الفصل الواحد والعشرون
كنت أجلس تحت الشجرة الكبيرة في كليتنا، أنتظر أن يأتي زمن المحاضرة، فإذا بي أرى ذلك الشاب، الذي قدم برنامج الاستقبال يتوجه نحوي..
ادعيت أنني لم أراه، ولكنه وقف أمامي وعلى وجهه ابتسامة، يسألني عن حالي، كأنه يعرفني منذ زمن، نظرت إليه بلا مبالاة، أعطيته رد مقتضب ثم عدت أنظر إلى هاتفي..
قال لي: هل يمكنني الجلوس؟
كانت هناك حوارات تدور بداخل عقلي، من يظن نفسه ليطلب مني هكذا طلب، يجلس معي! هذا الأخرق، حاولت تمالك أعصابي وقلت بعد أن نهضت: لدي محاضرة بعد قليل، عن إذنك..
قال بارتباك: أوه حسنا، خذي راحتك
قلت: طبعا سأفعل ذلك، وهل علي الاستئذان منك مثلا..
بالطبع لم أقل ذلك بصوت عالي، كان بداخلي فقط، ليس صعباً علي أن أقول ذلك علناً، ولكن لا أريد أن أكون الفتاة الشريرة منذ البداية، أظن أن ردودي كان واضحة، بمعنى أنني لا أطيقك، أما إن حاول تجاوز حدوده معي ذات مرة، فوقتها سأجعله يندم..
قد يقول البعض بأنني معقدة، قد تكون نيته سليمة، لا ينوي على شيء، تحدث معي فقط من باب أنه عرفني ذلك اليوم، أو ربما يريد مساعدتي بما أنني جديدة في الجامعة..
بغض النظر عن كل شيء، أنا مرتاحة هكذا، بعدي عن الرجال راحة كبيرة بالنسبة لي، أبعد نفسي عن المشاكل وعن كل ما يعكر صفوها، يكفيني علاقتي السطحية جداً معهم، من غير أي تجاوز للحدود، أو علامة تدل على أنني أرغب في مصادقتهم…
أثناء سيري باتجاه القاعة التي سوف تدرس فيها المحاضرة، صدمت بفتاة، سقطت كلا أغراضنا، كانت هي المخطئة، تمشي مندفعة كأنها لا ترى أمامها، ويبدو على وجهها الغضب..
قالت بسرعة قبل أن تنظر إلي: أعتذر، أعتذر، أعتذر، أظن أنها أعادتها أكثر من عشر مرات
قلت ضاحكة: لا بأس
نظرت إلي فقالت بدهشة: أوه، أنت يقين أليس كذلك؟
قلت بتعجب: نعم أنا، هل تعرفينني!
قالت بابتسامة وقد استعادت هدوئها: رأيتك أول يوم عندما تحدثتي أمام الجميع، أعجبتني ثقتك بنفسك، ووعيك
قلت بارتباك: يبدو أنني أصبحت مشهورة
قالت: تستحقين الشهرة، هيا سوف تبدأ المحاضرة
دخلنا إلى القاعة وجلسنا معاً في نفس البنش
كانت المحاضرة لمادة الكيمياء الاحيائية، من يومي وأن أكره الكيمياء، لم أتوقع أن أجدها هنا أيضاً، تأففت بضجر، ولكن بعد أن بدأت المحاضرة وجدت نفسي اتابع بتركيز، كان المحاضر رائعاً، أسلوبه في الشرح جميل جداً، ويحببك في كل ما يقوله، خفف علي كرهي للكيمياء..
استمرت المحاضرة ساعة ونصف، نظرت بجانبي فإذا بي أرى الفتاة تقط في نوم عميق، أيقظتها، فتابعت قليلا ثم نامت مرة أخرى، لحسن الحظ لم يلاحظ لها المحاضر، ولم تستيقظ إلا بعد انتهاء المحاضرة..
بدأ الجميع بالخروج من القاعة، كانت الفتاة تنظر حولها كأنها لا تعي ما يحدث، عدلت حجابها، ثم قالت: هل انتهت المحاضرة بهذه السرعة؟
قلت: مرت ساعة كاملة، كيف تنامين في هكذا وضع؟ وماذا لو كان الطبيب من ذلك النوع الذي يستفز بسهولة
قالت بتساؤب: لا أستطع مقاومة النوم أثناء المحاضرات، كأن مخدر يرش في الجو ويجعلني لا أشعر بما حولي
ضحكت ثم قلت: بالمناسبة لم تخبريني ما اسمك
ردت بمرح: أنا بسمة، تشرفت بمعرفتك يا يقين، أعتذر مرة أخرى على ذلك الصدام، ولكنني كنت غاضبة جداً..
قلت بابتسامة: اسمك جميل، وابتسامتك كذلك، الغضب لا يليق بك
قالت بانفعال لم أتوقعه: كيف لا أغضب وهذه الكلية مليئة بالحمقى، والمستفزين جداً، من يظنون أنفسهم هولاء الأغبياء
كتمت ضحكتي، كان منظرها مضحكاً، قلت: ماذا تقصدين؟
قالت بنفس الانفعال: ذلك الشاب ذو الشعر الطويل والذي يبدو كالفتيات، ويرتدي حذاء أظنه كان تراثاً لأقاربه من العصر الحجري، أغصبني جداً
قلت: ماذا فعل؟
تحولت نطرتها إلى نظرة غاضبة وقالت: كان يتحدث بكلمات مستفزة، قال لي بأن الأسود يليق بي، لم أعره أي انتباه، ثم قال بأن عيني واسعتان والليل الحالك لا يقارن مع سوادهما ولم أعره أي انتباة، ظل يمشي خلفي ويتفوه بتلك السخافات
قلت بانفعال: ولم تفعلي شيء؟
حملت دفترها من على الطاولة وقالت: أترين هذا الدفتر الضخم؟ التفت وضربته به على رأسه الفارغ المليء بالسخافات ثم واصلت طريقي ولم ألتفت مرة أخرى..
ضحكت بشدة حتى دمعت عيناي، قلت لها بحماس: خير ما فعلتي، يستحق ذلك الأحمق، من يظن نفسه، هؤلاء الرجال مستفزون جداً..
أعجبتي هذه الفتاة، تتحدث بكل جوارحها، توسع عينيها وتحرك يديها بانفعال، أظنني لو كنت مكانها لفعلت كما فعلت، شعرت بأنها تشبهني، أعجبني مرحها وعفويتها..
تحدثنا كثيراً، ووجدنا عاملاً مشتركاً بيننا، وهو تذمرنا من حماقات شباب هذه الأيام، وعلاقتنا المحدودة جداً معهم، وأخيراً وجدت رفيقة يمكنني التجول معها في حرم الجامعة من دون أن أضطر للتوقف مع شاب لأنها تريد أن تسلم عليه..
صرنا ندخل ونخرج معاً، بسمة فتاة رقيقة جداً، ناعمة جداً من الطبيعي أن تعجب كل الشباب، أخبرتني بأنها "شهادة عربية" أي أنها تسكن خارج البلاد، وأمتحنت الشهادة السودانية من خارج البلاد ثم جاءت لتدرس هنا، لديها أقاربها في المدينة ولكنها فضلت أن تسكن في سكن للفتيات، هي تسكن في سكن خاص، فالطبع أن أمثالها لن يحتملون جو السكن العام، هو ليس سيئا جداً، ولكنه أيضاً ليس بجيد..
ظلننا نثرثر مع بعضنا، كانت المرة الأولى التي أبقى فيها في الجامعة كل هذه المدة بعد انتهاء المحاضرات، كنت أعود فوراً إلى السكن، لا أعرف أين ذهب حب الاستكشاف، ولكن هذه الكلية المكدسة بالمرضى تخنقني..
كنت أحياناً أذهب إلى كلية الطب، التي تقع بداخل مجمع الجامعة، بالقرب من السكن الداخلي، كانت بيئتها رائعة تفتح النفس للدراسة، مليئة بالاشجار والزهور، مقاعد منتظرة في كل مكان، لها هيبة، تعرف أنها كلية، ليس مثل كليتنا التي لا توجد لافتة تدل على أنها كلية..
حسناً، حسناً، لن أتذمر، إنها البداية، لعلي أكتشف أشياء جميلة في هذه الكلية في الأيام القادمة، من يدري..
كانت أكثر ما يزعجني في الجامعة هو الانفتاح كما يسمونه، لبس خليع لا تستطيع النظر إليه مرتين، شاب وفتاة ممسكين بأيدي بعضهم البعض، لا أنسى تلك المرة، عندما رأيت شاب يمسك بيد فتاة، يجلسون بالقرب وأنا أنظر إليهم بدهشة، إذا كانو يفعلون ذلك أمام العلن، بالتأكيد ما خفي أعظم!
كنت أتأفف، أزعجني المنظر ولكن لا يوجد مكان آخر لأجلس فيه، بعد قليل عندما غادرا، ألتفت الشاب باتجاهي وغمز لي بعينه، فتحت فمي كالبلهاء، لم أستوعب ما حدث، قلت بصوت عالي: أحترم نفسك أيها الغبي
فجأة وجدت كل من حولي ينظرون إلي، تغيرت ملامح وجه الشاب، لم يتوقع رد فعلي، التفتت الفتاة أيضاً فنظرت إليه متسائلة، أظنه اخبرها بأن لا تهتم وحسها على السير بسرعة، المسكينة! لا تعرف ماذا يفعل هذا الذي تسميه حبيبها من خلفها، تتنازل عن حيائها، ترتكب معه أخطاء، ويا ليته بعد ذلك يخلص لها، لا، بل يخدعها بمهارة..
آلمني قلبي بشدة على تلك الفتاة المسكينة، لماذا يرخصن أنفسهن إلى هذه الدرجة، لماذا يتنازلن عن حيائهن، ماذا لو زارها والدها فجأة في الجامعة ورأى ذلك الشاب يمسك يدها، ما مبررها؟ كيف سيكون شعور والدها الذي أخفضت رأسه وخذلته، حتى وإن كان ذلك الشاب خطيبها، لا يحق له بأن يمسك يدها، لو كان يحبها حقاً كما تعتقد، لما فعل ذلك معها، لكان يغار عليها، ويخاف عليها من نفسه قبل الآخرين، لكان إحترامها من إحترامه ولما تجرأ على أن يتجاوز حدوده معها، ولكنني كما أقول دائما، الفتاة هي التي تحسم هذه الأمور، هي التي تضع الحدود في تعاملها مع الرجال، لا يستطيع رجل تجاوز حدوده معها إن لم تسمح بذلك، ومثلها لا يعجب الرجال، هم يحبون من تجعلهم يركضون خلفها، من يشعرون بأن لها قيمة، من يجتهدون حتى يصلون إليها، ولكن من تسلمهم نفسها هكذا، فهي مجرد لعبة بالنسبة إليهم، تسلية مؤقتة، ولكن عندما يفكرون بالزواج، فلن يفكرو فيها أبداً، قد يقول البعض بأن هناك من تزوج حبيبته، قد يحدث هذا نادراً، يتزوجها، ولكن هل سيحترمها، هل سيثق فيها؟ تنازلها قبل الزواح سوف يفسد عليها كثيراً بعد الزواج..
جلست بقربي فتاة سمراء، ترتدي فستاناً واسعاً وتضع بعض مستحضرات التجميل، متوسطة القامة، ممتلئة الجسم، ملامحها طفولية، قالت لي بابتسامة: لا تنزعجي، رأيت كل ما حدث
قلت بحزن: كيف لا أنزعج! يزعجني موقف الفتاة أكثر مما فعله الشاب
قالت بابتسامة: ما اسمك؟
قلت: يقين
تابعت: أنا رانيا، أسكن العاصمة يا يقين، وهذه المناظر أصبحت عادية جداً بالنسبة إلي، لأنني أراها بكثرة هناك، سوف تنزعجين كثيراً لأنك سوف ترين العجائب، لذلك أنصحك بأن لا تنفعلين مع كل ما ترينه
تنهدت ثم قلت: سأحاول، ولكن ألا تفكرن هؤلاء الفتيات في أهلهن؟
قالت: أتعرفين، رأيت موقفا في الصباح، جعلني أدرك شيئاً مهما، أن للعائلة والتربية دور كبير في كل ما يحدث، وفي كل تصرف يبدر من فتاة أو شاب، دخلت فتاة ترتدي ملابساً ضيقة ولم أستطع النظر إليها مرتين من بشاعتها، أوقفها الحرس الجامعي، ونصحها بلطف بأن هذا لا يجوز، وألا تأتي بهذه الملابس مرة أخرى..
غضبت الفتاة وانفعلت، قالت كلام ليس فيه أي احترام ولا تقدير لذلك الرجل الكبير الذي يقف أمامها، ثم تخيلي ماذا حدث بعدها؟
قلت: ماذا حدث؟
تابعت: اتصلت بوالدها تشكو له، فأتى بعد مدة قليلة جداً، لم يتحدث إليها هي، بل فعل مثلها، شتم الحارس وأخبره بأن ابنته خرجت من منزله بهذه الثياب وهو راضي تماماً عنها، من أنت لتطلب منها أن تبدل ملابسها! هل تتخيلين ما حدث! الأب راضي عن أن تخرج ابنته بذلك المنظر المشين! هم عائلة منفتحة كما قال، ولا أتعجب إن زار الشباب بعض الفتيات في منازلهم عل أساس أنهم أصدقائهم، وتقبل الأهل الأمر بصدر رحب، التربية لها دور كبير في سلوكنا يا يقين، حتى وإن لم يكن هذا الانفتاح من مبادئ الأهل، فعلى الأقل ينبغي أن يكون لديهم رقابة على بناتهم، الشخص الذي يفعل ذلك، فأعلمي أنه خرج من منزل لم يعلمه شيئاً من المبادئ الصحيحة..
حتى أن التربية في زمننا هذا أصبحت منعدمة، الأباء يرعون ولا يربون، وهناك فرق كبير بين أن تعلم طفل القيم الصحيحة وبين أن تطعمه وتكسيه، كلامهما واجب، ولكنهم فعلو الرعاية وتركو التربية
قلت: صحيح، كلامك صحيح مئة في المئة
أعجبتني طريقة تفكيرها، يبدو أنها فتاة واعية جداً
قالت: حسناً، لم أتحدث مع أحد بهذه الطريقة منذ أن أتيت، هل يمكننا أن نصبح رفيقتين
قلت: بالطبع، إن هذا لشرف لي
قالت: شرف الله قدرك، أحببتك منذ أن رأيتك تتحدثين في القاعة ذلك اليوم، يبدو أنك فتاة واعية، ولكنك انفعالية قليلاً
ثم ضحكت
قلت: بل كثيراً، وهذا من عيوبي
قالت: لا بأس، على الأقل جعلتي ذلك الشاب يرتجف من الرعب
ضحكنا، تحدثنا قليلا، أخبرتني بأنها تسكن العاصمة، وتسكن هنا في سكن خاص
وللصدفة العجيبة، حضرت بسمة أثناء جلوسي معها، كانت تعرفها، تسكننان معاً في نفس السكن..
أصبحنا نحن الثلاث نذهب ونجي معاً في الجامعة، كل واحدة فينا مختلفة عن الأخرى، ولكننا أنسجمنا مع بعضنا بسرعة..
ادعيت أنني لم أراه، ولكنه وقف أمامي وعلى وجهه ابتسامة، يسألني عن حالي، كأنه يعرفني منذ زمن، نظرت إليه بلا مبالاة، أعطيته رد مقتضب ثم عدت أنظر إلى هاتفي..
قال لي: هل يمكنني الجلوس؟
كانت هناك حوارات تدور بداخل عقلي، من يظن نفسه ليطلب مني هكذا طلب، يجلس معي! هذا الأخرق، حاولت تمالك أعصابي وقلت بعد أن نهضت: لدي محاضرة بعد قليل، عن إذنك..
قال بارتباك: أوه حسنا، خذي راحتك
قلت: طبعا سأفعل ذلك، وهل علي الاستئذان منك مثلا..
بالطبع لم أقل ذلك بصوت عالي، كان بداخلي فقط، ليس صعباً علي أن أقول ذلك علناً، ولكن لا أريد أن أكون الفتاة الشريرة منذ البداية، أظن أن ردودي كان واضحة، بمعنى أنني لا أطيقك، أما إن حاول تجاوز حدوده معي ذات مرة، فوقتها سأجعله يندم..
قد يقول البعض بأنني معقدة، قد تكون نيته سليمة، لا ينوي على شيء، تحدث معي فقط من باب أنه عرفني ذلك اليوم، أو ربما يريد مساعدتي بما أنني جديدة في الجامعة..
بغض النظر عن كل شيء، أنا مرتاحة هكذا، بعدي عن الرجال راحة كبيرة بالنسبة لي، أبعد نفسي عن المشاكل وعن كل ما يعكر صفوها، يكفيني علاقتي السطحية جداً معهم، من غير أي تجاوز للحدود، أو علامة تدل على أنني أرغب في مصادقتهم…
أثناء سيري باتجاه القاعة التي سوف تدرس فيها المحاضرة، صدمت بفتاة، سقطت كلا أغراضنا، كانت هي المخطئة، تمشي مندفعة كأنها لا ترى أمامها، ويبدو على وجهها الغضب..
قالت بسرعة قبل أن تنظر إلي: أعتذر، أعتذر، أعتذر، أظن أنها أعادتها أكثر من عشر مرات
قلت ضاحكة: لا بأس
نظرت إلي فقالت بدهشة: أوه، أنت يقين أليس كذلك؟
قلت بتعجب: نعم أنا، هل تعرفينني!
قالت بابتسامة وقد استعادت هدوئها: رأيتك أول يوم عندما تحدثتي أمام الجميع، أعجبتني ثقتك بنفسك، ووعيك
قلت بارتباك: يبدو أنني أصبحت مشهورة
قالت: تستحقين الشهرة، هيا سوف تبدأ المحاضرة
دخلنا إلى القاعة وجلسنا معاً في نفس البنش
كانت المحاضرة لمادة الكيمياء الاحيائية، من يومي وأن أكره الكيمياء، لم أتوقع أن أجدها هنا أيضاً، تأففت بضجر، ولكن بعد أن بدأت المحاضرة وجدت نفسي اتابع بتركيز، كان المحاضر رائعاً، أسلوبه في الشرح جميل جداً، ويحببك في كل ما يقوله، خفف علي كرهي للكيمياء..
استمرت المحاضرة ساعة ونصف، نظرت بجانبي فإذا بي أرى الفتاة تقط في نوم عميق، أيقظتها، فتابعت قليلا ثم نامت مرة أخرى، لحسن الحظ لم يلاحظ لها المحاضر، ولم تستيقظ إلا بعد انتهاء المحاضرة..
بدأ الجميع بالخروج من القاعة، كانت الفتاة تنظر حولها كأنها لا تعي ما يحدث، عدلت حجابها، ثم قالت: هل انتهت المحاضرة بهذه السرعة؟
قلت: مرت ساعة كاملة، كيف تنامين في هكذا وضع؟ وماذا لو كان الطبيب من ذلك النوع الذي يستفز بسهولة
قالت بتساؤب: لا أستطع مقاومة النوم أثناء المحاضرات، كأن مخدر يرش في الجو ويجعلني لا أشعر بما حولي
ضحكت ثم قلت: بالمناسبة لم تخبريني ما اسمك
ردت بمرح: أنا بسمة، تشرفت بمعرفتك يا يقين، أعتذر مرة أخرى على ذلك الصدام، ولكنني كنت غاضبة جداً..
قلت بابتسامة: اسمك جميل، وابتسامتك كذلك، الغضب لا يليق بك
قالت بانفعال لم أتوقعه: كيف لا أغضب وهذه الكلية مليئة بالحمقى، والمستفزين جداً، من يظنون أنفسهم هولاء الأغبياء
كتمت ضحكتي، كان منظرها مضحكاً، قلت: ماذا تقصدين؟
قالت بنفس الانفعال: ذلك الشاب ذو الشعر الطويل والذي يبدو كالفتيات، ويرتدي حذاء أظنه كان تراثاً لأقاربه من العصر الحجري، أغصبني جداً
قلت: ماذا فعل؟
تحولت نطرتها إلى نظرة غاضبة وقالت: كان يتحدث بكلمات مستفزة، قال لي بأن الأسود يليق بي، لم أعره أي انتباه، ثم قال بأن عيني واسعتان والليل الحالك لا يقارن مع سوادهما ولم أعره أي انتباة، ظل يمشي خلفي ويتفوه بتلك السخافات
قلت بانفعال: ولم تفعلي شيء؟
حملت دفترها من على الطاولة وقالت: أترين هذا الدفتر الضخم؟ التفت وضربته به على رأسه الفارغ المليء بالسخافات ثم واصلت طريقي ولم ألتفت مرة أخرى..
ضحكت بشدة حتى دمعت عيناي، قلت لها بحماس: خير ما فعلتي، يستحق ذلك الأحمق، من يظن نفسه، هؤلاء الرجال مستفزون جداً..
أعجبتي هذه الفتاة، تتحدث بكل جوارحها، توسع عينيها وتحرك يديها بانفعال، أظنني لو كنت مكانها لفعلت كما فعلت، شعرت بأنها تشبهني، أعجبني مرحها وعفويتها..
تحدثنا كثيراً، ووجدنا عاملاً مشتركاً بيننا، وهو تذمرنا من حماقات شباب هذه الأيام، وعلاقتنا المحدودة جداً معهم، وأخيراً وجدت رفيقة يمكنني التجول معها في حرم الجامعة من دون أن أضطر للتوقف مع شاب لأنها تريد أن تسلم عليه..
صرنا ندخل ونخرج معاً، بسمة فتاة رقيقة جداً، ناعمة جداً من الطبيعي أن تعجب كل الشباب، أخبرتني بأنها "شهادة عربية" أي أنها تسكن خارج البلاد، وأمتحنت الشهادة السودانية من خارج البلاد ثم جاءت لتدرس هنا، لديها أقاربها في المدينة ولكنها فضلت أن تسكن في سكن للفتيات، هي تسكن في سكن خاص، فالطبع أن أمثالها لن يحتملون جو السكن العام، هو ليس سيئا جداً، ولكنه أيضاً ليس بجيد..
ظلننا نثرثر مع بعضنا، كانت المرة الأولى التي أبقى فيها في الجامعة كل هذه المدة بعد انتهاء المحاضرات، كنت أعود فوراً إلى السكن، لا أعرف أين ذهب حب الاستكشاف، ولكن هذه الكلية المكدسة بالمرضى تخنقني..
كنت أحياناً أذهب إلى كلية الطب، التي تقع بداخل مجمع الجامعة، بالقرب من السكن الداخلي، كانت بيئتها رائعة تفتح النفس للدراسة، مليئة بالاشجار والزهور، مقاعد منتظرة في كل مكان، لها هيبة، تعرف أنها كلية، ليس مثل كليتنا التي لا توجد لافتة تدل على أنها كلية..
حسناً، حسناً، لن أتذمر، إنها البداية، لعلي أكتشف أشياء جميلة في هذه الكلية في الأيام القادمة، من يدري..
كانت أكثر ما يزعجني في الجامعة هو الانفتاح كما يسمونه، لبس خليع لا تستطيع النظر إليه مرتين، شاب وفتاة ممسكين بأيدي بعضهم البعض، لا أنسى تلك المرة، عندما رأيت شاب يمسك بيد فتاة، يجلسون بالقرب وأنا أنظر إليهم بدهشة، إذا كانو يفعلون ذلك أمام العلن، بالتأكيد ما خفي أعظم!
كنت أتأفف، أزعجني المنظر ولكن لا يوجد مكان آخر لأجلس فيه، بعد قليل عندما غادرا، ألتفت الشاب باتجاهي وغمز لي بعينه، فتحت فمي كالبلهاء، لم أستوعب ما حدث، قلت بصوت عالي: أحترم نفسك أيها الغبي
فجأة وجدت كل من حولي ينظرون إلي، تغيرت ملامح وجه الشاب، لم يتوقع رد فعلي، التفتت الفتاة أيضاً فنظرت إليه متسائلة، أظنه اخبرها بأن لا تهتم وحسها على السير بسرعة، المسكينة! لا تعرف ماذا يفعل هذا الذي تسميه حبيبها من خلفها، تتنازل عن حيائها، ترتكب معه أخطاء، ويا ليته بعد ذلك يخلص لها، لا، بل يخدعها بمهارة..
آلمني قلبي بشدة على تلك الفتاة المسكينة، لماذا يرخصن أنفسهن إلى هذه الدرجة، لماذا يتنازلن عن حيائهن، ماذا لو زارها والدها فجأة في الجامعة ورأى ذلك الشاب يمسك يدها، ما مبررها؟ كيف سيكون شعور والدها الذي أخفضت رأسه وخذلته، حتى وإن كان ذلك الشاب خطيبها، لا يحق له بأن يمسك يدها، لو كان يحبها حقاً كما تعتقد، لما فعل ذلك معها، لكان يغار عليها، ويخاف عليها من نفسه قبل الآخرين، لكان إحترامها من إحترامه ولما تجرأ على أن يتجاوز حدوده معها، ولكنني كما أقول دائما، الفتاة هي التي تحسم هذه الأمور، هي التي تضع الحدود في تعاملها مع الرجال، لا يستطيع رجل تجاوز حدوده معها إن لم تسمح بذلك، ومثلها لا يعجب الرجال، هم يحبون من تجعلهم يركضون خلفها، من يشعرون بأن لها قيمة، من يجتهدون حتى يصلون إليها، ولكن من تسلمهم نفسها هكذا، فهي مجرد لعبة بالنسبة إليهم، تسلية مؤقتة، ولكن عندما يفكرون بالزواج، فلن يفكرو فيها أبداً، قد يقول البعض بأن هناك من تزوج حبيبته، قد يحدث هذا نادراً، يتزوجها، ولكن هل سيحترمها، هل سيثق فيها؟ تنازلها قبل الزواح سوف يفسد عليها كثيراً بعد الزواج..
جلست بقربي فتاة سمراء، ترتدي فستاناً واسعاً وتضع بعض مستحضرات التجميل، متوسطة القامة، ممتلئة الجسم، ملامحها طفولية، قالت لي بابتسامة: لا تنزعجي، رأيت كل ما حدث
قلت بحزن: كيف لا أنزعج! يزعجني موقف الفتاة أكثر مما فعله الشاب
قالت بابتسامة: ما اسمك؟
قلت: يقين
تابعت: أنا رانيا، أسكن العاصمة يا يقين، وهذه المناظر أصبحت عادية جداً بالنسبة إلي، لأنني أراها بكثرة هناك، سوف تنزعجين كثيراً لأنك سوف ترين العجائب، لذلك أنصحك بأن لا تنفعلين مع كل ما ترينه
تنهدت ثم قلت: سأحاول، ولكن ألا تفكرن هؤلاء الفتيات في أهلهن؟
قالت: أتعرفين، رأيت موقفا في الصباح، جعلني أدرك شيئاً مهما، أن للعائلة والتربية دور كبير في كل ما يحدث، وفي كل تصرف يبدر من فتاة أو شاب، دخلت فتاة ترتدي ملابساً ضيقة ولم أستطع النظر إليها مرتين من بشاعتها، أوقفها الحرس الجامعي، ونصحها بلطف بأن هذا لا يجوز، وألا تأتي بهذه الملابس مرة أخرى..
غضبت الفتاة وانفعلت، قالت كلام ليس فيه أي احترام ولا تقدير لذلك الرجل الكبير الذي يقف أمامها، ثم تخيلي ماذا حدث بعدها؟
قلت: ماذا حدث؟
تابعت: اتصلت بوالدها تشكو له، فأتى بعد مدة قليلة جداً، لم يتحدث إليها هي، بل فعل مثلها، شتم الحارس وأخبره بأن ابنته خرجت من منزله بهذه الثياب وهو راضي تماماً عنها، من أنت لتطلب منها أن تبدل ملابسها! هل تتخيلين ما حدث! الأب راضي عن أن تخرج ابنته بذلك المنظر المشين! هم عائلة منفتحة كما قال، ولا أتعجب إن زار الشباب بعض الفتيات في منازلهم عل أساس أنهم أصدقائهم، وتقبل الأهل الأمر بصدر رحب، التربية لها دور كبير في سلوكنا يا يقين، حتى وإن لم يكن هذا الانفتاح من مبادئ الأهل، فعلى الأقل ينبغي أن يكون لديهم رقابة على بناتهم، الشخص الذي يفعل ذلك، فأعلمي أنه خرج من منزل لم يعلمه شيئاً من المبادئ الصحيحة..
حتى أن التربية في زمننا هذا أصبحت منعدمة، الأباء يرعون ولا يربون، وهناك فرق كبير بين أن تعلم طفل القيم الصحيحة وبين أن تطعمه وتكسيه، كلامهما واجب، ولكنهم فعلو الرعاية وتركو التربية
قلت: صحيح، كلامك صحيح مئة في المئة
أعجبتني طريقة تفكيرها، يبدو أنها فتاة واعية جداً
قالت: حسناً، لم أتحدث مع أحد بهذه الطريقة منذ أن أتيت، هل يمكننا أن نصبح رفيقتين
قلت: بالطبع، إن هذا لشرف لي
قالت: شرف الله قدرك، أحببتك منذ أن رأيتك تتحدثين في القاعة ذلك اليوم، يبدو أنك فتاة واعية، ولكنك انفعالية قليلاً
ثم ضحكت
قلت: بل كثيراً، وهذا من عيوبي
قالت: لا بأس، على الأقل جعلتي ذلك الشاب يرتجف من الرعب
ضحكنا، تحدثنا قليلا، أخبرتني بأنها تسكن العاصمة، وتسكن هنا في سكن خاص
وللصدفة العجيبة، حضرت بسمة أثناء جلوسي معها، كانت تعرفها، تسكننان معاً في نفس السكن..
أصبحنا نحن الثلاث نذهب ونجي معاً في الجامعة، كل واحدة فينا مختلفة عن الأخرى، ولكننا أنسجمنا مع بعضنا بسرعة..