثقل كبير شعرت به في قلبها، جسدها بدأ يأن من جديد، ما حدث لها أكبر من قدرتها على التحمل، انتفضت بقوة من رقدتها على الفراش، أزاحت الغطاء من على جسدها، متفحصة إياه جيدة، قميص بلا أكمام يغطي جسدها من الأعلى مع بنطال بلون داكن في الأسفل، لم تعلم متى حدث هذا وارتدت تلك الملابس، جل ما تتذكره هو غيابها في غياهب النوم.


تحاملت على نفسها وهبطت من على الفراش بعدما تأكدت من خلوها من قاتلها، هرعت بسرعة كبيرة رغم وجعها نحو الخارج حتى وصلت إلى باب الغرفة، دون أن تنتظر ثانية واحدة أخرى فتحت الباب وركضت.


البنطال حجمه كان كبير إلى حد ما، مما أعاق حركتها، لقد استمرت في الركض مشمرة إياه إلى أعلى ركبتيها لكن كان ينفلت منها من شدة ركضها، استغلت نزولها إلى الطابق السفلي عن طريق سلم الطوارئ، جلست على إحدى درجاته، تحاول التقاط أنفاسها اللاهثة.

عادت للركض من جديد، لا تريد أن يلحق بها، عليها الوصول إلى غرفتها المشتركة مع بعض الفتيات العاملات في الفندق، لا يجب أن تدعه يعثر عليها مرة أخرى ويعذبها بإنتقامه الزائف.

وصلت إلى حيث تلك الغرفة، فوجئت بابها مفتوح، تطلعت بقلق شديد نحوه بينما تسير بخطاها مقتربة منه، وحينما دلفت إليها شهقة عالية خرجت من جوفها، لقد السيد عماد في داخلها بصحبة فتاتان من زميلاتها، صوت الشهقة وصل إليهم مما جعل الجميع يلتفت إليها، نظرات ازدراء وجهت إليها من الأعين الساخرة، كان عماد هو من تحدث بينما يصرح بكلمات حازمة وساخرة قائلا للفتاتان:

"لا أريد أي حاجايات تلك السافرة هنا في المكان، لقد طردت شر طردة، لا نريد لها أثرا، أجمعوا الحاجيات بسرعة ثم ألقيا بها إلى الخارج، فمثيلاها من الخاطئيات لا يجب أن يجمعنا بهن مكان واحد!!"


ما تلاه السيد عماد على مسامع الفتاتان لم يكن مجرد كلمات بالنسبة لها! بل خناجر دفست في سم منقوع ووجهت إلى قلبها وروحها!! لقد باتت خاطية في نظر من اعتبرته عم لها في حياتها البائسة! كيف سوف تستطيع العيش بعد ذلك؟! ظنت إن حاولت الشرح له سوف يفهم، يساعدها! لكنها كانت تتوهم ذلك!!

الجميع ينتظرون منك أن تقع ثم يظهرون الوجه الحقيقي لهم!! لكنها رغم ذلك تعطيه العذر في نعتها بأسوء الكلمات، لقد شاهدها عارية في أحضان رجل!! ما الذي سوف يفهمه من ذلك سوى أنها رخيصة الثمن! بائعة للهوى ربما!! الحياة أظلمت في عينيها، لم تعد هناك فائدة من وجودها على قيد الحياة!!

جميع من تحب رحلوا، تاركين إياها وحيدة لا سند ولا ظهر لها، لمَ العيش إذا؟! اتخذت قرارها في ثانية واحدة! مثيلاتها لا يسحققن العيش كما قال رئيسها، بحدة كبيرة لفت جسدها، عادت تركض من جديد، وتلك المرة تعلم وجهتها جيدة! وجهة لن تعود منها مرة أخرى إلا وهي جثة هامدة.

غير عابئة بتلك النظرات المتعجبة التي يرمقها بها جميع من تتصادم معهم في طريقها، خطوات ركضها السريع اوصلتها إلى حيث ذلك،د المتباهي بزرقته و ضخامته، بحر هائج يريد ابتلاع كل ما تطوله أمواجه، لم تتردد ولو لحظة واحدة! قرارها حاسم، تهرول لداخله، حتى غمرت المياه ركبتيها، الجزء الأسفل من جسدها، وصلت إلى فوق معدتها، غطت صدرها، غمرتها المياه بالكامل، رأس فقط هي من كانت تناضل، بدافع الغريزة تفعل، الحياة غريزة إنسانية بحتة، الموت عدوها الأول، لكن في النهاية، القرار قد أتخذ! ولا عزاء للندم!!



لقد أحرق علبة تبغ كاملة، هذا ما علمه بينما يحاول إخراج واحدة أخرى من علبة تبغه المستورد باهظ الثمن، بتأفف تام ألقى العلبة على أرضية الشرفة لاعنا كل شيء من حوله، ساعة كاملة قضاها في داخل تلك الشرفة تاركا لها المجال كي تحصل على حصتها من الراحة، فكر بداخله عليه أن يعود إلى الداخل للحصول على علبة أخرى، ينفس بها عن مقته وغضبه.

استقام واقفا من جلسته على ذلك المقعد المريح، تمطع بجسده لعدة ثوان راغبا في إعادة الدماء لقدميه اللذان تعبا من فترة الجلوس تلك! مر بناظريه على أسفل حيث ذلك البحر الغاضب، كاد يخفض نظره مبتعدا عن تلك اللوحة من الطبيعة الخلابة، حتى فوجئ بأحد ما يصارع الغرق.


سبات بذيئة خرجت من فمه، صراخ عال أطلقه، يحاول تنبيه العاملين في الفندق إلى ما يحدث، رؤية أحدهم يركض نحو ذلك الذي يكاد يفقد حياته هدئت من غضبه قليلا، بضعة أشخاص ركضوا أيضا من خلفه، حمد ربه بصوت خافت بينما يشاهد أحدهم يحمل الغريق بين يديه ثم ارقده على الرمال في الأسفل.


قلق غريب بدأ يتسلل إلى داخله بينما يشاهد ملابسه، لقد كانت تشبه إلى حد ما ملابسه الرياضية الخاصة به، والتي كان قد ألبس منها للتو...

"اللعنة على ذلك"

لعن بصوت عال بينما يركض خارجا من تلك الشرفة ومن غرفتها كلها، لم يعلم كيف استطاع أن يركض بكل تلك السرعة بينما يقترب من ذلك الجاثي فوقها يحاول أن يقوم بعمل تنفس صناعي لها بعدما استطاع إخراج المياه العالقة في جوفها، بصوت هادر متقطع هو قال:

"توقف، توقف لا تفعل"

نظرات دهشة وتعجب تلاقها بينما يمر مخترقا الجمع المحيط بها، حاول أن يهدئ أنفاسه اللاهثة، نفسا عميقا أخذه مستعيدا قدرته التنفس بصورة طبيعية، مفكرا كيف سوف يستطيع مساعدتها وهو يلهث بصوت عال.

ثوان قليلة مرت كان هو يهوى على ركبتيه بجوارها، يتطلع إليها بحسرة وألم، غضب أيضا شعر به نحوها، متسألا في نفسه كيف استطاعت أن تفرط في روحها بتلك الطريقة وتحاول الانتحار.

مال عليها بجذعه، وضع شفتيه على شفتيها بعدما أغلق أنفها بأصابع إحدى يديه، نفخ بداخلها عدة من أنفاسه ثم رفع رأسه لينظر نحوها ويرى مدى استجابتها له، عاد يكرر الأمر مرة تلو مرة حتى أستمع إلى صوت شهيق عال ثم سعال يخرج منها، أمسك بجزعها جيدا رافعا إياه للأعلى ثم أخذ يميلها لأحد جانبيها، كي تستطيع تقيؤ الماء المالح وبقاياه من معدتها.

همهمات وتساؤلات الجمع المحيط بهم وصلت إلى سمعه، كانوا يحاولون التكهن عن هوية تلك الشابة التي كادت أن تلقي حتفها في داخل تلك المياه، ولولا عناية الله لكانت من ضمن الراحلين الآن.

بهدوء شديد أخذ يربت على ظهرها، همس في أذنها بصوت خافت، حاول أن يبث بها بعض الطمأنينة، يمنحها الراحة ولو مؤقتا، بدون عناء رفعها بين ذراعيه ثم سار بها نحو البناية حيث الفندق الذي يقيم بها، نظرات شفقة وآسى حدجها بها البعض، بينما الآخرين تسألوا بأعينهم كيف لرجل الأعمال الشهير أن يحمل فتاة ضالة بتلك الطريقة ويتجه بها إلى حيث يقيم؟!


لم تكن صدفة أن يكون بين النزلاء أحد الصحفيين أو المصورين، فتلك الأماكن هي بؤرة اهتمامهم بما تحمله بداخلها من أخبار عن المشاهير ورجال الأعمال، الصحفي الناجح من يستطيع استغلال سقطة أحدهم، ذلة إحداهن، من أجل الحصول على سبق صحفي رائع، ورؤيتهم لهارون العاصي يحمل فتاة بين ذراعيه في مشهد رومانسي لهو فوز ساحق له، ضربة قاضية ستحمله لمكان آخر، فقط عليه التقاط بعض الصور لهما دون أن يشعر به أحد، لا ضير أيض من تسجيل فيديو صغير يوثق تلك اللحظات الرائعة.


ارقدها على الفراش بهدوء، استطاع دخول غرفته بعدما تدخل مساعده في الأمر وصاحبه إلى حيث غرفته، شكره بصوت خافت ثم أمره بالرحيل، أخذ يتطلع إليها بعدها بنظرات حائرة، فهو لثاني مرة يحتاج إلى تغيير ملابسها، بعد فعلتها تلك هو يحتاج إلى تقيدها في الفراش حقا كي لا تكرر الأمر مرة أخرى!!

لقد شاهد الجميع ما حدث في الاسفل، حمله لها بين ذراعيه بينما يصل بها إلى غرفته سوف تطلق العنان للتكهنات، هذا إذا لم يتطوع صحفي ما لأخذ صور لهما في ذلك الوضع المزري، نفخة حارة خرجت من فمه، بينما يسير بخطوات سريعة نحو خزانة ملابسه، يبحث فيها من جديد عن شيء قد يناسبها، فلابد له أن يغير لها ثيابها بسرعة كبيرة وإلا سوف تصاب بإلتهاب رئوي حاد بكل تأكيد وهو لا يريد لها هذا بالطبع.


تنهيدة متعبة خرجت من فمه بينما يعيد وضع جزعها على الفراش مرة أخرى، لقد استطاع بصعوبة جعلها ترتدي ملابسها، كانت كجثة هامدة بين يديه، الأمر الذي جعله يقلق بشدة ويفكر في استدعاء طبيب لها، بعد عدة ثوان حسم أمره، رفع سماعة الهاتف وطلب طبيب بشكل عاجل إلى حيث غرفته.


بعدما انتهى الطبيب من توقيع الكشف عليها، وانتهاء هارون ما حدث على سمعه، بالطبع هو لم يخبره أنها حاولت الانتحار، لن يجعلها عرضة لسخط أحدهم، فالجميع قد يطلق سهام أحكامه دون إعطاءها فرصة للشرح، هو الوحيد الذي يفهم، وهو الوحيد الذي يقدر دافعها لذلك، رغم هذا يجعله قاتل مع إيقاف التنفيذ.




مد الطبيب نحوه بوصفة العلاج بينما يتلو عليه عدة تعليمات خاصة بوجوب منحها تلك الوصفة مع الراحة الشديدة أيضا، أومأ للطبيب بتفهم بينما يسير بصحبته نحو الخارج يستمع لنصائحه في التعامل معها.

أغلق الباب بهدوء ثم عاد يسير نحوها، رمقها بنظرات قلقة ومشفقة، هو لا يعلم كيف سوف يتعامل معها، كل ما حدث بالتأكيد سوف يجعلها في حالة نفسية صعبة، لأول في حياته، هارون العاصي حائر، هارون العاصي يهتم لفتاة ما حقا.


المساعد أهتم بأمر تلك الوصفة حينما قام هو بمهاتفته، طلب منه أن يأت إلى غرفته، قدم له الوصفة، أمره أن يحضرها على الفور، والآن ها هو ينتظر عودته.

دقات على باب غرفته جعلته يستقيم واقفا من جلسته على مقعد ما وضعه بجوار الفراش، أراد أن يراقبها خوفا من أن يعود إليها وعيها وتحاول أن تنهي حياتها مرة أخرى.

فتح باب الغرفة، تناول الكيس البلاستيكي الذي مده المساعد إليه، ورغم تشديد الطبيب على حصول تلك الراقدة على الفراش على الراحة، لكنه عليه أن يتصرف بسرعة، أن يكون حاسما، بنبرة حازمة وحاسمة هو قال:

"مراد، أريد منك أن تقوم بحجز تذكرتي عودة من أجلي، وكلما كان الموعد أقرب كلما كان ذلك أفضل"

المساعد أومأ بطاعة لرئيسه ثم أسرع في الخروج من الغرفة كي ينفذ أمره ذاك.


بينما هو بدأ يسير نحو الفراش، يشعر بحيرة وقلق في داخله، يتسأل كيف سوف يجعلها تتناول كل تلك الأدوية، ورغم حيرته علم أن عليه أن يفعل، من أجل يخمد شعور الشفقة من أجلها ويعطي لضميره بعض الراحة.


بعد عشر دقائق، تنهيدة راحة خرجت من فمه، لقد استطاع جعلها تتناول كل الادوية، هو لاقى مقاومة منها لكنها كانت مقاومة واهية، حمد ربه في داخله بينما يلمح حبوب لها تأثير مهدئ ضمن العلاج، ذلك سوف يساعده بكل تأكيد حينما يحاول الخروج بها من هنا، بالطبع مع مساعدة مراد الذي يستطيع توفير ممر آمن له في لحظة خروجهما، عن طريق السلم الخاص بالعاملين في الفندق.

نهاية الفصل
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي