الفصل التاسع عشر

اقترب موعد السفر، شعرت بأنني عروساً سوف ترحل إلى منزل زوجها، أو شخص لن يعود مرة أخرى، أمي لم تترك شيئاً إلا ووضعته في حقيبتي، أصبحت مكتظة بكل شيء، تبكي في صمت، حُملت فوق طاقتها، ملابس، أحذية، كتب ، دفاتر،ومواد تمونية، سكر وحليب ودقيق ومعكرونة وصابون ومعجون أسنان، وكل ما تشتهيه الأنفس موجود في هذه الحقيبة..
أمي أصرت بأن تذهب معي هي بدلاً عن أبي، سوف يكون السفر بعد يومين، وحقيبتي أصبحت جاهزة تماماً..
أتفقنا أنا وعبق ويارا، أن تلتقي لآخر مرة قبل السفر، ألتقينا في كافيه هادي بعيداً عن أي ضجة، جلسنا نضحك ونتذكر مواقفنا ومغامراتنا معاً، أفتقدنا إسراء، يا ليتها معنا اليوم! قطعنا وعداً بأننا لن ننسى بعضنا مهما حدث، سوف نظل صديقات إلى الأبد، سوف نتواصل مع بعضنا، ومهما بعدنا فلن نسيء الظن، حتى وإن قل تواصلنا فسنعرف أن المشاغل أبعدتنا ولكن قلوبنا ما زالت كما هي، مليئة بالمحبة الصادقة، علاقتنا الأخوية ستستمر، سنبقى على العهد إن طالت المسافات أو قصرت، وسوف نظل نحكي عن صداقتنا لأحفاد أحفادنا، ..
الصداقة من أنبل العلاقات الإنسانية التي تربط بين أشخاص، علاقة نقية ومريحة جداً، الصداقة من الصدق، فصديقك الحقيقي هو الذي يصدقك في القول والفعل..
قالت يارا: أعرف بأنه سيكون لدي صديقات أخريات في أيامي القادمة، ولكن صداقتكن ستظل الأقوى والأنقى، لن أنسى مواقفك معك يا يقين، عندما كنت جديدة في المدرسة وكنت أشعر بالوحشة بعثك الله لي، دخلت قلبي من أول لحظة، ابتسامتك الحانية، كلماتك الصادقة وعفويتك، لم أرى فتاة صادقة مثلك في كل حياتي، شعرت معك بالإلفة، بعد أن كانت هذه المدرسة أضيق من خرم إبرة بالنسبة إلي، أجلس منفردة بعيدة عن الناس، أصبحت أكثر مكاناً أشعر فيه بالراحة والسعادة، ثم بسببك تعرفت على عبق، أنتِ يا عبق نشرت العبق في حياتي، يومي لا يستوي بدون أن أتحدث معك، أنتن أصبحتن جزء لا يتجزأ من حياتي، وإسراء، تلك الفتاة المرحة ذات القلب الطيب، أحبكن جداً، وستفضل صداقتكن هي الأصدق على الإطلاق..
أمسكت عبق كفي بكفها الأيمن، وكف يارا بالأيسر، تنهدت بقوة ثم قالت بصوت عميق وهاديء: كنت فتاة خاويه، أعيش حياتي بمنتهى الرتابة، روتين ثابت، و حياة مملة، كان لدي صديقات في المدرسة، أو بالأحرى زميلات، اتحرك معهن في فناء المدرسة، أضحك وأتحدث معهن، ولكن كل أحاديثي كانت سطحية، لم أحكي لواحدة منهن عن حياتي الشخصية، لم أخبرهن بما يقلقني ولا يحزنني، أتألم لوحدي، أشعر بالوحدة وأنا بينهن، ولكن بعد أن تعرفت عليك يا يقين تغير كل شيء..
ضحكت ثم تابعت: لم تكن بدايتنا موفقة، من يتخيل بأننا سوف نصبح صديقتين! الفتاة التي جاءت إلى المدرسة وكدرت صفو حياتي تصبح صديقتي! بسببك يا يقين زادت رقابة والداي عليّ، جئت لتنافسينني في الشيء الوحيد الذي يميزني، وهو تفوقي في الدراسة، أذكر جيداً كم كنت منزعجة منك، لا أطيق رؤيتك، أراك فأتذكر ما ينتظرني في المنزل من تحقيقات وعتاب.. هل تذكرين عندما جئت وانفجرت فيك ونعتك بالمغرورة؟ فقط لكي اشتبك معك!
ضحكت عندما تذكرت الموقف، عندما عملت بنصيحة أستاذة ليلى، وكان مفعولها سحرياً، ما زلت أراه حتى اليوم!
تابعت عبق: كنت أتوقع منك رداً على إتهاماتي ولكن آثرت الصمت، لدرجة جعلتني أرتبك، ذلك الهدوء الذي كنت فيه كان يدل على أنك واعية ولم يثير غضبك أي حديث والسلام..أذكر ابتسامتك بعد أن أعتذرت منك، وعندما تحدثتي أخيراً بكل لطف، وملامحك هادئة كأنه لم يحدث شيء..
ظللت أتأمل موقفك ذلك، أرتاح قلبي لك، أعجبتني شخصيتك،لا أعرف كيف فعلتها ولكنني قررت أن أطلب منك بأن تصبحين صديقتي، أنا التي لا تبادر أبداً في أمر يخص العاطفة والعلاقات، جئت وطلبت منك بأن نصبح صديقتين، ليس هذا فحسب بل حدثتك عن أكثر من يوجع قلبي! الأمر الذي لم أخبر به أحداً من قبل، تركت صديقاتي اللاتي أدرس معهن منذ البداية وبحت لك أنت، ولم أكن أعرف عنك سوى اسمك وأنت فتاة ذكية جاءت لتنافسني..
قالت يارا ضاحكة: عجباً
كنت صامتة أصغي إليها فقط، حديثها يطرق قلبي، ليس اذني وحسب
تابعت عبق بنبرة كلها حب: أتعرفين يا يقين، لو سألوني عن أفضل ما فعلته في حياتي ولم أندم عليه، فسأقول أنني بادرت وطلبت من فتاة رائعة تدعى يقين بأن تصبح صديقتي، بل أشعر بالفخر، وبسببك أيضاً تعرفت على يارا وإسراء، تغيرت حياتي منذ أن عرفتكن، أصبحت أعرف كيف أبوح بما في صدري وما يؤلمني، بدأت أتعافى من أحزاني، وتصالحت مع واقعي، أصبح لحياتي طعم ولون، ذكريات رائعة، صديقات هن الأفضل، لم أرى أرق منك يا يارا، حديثك يشرح الصدر، كلماتك تدغدغ القلب، وإسراء، تلك الحبيبة! يا ليتها معنا اليوم..
قالت يارا: يقين هي من جمعت هذه الشلة، وأصبحنا أروع صديقات!
ضحكت ثم تنهدت بقوة وقلت بحماس: أسأل الله أن يحفظني ويدمني نعمة في حياتكن !
قالت عبق! آميين يا متعجرفة
ضحكت وقلت: أخبرتكن بأن أمي تنعتني بالفتاة المتسرعة والمندفعة، وفعلا أنا كذلك، ولكن من قال بأن كل إندفاع سيئ! أحببت يارا منذ اللحظة الأولى التي رأيتها فيها، أردت أن تكون صديقتي، لم أكن أعرف عنك شيء يا يارا، ولكن أحم، حدسي لا يخونني أبداً، أحببتك، وأندفعت هه وها هي النتيجة، أروع صديقة على الإطلاق، لكنتك وحدها تجعل قلبي يضحك، ما أرقك وما ألطفك، وأنتِ يا عبق، أو يا شريكتي ومنافستي، تجعلينني أشعر بالحماس في كل مرة ينطفي فيها حماسي، وإسراء تلك البلهاء، يا ليتها معنا اليوم!
أتعرفن يا جميلات! الصداقة ليست مجرد خروجات وضحك ومرح فقط، تعلمت معكن أن الصداقة مواقف! تعلمت من صداقتكن الكثير، بل الكثير والكثير والكثير، وحقا كما قيل: إنّ صديقك هو كفاية حاجتك، هو مائدتك و موقدك. لأنك تأتي إليه جائعًا، وتسعى وراءه مستدفئًا، ولا يكن لكم في الصَّداقة من غاية ترجونها غير أن تزيدوا في عمق نفوسكم...
ضحكتا وقضينا وقتاً ممتعاً معاً، أتصلنا بإسراء على رقم والدها، تحدثنا معها لفترة طويلة، فتحنا مكبر الصوت وتحدثنا أربعتنا كما كنا أيام المدرسة، كانت إسراء تتحدث بمرح، أشعر كل يوم بأنها تتغير إلى الأفضل، تصبح أجمل وتزداد طيبة وحكمة! ما أجمل أنه كلما يأتي صباح، تصبح معه أنت نسخة أفضل من نفسك سابقاً، ما أجمل أن تتغير كل يوم إلى الأفضل!
قضينا يوماً ممتعاً معاً، قبل أن نغادر أهدتني يارا دفتراً مغلف باللون الأزرق، عليه نقوش باللون الفضي، جميلاً جداً، وأهدتني عبق كتابا، وقالت لي: خذي يا دودة الكتب، ليس لدي خبرة في الكتب ولكن صاحب المكتبة أعطاني هذا الكتاب وقال بأنه من الكتب الأكثر مبيعاً، أتمنى أن ينال إعجابك..
أما أنا فأهديت يارا ربطة شعر جميلة جداً تناسب شعرها الحريري الطويل وأهديت عبق أقلام تلوين، تلك التي تستخدم لتساعد في الدراسة، تحدد بها النقاط المهمة لتساعدك في تذكرها
أما عبق فأهدت كل منا أنا ويارا إسورة، منقوش عليها اسمينا بطريقة جذابة ورائعة جداً!
سبحان الله! لم نخطط معاً لموضوع الهدايا، كانت صدفة! كل منا أرادت أن تترك للأخرى شيئا جميلاً تتذكرها به، وكل واحدة منا كانت تعرف إهتمامات الأخرى جيداً!
الهدايا تعبير جميل عن الحب والإهتمام، لا أعرف إنسان لا يفرح بالهدايا، بغض النظر عن ماهيتها، إن كانت شيئاً ثميناً أو عادي، لا فرق، نحن نفرح بقيمتها وبقيمة من قدمها إلينا، فكرة أن هناك شخصاً ما يهتم لأمرك وقد كلف نفسه، وفكر في أن يقدم ليك شيئا يسعدك، وفكر ما قد تحبه ويعجبك، الفكرة مريحة جداً، الاهتمام جميل، والتقدير يقوي العلاقة أي كانت، والهدايا أجمل إختراع يمكن أن تسعد به شخصاً تحبه..
ودعنا بعضنا، كنا قد أتفقنا من قبل بأننا لا نريد أمور الوداع تلك والحزن والبكاء والنياح، سنودع بعضنا ككل مرة نلتقي فيها، لأننا لن نفترق حتى وإن أفترقت أجسادنا وبعدت بيننا المسافات..
ضممتهما، ورغما عني كان حضناً مختلفاً، حتى وإن أتفقنا أن نلقي كل طقوس الوداع، ولكن ذلك الشعور، ألا تعرف متى ستلتقي بهذا الشخص مرة أخرى، شعور أن هذا الحضن سيليه غياب طويل، أغمضت عيني وأنا أحاول أن أتشرب هذه اللحظات بكل ما فيني من إحساس، أن أجعلها قوتاً أتصبر به في أيام البعد والغياب الذي قد يطول..
وكما قلت من قبل، للأمر عدة أوجه، تختلف وجوهه على حسب شعورنا وافكيرنت، كنا نحضن بعضنا يومياً ولكن
هذا الحضن كان مختلف جدا..
بعدها كل واحدة توجهت إلى منزلها، تحاول أن تتماسك كما وعدت الآخريات، وأن تفرح بما هو قادم، وتستشعر جمال اللحظات القادمة، فعسى أن يكون في المستقبل القادم، عوضاً عن كل فقد، رغم أن هناك فقد لا يعوض أبداً..
--------
تبقى يوماً واحداً على الرحيل، أجتمعن كل صديقات أمي وفتيات الجيران والنساء في منزلنا، أولئك الذين نعتبرهم مقربين، لكي يودعوني، أحضرن معهن بن وسكر وحلويات وفشار وأشياء أخرى، أجتمعنا جميعا رغم أنني لا أحب جلسات القهوة تلك، لأنها مليئة بالنميمة والحديث عن الناس، ولكن هذه الجلسة كانت مختلفة، محور حديثها كله عن الجامعة، صديقات أمي يتحدثن عن الجامعة في زمانهن، حين كان التعليم نادراً وقليل من يرغبون فيه، خاصة النساء، هناك عائلات تستنكر فكرة تعليم النساء من أساسه، وهناك عائلات أخرى لا تهتم والنساء لا يرغبن فيه، وأمي وصديقاتها يتحدثن بفخر عن أنهن رغبن في الدراسة وتفوقن في زمن كانت نادرة جداً، قالت إحدى صديقات والدتي أن الجامعات كانت تحسب على أصابع اليد، أما الآن فالجامعات في كل مكان، قالت إحداهن كانت كبيرة في العمر وقد شارفت على أخذ المعاش أن في زمانهن كانت المواد التمونية تحضر لهن كل أسبوع في السكن، وأحياناً لا تنتهي ويحضرون لهن الأخرى، أحياناً من شدة توفرها تأخذ الفتيات منها لعائلاتهن، وقالت بأن السكن كان مجاناً بل التعليم كله مجان، حتى الكتب يوفرونها لهم، ثم تتابع بحسرة أن في زمننا هذا أصبح الوالدان يدفعا دم قلبيهما لكي يدرس ابنهما، صرف في كل مكان، أموال طائلة تهدر، ثم بعد التخرج يشقى الإنسان حتى يجد وظيفة تكفيه..
قالت لها إحداهن وتسمى رباب: معك حق الزمان أختلف يا سمية ولكن لا تجعلي الفتاة تشعر بالقلق، الوظيفة رزق والرزق من الله، لا أحد سيفوته رزقه، فقط علينا أن نسعى ونحن متوكلين ومفوضين أمرنا إلى الرزاق الذي بيده كل شيء..
قالت إحدى نساء الجيران وتدعى مناهل: النساء أصبحن يقدمن التعليم على الزواج إلا ما ندر، أرى أن في ذلك تشويه للفطرة، فالمرأة مكانها في المنزل، لا أقول بألا تتعلم النساء، ولكن عليهن الموازنة بين كلا الأمرين..
ردت أمي: صدقت يا مناهل، الموازنة مهمة جداً، خاصة في أمور التربية، اليوم نجد ألاف من الأطفال مشوهيين نفسياً بسبب انشغال والديهما عنهم وعدم أخذهم حقهم الكافي من الرعاية والاهتمام، بل التربية في حد زاتها تحتاج رقابة، هذا الطفل أنت من ستعلمه المبادئ والقيم، ولكن بما أنك مشغول طوال الوقت، فمن أين سيتعلم طفلك مبادئه؟! من الشارع ومن أصدقاء السوء! حقاً إن الأمر محزن جداً..
أعجبني الحديث وكنت أستمع باهتمام..
تحدثت فتاة رقيقة تدعى ريم، ما زالت تدرس في الجامعة، قالت: أنا ليس لدي مشكلة في أن أتزوج خلال فترة الجامعة ولكن ما يريبني فكرة أنني قد أنجب طفلاً وما زلت في الجامعة، لا أحد يدري ما سيحدث مهما أحترس، أنا أرى أن الأمومة مهمة عظيمة جداً، وأريد أن أعيش كل تفاصيل حياة طفلي، وأعيش أمومتي بكل تفاصيلها
ردت عليها أختها التي تقاربها في العمر وتدعى رؤى، قالت ضاحكة: طفلي وأمومتي! أخرسي يا "بايرة" تزوجي أولا بعدها فكري في الأطفال
ضحك الجميع على جملتها، فردت عليها ريم بجدية: بل علي أن أفكر في كل شيء قبل أن أتزوج..
نظرت إلى أمي وقالت: تخيلي يا خالتي جميلة أن صديقتي من الجامعة تزوجت منذ أن كنا في سنتنا الأولى، وشاء الله أن حملت وأنجبت طفلا ما أجمله، أحضرته معها في أول فترة إلى الجامعة، اضطرت أن تبحث عن سكن خاص وتعبت كثيرا، ثم في نهاية الأمر تركته لوالدتها، أصبحت الفتاة صامتة معظم الوقت، تبكي بلا سبب، ضيعت مراحل كثيرة من حياة طفلها وما زلنا ندرس، حتى زوجها الذي قال بأنه سيدعمها لتكمل دراستها ولن يحرمها منها، لم يدعمها، صحيح أنه لم يمنعها ولكنه يصمت عندما تتحدث معها والدته وتتذمر من دراستها، عندما تخبرها بأنها امرأة متزوجة وعليها أن تترك الدراسة وتهتم ببيتها، وأنها تحتاج إلى دعم مادي كبير وزوجها دعمه محدود، أصبحت الفتاة الآن جسد بلا روح، ملامحها شاحبة جداً، محتارة بين دراستها التي لا تريد أن تقطعها بعد أن قطعت أكثر من نصف المشوار خصوصاً أنها تدرس مجالاً طبياً، وبين طفلها الذي يكبر بعيداً عن عينيها، لا يحمل لها مشاعر الطفل تجاه والدته، لا يبالي بها، وزوجها الذي يظل صامتاً، يصرف عليها ولكن الدعم المادي ليس له قيمة بلا دعم معنوي..
قالت رباب: الأمر نسبي يا ابنتي ويختلف من شخصاً لآخر، أنا لدي ابنة اختي، تزوجت خلال فترة الجامعة، وأنجبت طفلة أيضاً، صحيح أنها تعبت جداً ولكنها كانت سعيدة بهذا القرار ولم تندم عليه أبدا.. أتعرفين لماذا! لأنها عرفت كيف تحتار، كان زوجها داعماً لها، أستأجر لها منزلا في المدينة التي تدرس فيها، ذهبت معها أختي الصغيرة، تهتم بطفلتها خلال فترة بقائها في الجامعة، رغم أنها أحياناً تمرض وتتعب، وتفقد الأمل ولكن زوجها يشجعها ويدعمها ويأتي ليزورها دائما، إلى أن تخرجت، اختاري الشخص الصحيح وستكون أمورك جيدة
قالت والدتي: كما أن المشاكل الاقتصادية تلعب دوراً كبيراً، في حالات الأخرى قد يكون الزوج غير مقتدر، لا يملك مالاً، كيف سيستأجر لها منزلاً لوجدها، غير احتياجاتها واحتياجات طفلته..
قالت رباب: وقدرة الفتاة أيضاً، لا شك أن مسئولياتها سوف تكون مضاعفة، لذلك عليك أن تدرسي الأمر جيداً قبل أن تخوضينه، هناك نقاط يجب الاتفاق عليها قبل الزواج، واجبات على كل الزوجين لا ينبغي التهاون فيها..
تأففت ريم ثم قالت: الأمر معقد جداً
قالت إحداهن بابتسامة: الاختيار الصحيح هو الأساس، اسأل الله يا بناتي أن يرزقكن بأزواجاً صالحين مصلحين، يهونون عليكن الحياة، ويكونون دعم لكن في كل مراحلها، في الأفراح والأتراح، أنا أؤيد فكرة الزواج أثناء الدراسة، توكلن على الله وأسألنه تيسير الأمور كلها..
قالت ريم: آمين آمين
ثم التفتت إلي وقالت بابتسامة: لم تشاركينا يا يقين
قلت بانفعال: بغض النظر عن كل شيء، أنا لا أفكر في الزواج، الأمر مرعب جداً، ولا أريد في هذا الوقت أن أتقيد بأي رجل في حياتي، ولا أي مسئولية، أريد أن أكون حرة، بلا وجع دماغ..
ضحك الجميع على انفعالي ثم قالت إحداهن: أنت بالذات سوف تتزوجين قريباً، سوف يأتي الهدي الرضي الذي سيغير رأيك، وسترين
قلت بتنهيدة: لنرى، ولكن أنا أتحدث عن الآن، لا يهمني الأمر الآن، والمستقبل له وقته..
قالت أخت ريم وهي تشير علي بأصبعها: واعية
رغم أن الحديث لم يكن يروغني، ولكنني كنت مستمتعة بمجرى الحديث، أستمع إلى وجهات النظر المختلفة في الأمر ذاته وابتسم ببلاهة أحياناً..
كان رائحة البن طيبة جداً تشرح الصدر، نجلس تحت شجرة النيم الكبيرة، كم سأفتقدها وأفتقد جلساتنا تحتها كل صباح! طلبت مني أمي أن أسكب السكر على كل الأكواب، كانت قهوة لذيذة جداً، ابتسمت عندما تذكرت حديث عبق عنها وعن قهوة جدتها ذات الطعم المر..
قالت إحداهن لأمي: دراسة الطب مرهقة جداً للعقول، وكثيرة جداً لذلك دعي يقين تأخذ معها كثير من البن المسحون، لأنها ستحتاج جداً إلى القهوة
قلت لها ضاحكة: لا توصي حريص، وضعته والدتي في حقيبتي، لو كان للحديقة لسان، لشكت وبكت من قسوتنا عليها..
قالت رؤى بحماس: أتمنى أن أقفز من هذه العتبة التي تسمى الصف الثالث وأصل إلى الجامعة مباشرة
ضحكنا ثم قلت: هذه عتبة عالية جداً، تحتاج جهداً وطاقة لكي تتجاوزينها
قالت بنفس الحماس: أنصحيني يا يقين، أنت كنت متفوقة ما شاء الله، وأحرزتي نسبة مشرفة، كيف كنت تدرسين، وهل كان لديك جدول
قلت ضاحكة: وضعت جداول كثيرة ولكنني لم ألتزم بها، ولكنها هناك أشياء مهمة، تعالي أحدثك
جلست بقربي وحدثتها عن الدراسة، وكيف تدرس كل مادة، وأهمية حل الإمتحانات السابقة وإلى ما غيره من الأمور.. كان لدي كثير من المذكرات وأوراق العمل أخرجتها من المخزن وأعطيتها لها..
قالت بدهشة: كل هذا الكيس الضخم
قلت ضاحكة: هذا جزء قليل، وأظن أن الباقي قد أوقدت به أمي النار في أيام إنقطاع الغاز..
ضحكت أمي وقالت: أعطيت بعضها لابنة صديقتي، وهذا شكله من نصيبك يا رؤى
نظرت أمي إلى والدة رؤى وقالت لها: هل رؤى تحب القراءة؟ سأخبرك بسر فعال جداً، قد ينفعك..ثم نظرت إلي بطرف عينها
قلت لرؤى محذرة: لا تقعي في الفخ، سوف يزلونك ويمسحون بك الأرض يا صديقتي، أسألي مجرب
ضحكت أمي ثم قالت: فتاة ناكرة للجميل! أنا كنت أعلمك الانضباط فقط يا عزيزتي..
قلت: حسناً حسناً
التفت لرؤى أحذرها بنظراتي، وكانت هي تضحك بمرح
قالت: ماذا كانت تفعل أمك
قلت: كانت تجعلني أركض في المنزل كله، أريد منها أن تسمح لي بقراءة صفحة واحدة فقط من روايتي، ولكنها تهددني بأنها ستحرمني منها حتى نهاية العام، ذلة ما بعدها ذلة
قالت والدتها ضاحكة: أم واعية
مر الوقت ولم نشعر به، كان وقتاً ممتعاً وجلسة خفيفة وأجمل حفل توديع، بعد صلاة الظهر غادرن كل النساء إلى منازلهن، وبقيت ريم، رتبت معي كل شيء، نظفنا المكان ثم شكرتني على الكيس الصخم الذي أعطيته لها ثم غادرت..
لذلك أحب هذا المكان، سكانه ليسو متمدنون جداً لدرجة أنهم لا يعرفون جيرانهم، يعيشون، ولا كالقرية التي كنا نسكن فيها سابقاً، الذين ما زالو يعيشون في العصور الوسطى، بل هم وسط، وخير الأمور أوسطها..
-----------
في المساء كنت جالسة أتأمل غرفتي، لم أستطع النوم، دخل علي والدي، نظرت نحوه بأبتسم وتقدم نحوي، قال لي: تبقت ساعات قليلة
قلت: للأسف
قال: لا تتأسفي كل شيء، ما ينتظرك جميل بإذن الله
قلت: سأفتقدكم جداً
رد بحنان : أنتِ بهجة هذا المنزل، سوف يصبح خاوياً من دونك، ونحن لا نطيق بعدك، ولكن إن شاء الله سوف أحاول أن أنقل عملي إلى المدينة التي تدرسين فيها، أتمنى أن يتيسر الأمر
قلت وعيناي ممتلئة بدموع الفرح: حقاً، قل أن هذا حقيقة!
وقفت في منتصف السرير، أصرخ بمرح
ضحك والدي على رد فعلي الطفولي ثم قال: يا ابنتي، أجلسي لأتحدث معك..
تحدث معي وأعطاني نصائح كثيرة، هو يعرف بأنني متهورة ولكنني عاقلة أيضاً، أحب ثقته فيني، يشعرني بأنني أعظم إنتصاراته..
حدثني حتى نمت، ثم خرج ولم أشعر به، لم أستيقظ إلا على صوته في الصباح، عندما أيقضني لصلاة الفجر، صليت وبعدها لم أنم، بل لم ننم جميعاً، شربنا الشاي كعادتنا، ولكن كان الشعور مختلف كذلك هذه المرة، أجلس بينهم وأتأمل جلستنا، شجرة النيم ذات الهواء العليل، منزلنا العتيق بكل تفاصيله، رغم أنها كانت سنتان منذ أن انتقلنا إليه، ولكنني تعلقت به جداً..
خرجنا من المنزل، أوصلنا أبي إلى المحطة، ركبنا الباص وغادرنا إلى المدينة الجديدة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي