الفصل العشرون
تحرك الباص عند الساعة التاسعة صباحاً، وعالعادة أمي كانت نائمة طوال الطريق، لا أعرف كيف ينام الناس في المواصلات العامة! أندهش من أولئك الذين ينامون في كل الأوضاع، بمجرد أن يضعوا رأسهم على أي شيء، أنا حتى عندما أستلقي على السرير في غرفتي الهادئة أظل على الأقل نصف ساعة أفكر قبل أن أغرق في النوم، إلا عندما أكون متعبة، حينها أسقط على السرير وأنام فوراً كالمغشي عليه..
كنت جالسة قرب النافذة، أراقب الطريق، فهو جديد بالنسبة إلي ولم أراه من قبل..
وصلنا بعد ساعتان تقريباً، أدركت أننا وصلنا عندما زادت الضوضاء، وارتفعت المباني، اندهشت، كنت أعرف بأنها مدينة كبيرة ولكنني أندهشت أيضاً، قلت بحماس: مرحبا يا مدينة المستقبل، أنا يقين، أتمنى أن تكون أيامي فيك جميلة، لنرى ما الذي تخبيئنه لي..
أستأجرنا سيارة لتوصلنا إلى الجامعة، كانت تقع في منتصف المدينة، وكنت أتابع المناظر من على النافذة حتى وصلنا، توجهنا إلى الجامعة، كان اليوم هو آخر يوم للتسجيل، وقد خف الناس كثيراً، فقد علم أبي أن في الأيام الأوائل للتسجيل كان هناك صفوفاً طويلة..
لحسن الحظ أننا حضرنا قبل موعد بدء الدراسة بيومين، وصلنا إلى بوابة الجامعة، فتحت فمي كالبلهاء، كان بناء شاهقاً، بفناء واسع جداً، مكتظ بالطلاب والبائعين تحت الشجر، مقاعد في كل مكان، والأغرب أن مجموعات من الفتيات والصبيان يجلسون معاً! كنت أنظر إليهم بغرابة
قالت أمي: سوف ترين العجائب هنا، سمعت كثيراً عن بيئة الجامعة، فقط ابقي ثابتة كالجبل، لا تهزك ريح..
وصلنا بعد جهد جهيد إلى وسط الجامعة، فصدمنا عندما أخبرونا بأن كلية طب الأسنان خارج مجمع الجامعة، تقع في داخل مستشفى الأسنان، للستهيل على الطلاب..
استأجرنا سيارة مرة أخرى، نأخذ حقيبتي معنا أين ما ذهبنا، وصلنا إلى مستشفى الأسنان أخيراً، كانت متواضعة جداً، خالية من الشجر، مكتظة بالمرضى، تأففت، لم يعجبني المنظر، وقد كان مجمع الجامعة أجمل بكثير..
وصلنا إلى مكتب التسجيل، أجرو لي كشفاً طبياً، أخذو وزني وطولي وسألوني أسئلة كثيرة لم أفهم ما الداعي لها، ثم بعد ذلك ادخلونا إلى مكتب، تجلس فيه امرأة متوسطة العمر، جميلة وذات ابتسامة جذابة، قالت لي بابتسامة: أنا الطبيبة ندى، سوف أكون مشرفتك الأكاديمية منذ اليوم، أي إذا حصلت لك أي مشكلة فسوف تأتين لي فوراً، أخبرتني بأنها سوف تدرسنا بعض المواد، ولكن بعد أن نتقدم قليلاً، كانت لطيفة ورقيقة جداً..
بعدها دفعنا رسوم التسجيل، وأخدنا شهادة قيد من الجامعة لنسجل في السكن الداخلي العام للفتيات، توجهنا بعد ذلك إلى السكن، لحسن الحظ أنه كان يقع داخل مجمع الجامعة، كان جميلاً، فناءه واسع، شجره كثير جداً، به نافورة تدفق المياه منظرها رائع، والجو فيه مهيأ للدراسة، سجلت ثم أخبرتني المشرفة برقم الغرفة التي سوف أسكن فيها، رقمها أربعة وثلاثون، تقع في الدور الثالث
أثناء صعودنا كانت أمي تتأوه، قالت لي: الله يعينك على هذا السلم
أوصلنا الحقيبة إلى أعلى بصعوبة، ثم وصلنا إلى الغرفة، كانت مطلية باللون البيج، مكونة من أربع سرر، بها خزانة لكل واحدة منا، لم نجد أحداً نسبة إلى أننا حضرنا قبل موعد الدراسة بيومين، فقط كانت هناك أوراق ملصقة على السرر ومكتوب عليها محجوز، تبقى واحداً فقط فجلست عليه..
رتبنا الغرفة أنا وأمي، كانت متسخة والغبار يحيط بها من كل جانب، رتبت أغراضي بداخل الخزانة، ثم نامت أمي بسرعة، المسكينة، كان اليوم متعباً، نذهب من مكان إلى مكان، وتعرفون الإجراءات الطويلة..
لم أستطع النوم بسهولة، كان المكان غريبا علي، ولكن نسبة لإرهاقي الشديد، نمت في نهاية الأمر..
في اليوم التالي غادرت أمي مبكراً بعد أن اطمئنت علي من كل النواحي، وبعد أن اعادت علي وصاياها ألف مرة
قلت: فهمت يا أمي، أخبرتني بذلك ألف مرة
قالت: كثرة التكرار تعلم الحمار
وواصلت حديثها: دعي هاتفك دائما بقربك سوف أتصل بك أكثر من مرة في اليوم، تناولي طعامك في وقته، لا أريد اهمالا في الطعام بالذات، أنت الآن مسئولة عن نفسك تذكري ذلك جيداً، لا تكوني عفوية زيادة عن اللزوم ولا تثقي في كل من هب ودب، اتركي اندفاعك وتسرعك، كبري عقلك…
وهكذا، سيل لا منتهي من الوصايا والإهانات
حاولت أن تجعل لحظة الوداع سعيدة، ولكنها لم تستطع، دمعت عيناها وقالت: استودعك الله يا فلذة كبدي
تماسكت ولم أبكي أمامها، ولكن بعد أن غادرت انفجرت باكية كطفلة صغيرة..
في ذلك الأثناء دخلت إلى الغرفة فتاة، ذات بشرة بيضاء وعيون واسعة، ترتدي حجاباً جعل وجهها كالقمر، دخلت خلفها فتاة أكبر منها في العمر ولكنها تشبهها، يبدو أنها أختها..
ألقت علي أختها التحية ثم توجهت نحوي وقالت برقة: لماذا الدموع! أعرف أن الوضع جديد عليكن، سارة ظلت تبكي طوال الطريق رغم أنني معها، ولكن ستعتدن على ذلك، أنا درست هنا قبلكن، ستعشن أيام جميلة ومغامرات كثيرة، ما اسمك يا حلوة؟
قلت بابتسامة: اسمي يقين
قالت: أنا سهى وهذه سارة، أتمنى أن تكونان صديقتان جيدتان
اقتربت سارة وصافحتني وعلى وجهها ابتسامة واسعة..
جلست معها أختها ورتبت معها أغراضها، كانت الدراسة ستبدأ في الغد، وخلال اليوم أكتمل عدد الفتيات في الغرفة..
دعوني أخبركن بما عرفته عنهن، أمنية، فتاة مجنونة، ومرحة، لاحظت سرعة تأقلمها مع الوضع، كانت تضحك وتمزح مع الكل، ليس على وجهها تلك الملامح التي على وجه الفتيات الأخريات، من استنكار المكان وعدم القدرة على تقبله بعد..لدن، فتاة قصيرة، منذ أن جاءت جلست بهدوء على سريرها ولم تتحدث مع أحد، كانت تنظر فقط، وهكذا أكتملت غرفتنا..
في المساء كانت كل فتاة تجلس على سريرها، كنت قد اعتدت على المكان، وعادت إلي روح الحماس، قلت بمرح: يا فتيات، بما أننا سنسكن في هذه الغرفة معاً لمدة قد تصل إلى خمس سنوات أو ما يزيد، فدعونا نتعرف، لأننا سنصبح أخوات من اليوم وصاعداً..
قالت أمنية بمرح: أنا أمنية، قبلت في كلية الطب، أظنني أكثر من تأقلم مع الوضع هنا، لأنني من قرية بعيدة، مدرستها متدهورة، لذلك درست الصف الثالث هنا في المدينة، وكنت أسكن في سكن داخلي أيضاً، لذلك الوضع ليس غريباً علي..
ذكرتني بإسراء الحبيبة!
قلت بنفس المرح: أنا يقين طارق، من مدينة كذا، قبلت في كلية طب الأسنان، أشعر بالحماس الشديد وأتمنى أن تكون أيامنا معنا في هذه المدنية الكبيرة، وفي هذه الغرفة الصغيرة، أياماً جميلة، نسعد فيها ببعضنا البعض، تشرفت بمعرفتن جميعاً
تحدثت لدن التي كانت تجلس بهدوء، قالت بحماس لم أتوقعه: أنا لدن، قبلت في كلية طب الأسنان أيضاً، من قرية كذا، تشرفت بمعرفتكن جداً
ثم تحدثت سارة برقة وابتسامة: أنا سارة، قبلت في كلية العلاج الطبيعي، لم تكن رغبتي ولا أملك أي حماس تجاهها ولكن كما قالت أمي: الخير فيما أختاره الله
قالت لدن: أنا أيضاً لم تكن الأسنان رغبتي، كنت أريد أن أعيد السنة مرة أخرى، ولكن مع إصرار أهلي وحديث الناس عن طب الأسنان اقتنعت، أتمنى ألا أندم
قلت لها: لن تندمي بإذن الله، الحمد لله طب الأسنان كان رغبتي، لذلك أنا متحمسة جداً، رغم أنني سمعت كثيراً من الانتقادات والمسخرة، من نوع ما الفرق بينك وبين من يحشو السندوتشات في المطاعم، كلاكما تحشو الحشوات، وهل ستدرسين خمس سنوات لكي تخلعي الأضراس في نهاية الأمر، ولماذا اخترتي هذا المجال السخيف، كنا نريدك طبيبة باطنية لكي نتعالج عندك، وستفعلين لي تقويم مجاني أليس كذلك، سمعت الكثير الكثير ولكن كما قالت أمي: يا جبل لا تهزك ريح!
ضحكن على حديثي، وواصلنا حديث وثرثرة حتى الساعة العاشرة مساء، ثم نمنا بعد ذلك، لأن غداً أول يوم دوام في الجامعة..
أستيقظ الجميع باكراً، تعرفون حماس البدايات، كانت أمنية قد حضرت ملابس اليوم منذ الليلة الماضية، قامت بكيها مرة أخرى، تبدل بين الطرح لترى ما يتناسب مع زيها، تضع مستحضرات تجميل على وجهها، أما سارة، فقد اكتفت مثلي بعباءة أنيقة جداً، يبدو أنها لا تهتم بمستحضرات التجميل ولا الموضة، هذه الفتاة تلفت نظري جداً، أما لدن فقد ارتدت زياً جميلاً أيضاً ووضعت بعض مستحضرات التجميل ولكنها لم تكن مهووسة مثل أمنية، خرجنا معاً من السكن، ثم كل واحدة انحرفت في طريق مختلف، توجهنا أنا ولدن إلى كليتنا البعيدة التي تقع في مستشفى الأسنان، أخذت منا حوالي ثلث ساعة مشياً بالاقدام، وصلنا وقد كانت مكتظة بالطلاب الجدد، ولا أعرف كيف لكنهم شاذين وظاهرين، يقلبون بصرهم بريبة، وتستطيع التمييز بسهولة بينهم وبين القدامى..
دخلنا في إحدى القاعات، دخل شاب وقال بأن المحاضر سوف يأتي بعد قليل، طلب منا الصمت، فصمت الجميع، دخل شاباً طويلاً، يرتدي نظارات طبية، ذو هيبة، يبدو صغيراً في العمر، قال بأنه المحاضر، وسوف يعطينا أول محاضرة، بدأ يسأل أسئلة غريبة، يختار طالب ويطلب منه الإجابة، ولم يستطع أحدا منا الإجابة على أسئلته، فجأة أنقلب مزاجه، مسح بنا الأرض، وقال بأننا لا نستحق أن ندخل هذه الكلية، أسئلة سهلة مثل هذه لا تستطيعون الإجابة عليها، قال بأننا أسوأ دفعة مرت عليه في هذه الكلية، بأننا سوف نكون أطباء فاشلين، كانت نبرته حادة ومخيفة، وقال بأنه لن يدرسنا هذه المادة، سوف يشكينا إلى إدارة الجامعة، وليتصرفو ويجدو محاضراً آخر، كانت أعين الجميع متسعة برعب، لدرجة أن فتاة كانت تجلس قريبة مني بكت، الجميع يرتجف، ولدن كانت تجلس بقربي، قالت لي بنبرة صوت متقطعة: أتمنى أن تكون هذه حركات الطلاب القدامى، كما أخبروني
قلت مستنكرة للأمر: هناك شيئا غريبا، لا أعتقد أن هذا محاضر، ولا أعتقد بأن الطلاب الجدد يعاملون بهذا الأسلوب القاسي، هذه مرحلة مختلفة بالنسبة إلينا، وهذا أول درس لنا، هل يعقل أن يتصرف شخصاً عاقلاً بهذه الطريقة! ثم هل لسبب سخيف مثل هذا سوف يشكينا إلى إدارة الجامعة ويمتنع عن تدريسنا!
بعد قليل دخل الشاب الأول الذي قدم لنا المحاضر ومعه المحاضر نفسه، كان يضحكان، تحدثا وقال الشاب الذي كان يسألنا: هذا كان أول مقلب طبق فيكم، لا يستوي استقبال الطلاب الجدد بدون مقالب، مرحبا بكم في كلية طب الأسنان، أنا حازم، طالب في السنة الأخيرة، أعتذر إن كنت ثقيل الظل عليكم..
ضحك جميع من في القاعة أما أنا فلم يحرك فيني الموقف شيء، شعرت بأن الأمر كان سخيفاً جداً..
بعد ذلك جاء عميد الكلية وبعض الأطباء الذين سوف يدرسوننا وكثير من الطلاب القدامى، رحب بنا العميد، ألقى كلمة جميلة، قدم الطلاب القدامى فقرات جميلة، وأجرو مسابقات، من المسابقات، كان هناك تحدي جعلني أضحك لدرجة أنه عيناي قد دمعت، طلب أن يتقدم شابين، أحدهما من الطلاب القدامى وآخر جديد من دفعتنا ليشربو كاساً ضخماً من العصير، ومن يفوز له جائزة، وإن فزنا فسوف نثبت أننا جئنا بقوة..
تقدم طالب من القدامى أو كما يسمون"السناير" ولم يخرج أحدا منا، كان الجميع متردد، بعد برهه من الوقت خرج شاباً قصيراً وبديناً، فصفق له الجميع بمرح، بدأت المسابقة، كان منظرهم مضحكاً جداً، وفاز الطالب البدين..
صفق له الجميع بمرح، فقال له مقدم المسابقة، مبروك لقد ربحت معنا كاساً آخر من العصير
ضحك الجميع بصوت عالي واتسعت عينا الشاب
قال له: كنت أمزح، ربحت معاً شحن رصيد لكل الشبكات، ما نوع خطك؟ أخبره فشحن له..
من المسابقات أيضاً كان إلقاء كلمة مرتجلة، وكان الاختيار عشوائياً من بيننا وبين السناير، رغم أنها مسابقة غير عادلة لأنهم بالطبع أكثر خبرة منا في الحياة..
تم اختيار فتاة من السناير، والمفاجاة أنه قد تم اختياري معها، ارتبكت في البداية ولكنني عندما خرجت إلى المنصة أصبحت ثابتة وصامدة، الحمد لله أنني أقدر نفسي وأعرف قدراتي جيداً..
أختار أحد أعضاء اللجنة، وهم ثلاث، يعملون مساعدي تدريس في الجامعة، قال: تحدثان عن مفهوم السعادة، من تريد البدء؟
بدأت الفتاة بالتحدث، كان كلماتها جميلة وجذابة، ولكنها ليست عميقة، عندما جاء دوري تحدثت بثقة، أخبرتهم بأن السعادة اليوم متمحورة حول إشباع رغباتنا اللا متناهية، قلت لهم بأن السعادة في رأي هي الرضا، تحدثت عن الموضوع باستفاضة، جعلت كل من في القاعة ينظر إلي بدهشة، والفتاة بجانبي تنظر إلي بابتسامة مرتبكة..
بعد أن انتهيت، قلت هذا رأي، أراه صحيح، ولكن هذا لا ينفي بأن يكون هناك أراء أخرى صحيحة أيضاً، لكل شيء في هذه الحياة زوايا عديدة..
صفق لي الجميع، ثم طلب منا أحد أعضاء اللجنة أن نتحدث عن الصداقة، إنه ملعبي حقاً، بدأت هذه المرة أنا بالحديث، وانبهر الجميع مرة أخرى، بل كانو أكثر انبهاراً من المرة الأولى، لأنني كنت أتحدث بكل ما فيني من إحساس، أعتدت أن استخدم كلمات منمقة، ونظرتي الشاعرية للأمور ساعدتني على أن يكون لساني طلقاً..
عدت إلى المقعد، كان لدن تنظر إلي بفخر، الجميع يتبعني بنظراته حتى جلست، كانت يداي باردتان، رغم ثقتي لا أخفي بأنني ارتبكت قليلاً ولكن ذلك لم يظهر ولم يؤثر علي..
قال مقدم المسابقة: يربح الطلاب الجدد على سنايرهم بقوة، أعطاني هدية وكانت كتاباً، فكنت أسعد ما يكون، قال أنني عميقة وسوف أحب الكتب بالتأكيد، قلت: صدقت
كان اليوم كله عبارة عن ترجيب بنا، لم نبدأ الدراسة بعد، يبدو أن كل من يدرسون هنا مرحين أو يطغى عليهم المرح..
بعد ذلك التقت لدن بفتاتان، قالت أنهما صديقاتها منذ الأساس، ولكنها تسكنان في سكن خاص..
جلست معهن قليلاً ثم غادرت، سوف أعمل بنصيحة أمي هذه المرة، لكن أكون اندفاعية، خصوصاً في اختيار الأصدقاء، لا أريد أن تتشوه صورتي النقية عن الصداقة بعد أن كنت أملك أروع صديقات
جلست تحت شجرة كبيرة، أظنها الشجرة الوحيدة في الكلية كلها، كليتنا الخالية من الحياة، مكتظة بالمرضى، تكابد لكي تجد مكاناً مناسباً لتجلس فيه، جلست أتأمل المكان، أراقب الفتيات وتصرفاتهن، أحب بعضها وأستنكر أخرى، بعد ذلك اشتريت إفطاراً وسألت لدن إن كانت تريد العودة، فاستجابت وعدنا معاً إلى السكن..
كنت جالسة قرب النافذة، أراقب الطريق، فهو جديد بالنسبة إلي ولم أراه من قبل..
وصلنا بعد ساعتان تقريباً، أدركت أننا وصلنا عندما زادت الضوضاء، وارتفعت المباني، اندهشت، كنت أعرف بأنها مدينة كبيرة ولكنني أندهشت أيضاً، قلت بحماس: مرحبا يا مدينة المستقبل، أنا يقين، أتمنى أن تكون أيامي فيك جميلة، لنرى ما الذي تخبيئنه لي..
أستأجرنا سيارة لتوصلنا إلى الجامعة، كانت تقع في منتصف المدينة، وكنت أتابع المناظر من على النافذة حتى وصلنا، توجهنا إلى الجامعة، كان اليوم هو آخر يوم للتسجيل، وقد خف الناس كثيراً، فقد علم أبي أن في الأيام الأوائل للتسجيل كان هناك صفوفاً طويلة..
لحسن الحظ أننا حضرنا قبل موعد بدء الدراسة بيومين، وصلنا إلى بوابة الجامعة، فتحت فمي كالبلهاء، كان بناء شاهقاً، بفناء واسع جداً، مكتظ بالطلاب والبائعين تحت الشجر، مقاعد في كل مكان، والأغرب أن مجموعات من الفتيات والصبيان يجلسون معاً! كنت أنظر إليهم بغرابة
قالت أمي: سوف ترين العجائب هنا، سمعت كثيراً عن بيئة الجامعة، فقط ابقي ثابتة كالجبل، لا تهزك ريح..
وصلنا بعد جهد جهيد إلى وسط الجامعة، فصدمنا عندما أخبرونا بأن كلية طب الأسنان خارج مجمع الجامعة، تقع في داخل مستشفى الأسنان، للستهيل على الطلاب..
استأجرنا سيارة مرة أخرى، نأخذ حقيبتي معنا أين ما ذهبنا، وصلنا إلى مستشفى الأسنان أخيراً، كانت متواضعة جداً، خالية من الشجر، مكتظة بالمرضى، تأففت، لم يعجبني المنظر، وقد كان مجمع الجامعة أجمل بكثير..
وصلنا إلى مكتب التسجيل، أجرو لي كشفاً طبياً، أخذو وزني وطولي وسألوني أسئلة كثيرة لم أفهم ما الداعي لها، ثم بعد ذلك ادخلونا إلى مكتب، تجلس فيه امرأة متوسطة العمر، جميلة وذات ابتسامة جذابة، قالت لي بابتسامة: أنا الطبيبة ندى، سوف أكون مشرفتك الأكاديمية منذ اليوم، أي إذا حصلت لك أي مشكلة فسوف تأتين لي فوراً، أخبرتني بأنها سوف تدرسنا بعض المواد، ولكن بعد أن نتقدم قليلاً، كانت لطيفة ورقيقة جداً..
بعدها دفعنا رسوم التسجيل، وأخدنا شهادة قيد من الجامعة لنسجل في السكن الداخلي العام للفتيات، توجهنا بعد ذلك إلى السكن، لحسن الحظ أنه كان يقع داخل مجمع الجامعة، كان جميلاً، فناءه واسع، شجره كثير جداً، به نافورة تدفق المياه منظرها رائع، والجو فيه مهيأ للدراسة، سجلت ثم أخبرتني المشرفة برقم الغرفة التي سوف أسكن فيها، رقمها أربعة وثلاثون، تقع في الدور الثالث
أثناء صعودنا كانت أمي تتأوه، قالت لي: الله يعينك على هذا السلم
أوصلنا الحقيبة إلى أعلى بصعوبة، ثم وصلنا إلى الغرفة، كانت مطلية باللون البيج، مكونة من أربع سرر، بها خزانة لكل واحدة منا، لم نجد أحداً نسبة إلى أننا حضرنا قبل موعد الدراسة بيومين، فقط كانت هناك أوراق ملصقة على السرر ومكتوب عليها محجوز، تبقى واحداً فقط فجلست عليه..
رتبنا الغرفة أنا وأمي، كانت متسخة والغبار يحيط بها من كل جانب، رتبت أغراضي بداخل الخزانة، ثم نامت أمي بسرعة، المسكينة، كان اليوم متعباً، نذهب من مكان إلى مكان، وتعرفون الإجراءات الطويلة..
لم أستطع النوم بسهولة، كان المكان غريبا علي، ولكن نسبة لإرهاقي الشديد، نمت في نهاية الأمر..
في اليوم التالي غادرت أمي مبكراً بعد أن اطمئنت علي من كل النواحي، وبعد أن اعادت علي وصاياها ألف مرة
قلت: فهمت يا أمي، أخبرتني بذلك ألف مرة
قالت: كثرة التكرار تعلم الحمار
وواصلت حديثها: دعي هاتفك دائما بقربك سوف أتصل بك أكثر من مرة في اليوم، تناولي طعامك في وقته، لا أريد اهمالا في الطعام بالذات، أنت الآن مسئولة عن نفسك تذكري ذلك جيداً، لا تكوني عفوية زيادة عن اللزوم ولا تثقي في كل من هب ودب، اتركي اندفاعك وتسرعك، كبري عقلك…
وهكذا، سيل لا منتهي من الوصايا والإهانات
حاولت أن تجعل لحظة الوداع سعيدة، ولكنها لم تستطع، دمعت عيناها وقالت: استودعك الله يا فلذة كبدي
تماسكت ولم أبكي أمامها، ولكن بعد أن غادرت انفجرت باكية كطفلة صغيرة..
في ذلك الأثناء دخلت إلى الغرفة فتاة، ذات بشرة بيضاء وعيون واسعة، ترتدي حجاباً جعل وجهها كالقمر، دخلت خلفها فتاة أكبر منها في العمر ولكنها تشبهها، يبدو أنها أختها..
ألقت علي أختها التحية ثم توجهت نحوي وقالت برقة: لماذا الدموع! أعرف أن الوضع جديد عليكن، سارة ظلت تبكي طوال الطريق رغم أنني معها، ولكن ستعتدن على ذلك، أنا درست هنا قبلكن، ستعشن أيام جميلة ومغامرات كثيرة، ما اسمك يا حلوة؟
قلت بابتسامة: اسمي يقين
قالت: أنا سهى وهذه سارة، أتمنى أن تكونان صديقتان جيدتان
اقتربت سارة وصافحتني وعلى وجهها ابتسامة واسعة..
جلست معها أختها ورتبت معها أغراضها، كانت الدراسة ستبدأ في الغد، وخلال اليوم أكتمل عدد الفتيات في الغرفة..
دعوني أخبركن بما عرفته عنهن، أمنية، فتاة مجنونة، ومرحة، لاحظت سرعة تأقلمها مع الوضع، كانت تضحك وتمزح مع الكل، ليس على وجهها تلك الملامح التي على وجه الفتيات الأخريات، من استنكار المكان وعدم القدرة على تقبله بعد..لدن، فتاة قصيرة، منذ أن جاءت جلست بهدوء على سريرها ولم تتحدث مع أحد، كانت تنظر فقط، وهكذا أكتملت غرفتنا..
في المساء كانت كل فتاة تجلس على سريرها، كنت قد اعتدت على المكان، وعادت إلي روح الحماس، قلت بمرح: يا فتيات، بما أننا سنسكن في هذه الغرفة معاً لمدة قد تصل إلى خمس سنوات أو ما يزيد، فدعونا نتعرف، لأننا سنصبح أخوات من اليوم وصاعداً..
قالت أمنية بمرح: أنا أمنية، قبلت في كلية الطب، أظنني أكثر من تأقلم مع الوضع هنا، لأنني من قرية بعيدة، مدرستها متدهورة، لذلك درست الصف الثالث هنا في المدينة، وكنت أسكن في سكن داخلي أيضاً، لذلك الوضع ليس غريباً علي..
ذكرتني بإسراء الحبيبة!
قلت بنفس المرح: أنا يقين طارق، من مدينة كذا، قبلت في كلية طب الأسنان، أشعر بالحماس الشديد وأتمنى أن تكون أيامنا معنا في هذه المدنية الكبيرة، وفي هذه الغرفة الصغيرة، أياماً جميلة، نسعد فيها ببعضنا البعض، تشرفت بمعرفتن جميعاً
تحدثت لدن التي كانت تجلس بهدوء، قالت بحماس لم أتوقعه: أنا لدن، قبلت في كلية طب الأسنان أيضاً، من قرية كذا، تشرفت بمعرفتكن جداً
ثم تحدثت سارة برقة وابتسامة: أنا سارة، قبلت في كلية العلاج الطبيعي، لم تكن رغبتي ولا أملك أي حماس تجاهها ولكن كما قالت أمي: الخير فيما أختاره الله
قالت لدن: أنا أيضاً لم تكن الأسنان رغبتي، كنت أريد أن أعيد السنة مرة أخرى، ولكن مع إصرار أهلي وحديث الناس عن طب الأسنان اقتنعت، أتمنى ألا أندم
قلت لها: لن تندمي بإذن الله، الحمد لله طب الأسنان كان رغبتي، لذلك أنا متحمسة جداً، رغم أنني سمعت كثيراً من الانتقادات والمسخرة، من نوع ما الفرق بينك وبين من يحشو السندوتشات في المطاعم، كلاكما تحشو الحشوات، وهل ستدرسين خمس سنوات لكي تخلعي الأضراس في نهاية الأمر، ولماذا اخترتي هذا المجال السخيف، كنا نريدك طبيبة باطنية لكي نتعالج عندك، وستفعلين لي تقويم مجاني أليس كذلك، سمعت الكثير الكثير ولكن كما قالت أمي: يا جبل لا تهزك ريح!
ضحكن على حديثي، وواصلنا حديث وثرثرة حتى الساعة العاشرة مساء، ثم نمنا بعد ذلك، لأن غداً أول يوم دوام في الجامعة..
أستيقظ الجميع باكراً، تعرفون حماس البدايات، كانت أمنية قد حضرت ملابس اليوم منذ الليلة الماضية، قامت بكيها مرة أخرى، تبدل بين الطرح لترى ما يتناسب مع زيها، تضع مستحضرات تجميل على وجهها، أما سارة، فقد اكتفت مثلي بعباءة أنيقة جداً، يبدو أنها لا تهتم بمستحضرات التجميل ولا الموضة، هذه الفتاة تلفت نظري جداً، أما لدن فقد ارتدت زياً جميلاً أيضاً ووضعت بعض مستحضرات التجميل ولكنها لم تكن مهووسة مثل أمنية، خرجنا معاً من السكن، ثم كل واحدة انحرفت في طريق مختلف، توجهنا أنا ولدن إلى كليتنا البعيدة التي تقع في مستشفى الأسنان، أخذت منا حوالي ثلث ساعة مشياً بالاقدام، وصلنا وقد كانت مكتظة بالطلاب الجدد، ولا أعرف كيف لكنهم شاذين وظاهرين، يقلبون بصرهم بريبة، وتستطيع التمييز بسهولة بينهم وبين القدامى..
دخلنا في إحدى القاعات، دخل شاب وقال بأن المحاضر سوف يأتي بعد قليل، طلب منا الصمت، فصمت الجميع، دخل شاباً طويلاً، يرتدي نظارات طبية، ذو هيبة، يبدو صغيراً في العمر، قال بأنه المحاضر، وسوف يعطينا أول محاضرة، بدأ يسأل أسئلة غريبة، يختار طالب ويطلب منه الإجابة، ولم يستطع أحدا منا الإجابة على أسئلته، فجأة أنقلب مزاجه، مسح بنا الأرض، وقال بأننا لا نستحق أن ندخل هذه الكلية، أسئلة سهلة مثل هذه لا تستطيعون الإجابة عليها، قال بأننا أسوأ دفعة مرت عليه في هذه الكلية، بأننا سوف نكون أطباء فاشلين، كانت نبرته حادة ومخيفة، وقال بأنه لن يدرسنا هذه المادة، سوف يشكينا إلى إدارة الجامعة، وليتصرفو ويجدو محاضراً آخر، كانت أعين الجميع متسعة برعب، لدرجة أن فتاة كانت تجلس قريبة مني بكت، الجميع يرتجف، ولدن كانت تجلس بقربي، قالت لي بنبرة صوت متقطعة: أتمنى أن تكون هذه حركات الطلاب القدامى، كما أخبروني
قلت مستنكرة للأمر: هناك شيئا غريبا، لا أعتقد أن هذا محاضر، ولا أعتقد بأن الطلاب الجدد يعاملون بهذا الأسلوب القاسي، هذه مرحلة مختلفة بالنسبة إلينا، وهذا أول درس لنا، هل يعقل أن يتصرف شخصاً عاقلاً بهذه الطريقة! ثم هل لسبب سخيف مثل هذا سوف يشكينا إلى إدارة الجامعة ويمتنع عن تدريسنا!
بعد قليل دخل الشاب الأول الذي قدم لنا المحاضر ومعه المحاضر نفسه، كان يضحكان، تحدثا وقال الشاب الذي كان يسألنا: هذا كان أول مقلب طبق فيكم، لا يستوي استقبال الطلاب الجدد بدون مقالب، مرحبا بكم في كلية طب الأسنان، أنا حازم، طالب في السنة الأخيرة، أعتذر إن كنت ثقيل الظل عليكم..
ضحك جميع من في القاعة أما أنا فلم يحرك فيني الموقف شيء، شعرت بأن الأمر كان سخيفاً جداً..
بعد ذلك جاء عميد الكلية وبعض الأطباء الذين سوف يدرسوننا وكثير من الطلاب القدامى، رحب بنا العميد، ألقى كلمة جميلة، قدم الطلاب القدامى فقرات جميلة، وأجرو مسابقات، من المسابقات، كان هناك تحدي جعلني أضحك لدرجة أنه عيناي قد دمعت، طلب أن يتقدم شابين، أحدهما من الطلاب القدامى وآخر جديد من دفعتنا ليشربو كاساً ضخماً من العصير، ومن يفوز له جائزة، وإن فزنا فسوف نثبت أننا جئنا بقوة..
تقدم طالب من القدامى أو كما يسمون"السناير" ولم يخرج أحدا منا، كان الجميع متردد، بعد برهه من الوقت خرج شاباً قصيراً وبديناً، فصفق له الجميع بمرح، بدأت المسابقة، كان منظرهم مضحكاً جداً، وفاز الطالب البدين..
صفق له الجميع بمرح، فقال له مقدم المسابقة، مبروك لقد ربحت معنا كاساً آخر من العصير
ضحك الجميع بصوت عالي واتسعت عينا الشاب
قال له: كنت أمزح، ربحت معاً شحن رصيد لكل الشبكات، ما نوع خطك؟ أخبره فشحن له..
من المسابقات أيضاً كان إلقاء كلمة مرتجلة، وكان الاختيار عشوائياً من بيننا وبين السناير، رغم أنها مسابقة غير عادلة لأنهم بالطبع أكثر خبرة منا في الحياة..
تم اختيار فتاة من السناير، والمفاجاة أنه قد تم اختياري معها، ارتبكت في البداية ولكنني عندما خرجت إلى المنصة أصبحت ثابتة وصامدة، الحمد لله أنني أقدر نفسي وأعرف قدراتي جيداً..
أختار أحد أعضاء اللجنة، وهم ثلاث، يعملون مساعدي تدريس في الجامعة، قال: تحدثان عن مفهوم السعادة، من تريد البدء؟
بدأت الفتاة بالتحدث، كان كلماتها جميلة وجذابة، ولكنها ليست عميقة، عندما جاء دوري تحدثت بثقة، أخبرتهم بأن السعادة اليوم متمحورة حول إشباع رغباتنا اللا متناهية، قلت لهم بأن السعادة في رأي هي الرضا، تحدثت عن الموضوع باستفاضة، جعلت كل من في القاعة ينظر إلي بدهشة، والفتاة بجانبي تنظر إلي بابتسامة مرتبكة..
بعد أن انتهيت، قلت هذا رأي، أراه صحيح، ولكن هذا لا ينفي بأن يكون هناك أراء أخرى صحيحة أيضاً، لكل شيء في هذه الحياة زوايا عديدة..
صفق لي الجميع، ثم طلب منا أحد أعضاء اللجنة أن نتحدث عن الصداقة، إنه ملعبي حقاً، بدأت هذه المرة أنا بالحديث، وانبهر الجميع مرة أخرى، بل كانو أكثر انبهاراً من المرة الأولى، لأنني كنت أتحدث بكل ما فيني من إحساس، أعتدت أن استخدم كلمات منمقة، ونظرتي الشاعرية للأمور ساعدتني على أن يكون لساني طلقاً..
عدت إلى المقعد، كان لدن تنظر إلي بفخر، الجميع يتبعني بنظراته حتى جلست، كانت يداي باردتان، رغم ثقتي لا أخفي بأنني ارتبكت قليلاً ولكن ذلك لم يظهر ولم يؤثر علي..
قال مقدم المسابقة: يربح الطلاب الجدد على سنايرهم بقوة، أعطاني هدية وكانت كتاباً، فكنت أسعد ما يكون، قال أنني عميقة وسوف أحب الكتب بالتأكيد، قلت: صدقت
كان اليوم كله عبارة عن ترجيب بنا، لم نبدأ الدراسة بعد، يبدو أن كل من يدرسون هنا مرحين أو يطغى عليهم المرح..
بعد ذلك التقت لدن بفتاتان، قالت أنهما صديقاتها منذ الأساس، ولكنها تسكنان في سكن خاص..
جلست معهن قليلاً ثم غادرت، سوف أعمل بنصيحة أمي هذه المرة، لكن أكون اندفاعية، خصوصاً في اختيار الأصدقاء، لا أريد أن تتشوه صورتي النقية عن الصداقة بعد أن كنت أملك أروع صديقات
جلست تحت شجرة كبيرة، أظنها الشجرة الوحيدة في الكلية كلها، كليتنا الخالية من الحياة، مكتظة بالمرضى، تكابد لكي تجد مكاناً مناسباً لتجلس فيه، جلست أتأمل المكان، أراقب الفتيات وتصرفاتهن، أحب بعضها وأستنكر أخرى، بعد ذلك اشتريت إفطاراً وسألت لدن إن كانت تريد العودة، فاستجابت وعدنا معاً إلى السكن..