الفصل الثاني

كانت تتكلم وكنت أصغي، لكن دون أن تمتد يدها لتمسح دمعة ندم على ما فعلت فمسحتها أنا.
بكل حب العالم كنت أستمع إلى ما تقول، تشدني نبرة صوتها، تأسرني بلاغة أسئلتها، وكأنني أستمع إليها للمرة الأولى، وكأنه لم تكن بيننا عشرة أيام وشهور.. وسنين.
حارت الأجوبة في رأسي، فماذا عساي أقول دفاعا عن نفسي في مواجهة "هجومها العقلاني" والمؤثر في آن.
هل أقول لها بأنها كانت غلطة شاطر سقط صريع نزوة عابرة؟ لكن كما يقولون فإن غلطة الشاطر بألف، والنزوة لا يمكن أن تعمر، وأنا أسير قيود حب امرأة أخرى.. زوجة أخرى. هل هو تماد في الخطأ أطال عمر ما يسميه البعض.. نزوة؟
كان من الصعب جدا بل من المستحيل أن أبرر فعلتي. أي عيب في هذه الزوجة المخلصة يمكنني أن أجعله "شماعة" أعلق عليها نتيجة ما فعلت؟ لم أجد ولن أجد سببا مقنعا، على الأقل بالنسبة لي شخصيا، إذ ليس من السهل أن يضحك الواحد منا على نفسه.
واتتني الشجاعة أخيرا لأواجه زوجتي بما توهمت بأنه حقيقة.
لم يكن فيك عيب أبدا يدفعني كي أفعل ما فعلت. لم تكوني أنت السبب أبدا، وهذا هو السبب في صحوة الضمير التي أعاني منها.
صدقيني، لأنك لو كنت سبب زواجي من غيرك ربما كنت استطعت أن أقنع نفسي بأن أنام على وسادة أخلط في داخلها الشوك مع الحرير، بعد أن كنت أنام في زمانك على وسادة كلها حرير، وخارج زمانك على وسادة كلها شوك، وقد زيّن لي شيطان نفسي في يوم من الأيام أنها ستكون حريرا في حرير.
نعم أنا مخطئ وأعترف بذنبي. نعم إنه ذنب اقترفته يساوي عندي ذنوب العالم كلها. كيف استبدلت الشقاء بالسعادة؟ كيف استبدلت الجحود ونكران الجميل بالوفاء؟ كيف تجاهلت سنوات عمري الماضية المليئة بالحب والتعب والشقاء والسعادة، المليئة بحلاوة الحياة ومرها، كيف ساعدتني نفسي على أن أغيرها إلى حياة خاوية لا سعادة فيها.. بل ولا حتى شقاء.
لا أنكر أنني أخطأت، فلو كنت أنت السبب أو بعضه لوجدت بعضا من نفسي قد وجد شيئا من الراحة على ما فعلت، ورأيت العالم يؤيدني ويشد من أزري. أليس من حقي أن أفعل ما أريد في ظل ما لي من حقوق وعليّ من واجبات؟
لم تكوني أنت السبب ولن تكوني، إنها مجرد غلطة. آه من هذه الغلطة التي كلفتني كثيرا. لا أكون مجافيا للحقيقة إذا قلت إنها كلفتني ربما عمري على الرغم من أنني لا أزال حيا أرزق. نعم إنها تساوي العمر في ميزان الخسارة، وقد ثمنتها بعد أن انقشعت الغمامة عن عيني، ثمنتها في لحظة صدق مع نفسي بعيدا عن كل ما يمنحني الحق في أن أذهب إلى ما ذهبت إليه.
نعم لقد أخطأت في حق نفسي قبل أن أخطئ في حقك. هذه حقيقة وقد تسألينني كيف وأنا الرجل الذي تركك وأنت في أمس الحاجة إلى يد الحبيب الحانية تُبلسم عذاباتك، خصوصا بعد أن ودّعنا سويا ابنتنا.. تلك الوردة التي انتظرناها كثيرا، وكنت أنت الأكثر بلاغة بيننا نحن الاثنين في التعبير عن الشوق إليها، إلى يوم ولادتها، كانت بالنسبة لك الرجاء، الأمل، قطرة الندى تُبلسم عطش وردة في صحراء حارة، جافة، قاحلة، موحشة، جدباء.
لله ما أشد قسوتي، كيف نسيت في غمرة جحودي تلك الليالي التي كنت أنام فيها وأنا قرير العين أوهم نفسي بأنني الزوج الذي يمنح زوجته كل السعادة، وغاب عن بالي أنك كنت تقضين الليل ساهرة، باكية، تُبللين الوسادة بماء الدمع، وتتحاشين إزعاجي بتنهيدة، بزفرة، حتى لا توقظيني من نومي المستغرق في بحور أحلامه.
لله ما أشدّ غبائي وأنا الذي لم يسألك يوما عن سر احمرار عينيك، وتلك الهالة السوداء التي كانت تحيق بهما قبل أن أكتشف الأمر. هل كنت حينها زوجا طبيعيا، أم رجلا فاته الخوض في غمار عواطف النساء، أسرارهن، خصوصا وأننا لم ننجب بعد سنوات من زواجنا، ألم يكن الأمر جديرا بأن أسأل نفسي عن السرّ، ربما يكون العائق مني أنا وليس منك، فلم أبادر إلى إزاحة الستارة عن السر.
كنت أتكلم وكانت تصغي.
ابتسمت وهي تشعل لي سيجارة وتصب ما تبقى من القهوة في فنجاني. التقت نظراتنا. لم أستطع أن أتبين للوهلة الاولى اقتناعها من عدمه. أمر واحد أدركته هو.. رغبتها في أن تعرف سببا لعودتي...ففعلت.
عدت إليك يا حبيبتي بعد أن أدركت الحقيقة ووجدت ذاتي لا أصلح إلا للحلم الأول، وللأمل الأول، لا أصلح إلا لك، مع الضمانة من دون جدل أنك لا تزالين على عهدك لي.
لا أدري فعلا، أقولها صادقا، كيف تجرأت على الزواج مرة ثانية، وبالأحرى لا أجرؤ على التصور كيف تزوجت امرأة أخرى ولماذا؟
لا أدري كيف تجرأ هذا الطفل الكبير العائد إلى المراهقة من جديد أن يمتطي متن هذا العقل ويسيطر عليه ويسخره لخدمة حواسه، فبات العقل مسيرا والفؤاد أسيرا.
ولأنها لحظة الحقيقة أعترف أنني دخلت قفصها الذي اكتشفت بعد أيام قليلة، إن لم تكن ساعات معدودة أن قضبانه اعتراها الصدأ، وأن قاعدته مهترئة لا تكاد تحتمل حتى إنسانا يتقلب على فراش الندم، فكيف بعاشقين؟ كانت بالنسبة لي غلطة العمر.
أقرّ وأعترف بأنني أنا المخطئ الذي لم يتمكن من كبح جماح ذلك الطفل الكبير المراهق فسقط في حفرة أنانيته وغرائزه، تجاهل أو ربما حاول أن يتجاهل كل جمال الماضي.
لا أدري كيف تمكن هذا الرجل الذي هو أنا أن يتغاضى في لحظة ضعف، أو نزوة عن ذلك الماضي الذي جمعني وإياك، منذ فترة الصبا، كيف نسيت قصة الحب التي نسجناها سويا تحت تينة أو أمام عريشة عنب، نقطف كوزا أو عنقودا، وحبة لك وأخرى لي.. كيف طاوعني قلبي أن أتنكر لذلك العشق العذري وأنا المتيم ب "جميل بثينة" وقصة حبه لابنة عمه التي لم يتزوجها بسبب قصيدة، غير أنه استمر في حبها ونظم فيه أجمل الأشعار.
أنا الزوج العائد إلى خيمة حبي الأول والأخير، التائب، المقر بذنبه، أعترف بأن زوجتي الثانية ليست مذنبة.. صحيح أنها وقفت في طريقي غير أنها لم تجبرني على أن أتزوجها. كان لها الحق في أن تحلم بزوج يملأ عليها حياتها كما تريد هي لحياتها، ولكن لم يكن لي الحق في أن أكون أنا هو هذا الزوج. لقد كان طريقنا مختلفا، لكننا حاولنا أن نلتقي بالرغم من إدراكنا استحالة اللقاء، وبالأمس كانت نهاية اللقاء الذي لم يثمر إلا وجعا وألما وندوبا ودموعا وطلب ورقة طلاق ربما في يوم ما.
هل عرفت لماذا عدت بالرغم من أنني لم أكن غائبا، فقد كان كل شيء في زواجي الأول يعيش في ذاكرتي، يعشش في حنايا فؤادي، أو تعلمين أن سنوات زواجنا لا تزال طرية العود ندية الذكريات عابقة بالأمل بالرغم مما اعتراها من ألم؟
هل تعرفين الآن ماذا أريد؟ أريد حبك وعطفك. أريد احترامك وثقتك. أريد الصفح والبدء من جديد.. مع كل الرجاء بالقبول.
أنا من دونك إنسان مُحطّم، إنسان جوفه فارغ، خاو، لا يحسّ بطعم الحياة، مشتاق إلى طعم الليالي التي كنا خلالها حبيبين قبل أكثر من ثلاثين سنة، إلى تلك اللحظة التي أفصحت لك خلالها بحبي، إلى تورّد خدّيك وأنت تستمعين إلى دقات قلبي، وخفر عينيك وأنت تنظرين إلى الأرض خجلا، وامتناعك عن الإجابة أو التعليق على الرغم من أن كل ذرة فيك كانت تنبئ بتلك الكلمة التي اسمها حب.
شدة تأثري وانفعالي منعتني من الاسترسال في الحديث، فقد خنقتني العبرات. انطلق صوتها بهدوء ورصانة.. لقد أعطيتك الحب والعطف، فقتلت في نفسي الاحترام والثقة.. سكتت برهة ثم طلبت ورقة الطلاق صارخة.. هل أتيت اليوم لتضع اللوم على زوجتك الثانية بعد أن باتت غير قادرة على الدفاع عن نفسها، بعد أن أصبحت أسيرة الوجع والألم في غرفة في مستشفى للأمراض النفسية؟
ومن قال إنني أضع اللوم عليها، أنا من يتحمل مسؤولية كل ما حدث، إن قلبي يبكي على الحال الذي وصلت إليه سعاد، من قال لك إنني لا أبكي في سرّي على وجعها، ألمها، سجنها في مجرد غرفة لا تعي ما حولها، فقط أمر واحد تعرفه، أنها فقدت فلذة كبدها، تبكيه بحسرة وصرخة ودموع، فتقتلني في كل مرة أراها فيها ألف مرة.
هل كنت تعتقدين أنني تركتها لتصارع الوجع وحدها، أنني رميتها في المستشفى لأتخلص منها، لقد كان أمرا مطلوبا وبإلحاح وفق إفادات الأطباء، لأنها إن بقيت وحيدة في المنزل فقد تؤذي نفسها، بل ربما تقتل نفسها لأن ابننا يزن يسكن في أعماقها، هو الوحيد الذي تعرفه، تناجيه، تعلم أنه رحل ولن يعود، وكم من مرة حاولت أن تلحق به لولا أن كنا إلى جانبها، نمنعها.
هل تعرفين يا ليلى أنني كدت أن أقع، أن أخطئ بمحاولة أذية نفسي، كان كل ما حولي باردا، صقيعا، جليدا، كدت أموت من برودة داخلي الذي بات فارغا أجوف، بيني وبين الموت كانت نقطة، فاصلة، لولا أنني تمسكت بالقوة التي ادّعيتها يوما، من قال لك إنني قوي، أي أب يمكن أن يكون قويا في مثل ما مررت به، أي والد يسير في جنازة ابنه مع المشيعين الباكين، يسمع في صوت نعليه دبيب الطفل الذي رحل، يوم اجتاز خطوته الأولى، اختبر صلابة عوده، كنت أراه في الموكب الحزين طفلا، كانت أمام عينيّ صورة وحيدة، يوم حملته بين ذراعي بعد ولادته، أبحرت في بحر عينيه، فرأيت العالم فيهما جميلا، مبتسما لي.
آه كم أنا اليوم في أمسّ الحاجة إلى تسامحك، نبلك، مروءتك، كبريائك، عطفك، إنسانيتك، ألاّ تتركيني على قارعة الطريق أصارع وجعي.
هل كان حلما مزيفا ما بيننا يا ليلى طوال السنين الماضية بعد أن سامحتني أول مرة وعادت مياه حياتنا إلى مجاريها وكانت ابنتنا ثمرة عمرينا، سراجا كلما قرّبته منك زادت مساحة الضوء، كانت الضوء لحياتنا.
رأيتها تبكي بصمت، لقد تأثرت جدا بكلامي، فسقط القناع الذي حاولت أن ترتديه طالبة ورقة طلاق.
عادت كما عهدتها، ليلى، وأي ليلى لا تسامح قيسها؟
مسحت دموعها ونظرت إليّ مخاطبة.. لقد أثار كلامك في نفسي الوجع ولا أخالك إلا صادقا في كل كلمة قلتها.
لقد وقفت على حال سعاد عن كثب، كنت أراك تبذل المستحيل حتى تخرجها من وضعها الذي كان يسوء يوما إثر يوم، أدركت أن رحلتك معها طويلة، قد تأخذك مني، وعندما وجدت أن الزيارة لم تعد تُفيد، حيث باتت سعاد لا تعرفني حتى، آثرت الصمت والسكون، كان بيتي بمثابة الشرنقة التي حبست نفسي فيها عن طيب خاطر، فلم يعد لي في الدنيا غير وحيدتي، قررت أن أعيش من أجلها، فأكتم الوجع في داخلي وكم كتمته من قبل.
لم يكن حلما فارغا عمري الذي أمضيته معك، لقد عشته وأنا مقتنعة كل الاقتناع أنك الحب الأول والأخير، وإلا لما سامحت وكان من حقي ألاّ أسامح.
هل تعتقد أنه كان بالإمكان أن نعبر ما كابدناه لو لم تكن حيا في قلبي، بل نبض قلبي.
هل فاتك أن من حق المرأة أن تغار، بل من المنطق أن تغار، وكيف لي ألاّ أغار على من أحببت.
هل تدرك أنني حاولت كثيرا ألاّ أكون نصف امرأة، وأنا أرى امرأة أخرى تقاسمني عمري معك.
بل هل نسيت أيها الزوج العائد تائبا أنني.. امرأة؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي