الفصل الخامس

لن أنسى تلك الليلة في حياتي المترعة بأمور كثيرة. كنت في بيتي الأول مع زوجتي الأولى. سنوات عدة مضت على زواجنا لكنني أعترف بأنها كلها كانت مليئة بحرارة حب سنة أولى زواج. فلقد كانت تلك الزوجة وما زالت وستبقى كنزا لم أملك إلا أن أحافظ عليه وأحبه بكل طاقتي على الحب وقدرتي على امتلاك مشاعره، وكثيرا ما كنت أتساءل: ماذا كانت تعني حياتي من دونها؟
في تلك الليلة أحسست بأن حبنا قد بلغ سن الرشد. كنت أحس بسعادة من نوع آخر لم آلفه من قبل. شعور غريب انتابني لم أستطع إدراك كنهه وحقيقته. لم أدر لماذا كنت متفائلا إلى حد كبير.. وقد صدق إحساسي.
قضينا معظم السهرة أمام التلفاز، أحتويها إلى صدري واتأملها تعبث بخصلات من شعري بدأ الشيب يغزوها. وفي عز نومي استيقظت على جلبة. فتحت عينيّ فلم أجدها إلى جانبي. حددت مصير الجلبة ونوعها. انتابني شعور بالفرح، اقتحمت عليها "خلوتها". نعم هذه علامات الحمل، أدركتها بحكم التجربة. كانت خجولة، خائفة، مترددة، مرتبكة. طرت بها إلى طبيب صديق، لم أكن مستعدا للانتظار حتى الصباح، صدق حدسي،
مبروك قالها الطبيب.. ورحت في دوامة من الفرح.
السعادة، كلمة لم تكن لتجسد شعور زوجتي الأولى وشعوري والطبيب الصديق يهنئنا ويبارك لنا قرب إطلالة مولودنا الأول.
كنت أقود السيارة في طريق العودة إلى البيت دون أدنى إحساس بمعالم الطريق. لقد كنت.. كلي.. في شبه إغفاءة، لم أكن أسمع إلا "صوت" دموعها الصامتة وهي تستريح في مقعدها إلى جانبي، فآثرت الصمت وتركتها في "عالمها الخاص" علها تغسل بفرح هذه الليلة كل شقاء وتعب سنوات عمرها وعمري الماضية.
وصلنا، سعادتها كانت تسابق خطواتها ونحن نصعد السلالم. فتحت الباب.. دخلنا.. ارتمت على صدري.. بكت.. صرخت. كانت تتحدث بلغة لم أفهمها، تسكت لحظة ثم تعود إلى البكاء من جديد. استمرت على هذا الحال حتى "ثملت" دموعها. حملت جسدها المسترخي ووضعتها على السرير.
لقد سرقها النوم مني، طبعت قبلة على جبينها، وضعت برفق الغطاء على جسدها النحيل، أطفأت مصباح الغرفة، وعدت إلى الصالون. جهّزت فنجانا من القهوة، أشعلت سيجارة، أحسست بحاجة إلى الانطلاق خارج أسوار الجدران. حملت قهوتي إلى الشرفة. نسيمات من الهواء كانت تداعب شعري بلطف. أحسست بوخزات ناعمة من البرد. سرت قشعريرة عذبة في جسدي الذي كان يغالب التعب. معنى آخر للسعادة الحقيقية تعلمته في هذا الصباح وأنا أرقب خيوط الليل "هاربة" أمام طلائع أشعة الشمس الزاحفة على التلال ببطء.
نقلت نبأ الفرحة إلى زوجتي الثانية وأنا أترصد "صدمتها" التي تجلّت في التعابير المرتسمة على وجهها. ارتبكت.. تلعثمت.. تلونت بألف لون ولون حتى غدت من دون لون.
حاولت جاهدة أن تجمع أشتات نفسها، أن ترسم البسمة على شفتيها. مبروك، كلمة نطقت بها بشق النفس. حاولت أن توهمني بانهماكها في إعداد طعام الغداء وكأن الأمر لا يعنيها كثيرا. غلب عليّ الضحك. كتمت "موسيقاه". دخلت غرفتي ورحت في إغفاءة هانئة.
شهور الحمل مرّت طويلة وزادت في "حرارة" الانتظار مشاكل الحمل التي كانت صعبة، حتى بت من رواد المستشفيات التي قضت فيها زوجتي الأولى أكثر من نصف فترة الحمل. كان همي في تلك الفترة أن ترى سعادة زوجتي النور من مخاضها الطويل الذي استمر سنوات وسنوات وأنا أترقب تحقيق الحلم بمولود أو مولودة أو ربما بتوأم يزيّن عمر أول رفيقة في درب حياتي.
كان عليّ أيضا في بيتي الثاني أن أهدىء من "وساوس" أم العيال التي كثرت ظنونها وهواجسها وأسئلتها طيلة فترة حمل ضرتها.
حاولت بداية أن تبدي سعادتها وسرورها وتعاطفها مع فرح هذه الضرة، لكن الطبع يغلب دائما التطبع، إذ سرعان ما كانت تعود، وهذا أمر طبيعي، إلى طبيعتها الأنثوية لتسألني وهي تكتم غيظها عن سر تأخري عن موعد الغداء أو العشاء، أو عن بعض أمور عملي من خلالها، أين ذهبت ولماذا ومع من؟ وجل همها أن تعرف مدى اهتمامي وتعلقي بضرتها. وكنت في كل ما ذهبت إليه وما فعلته عاذرا لها غير حاقد، لأن تصرفاتها كانت في نظري طبيعية، ومن غير الطبيعي ألاّ تكون.. كما كانت.
بدأت آلام المخاض في فجر أحد الأيام وكنت ألازم "الزوجة السعيدة" في الشهر الأخير من حملها.
كنت قد أجريت بروفات لمثل هذا الحدث، لذا كنت مستعدا تمام الاستعداد لمواجهة الموقف. وعلى الرغم من ذلك فقد أخذتني الرهبة وبدأت أتصبب عرقا وأنا أحمل زوجتي وفقا للسيناريو المرسوم إلى السيارة فالمستشفى.
أمر واحد أذهلني. قدرتها على الصمود طوال الطريق دون أن تبدي أي إحساس بالألم، لقد كانت تدرك أن الأمر يستحق الوجع.. ووصلنا إلى
المستشفى.
عادت بي الذاكرة سنوات إلى الوراء وأنا أعيش المشهد نفسه، والموقف الذي أحياه اليوم، القلق نفسه كان ينتابني والمشاعر هي ذاتها كانت تغلف كياني مع فارق وحيد.. إحساسي بالأبوة والمسؤولية زاد عمقا ورسوخا.
كنت أذرع الردهة أمام غرفة الولادة جيئة وذهابا، أشعل سيجارة من عقب أخرى. أقف برهة عن الحركة. أرفع صوتي بالدعاء. لقد كنت خائفا ومتوترا. كل ذرة في كياني كانت تستعجل الحلم. تستبقه. الحلم لأمومة إنسانة أحببتها فأعطتني الكثير ووهبت في سبيل سعادتي الكثير الكثير، الذي كنت أشعر حياله بأنني لا يمكنني رد الجميل، حتى لو عشت العمر عمرين.
هكذا كان شعوري في تلك اللحظات، وكانت تشاركني به والدة زوجتي وشقيقتها، فلقد كنت حريصا على إبلاغهما النبأ وهما اللتان كانتا مثلي وربما أكثر قليلا، تصارعان الأيام في سبيل بلوغ هذه اللحظة المليئة بالقلق.. والسعادة.
لقد كان حملها صعبا وكذا ولادتها، ما استدعى إجراء عملية جراحية لإنقاذها والمولود. فقد خرج الطبيب من غرفة الولادة لبرهة ليخبرني بضرورة إجراء العملية لأنها الخيار الوحيد. وافقت مرغما وأنا أداري مسامع الأم والشقيقة أن تدركا ما يدور بيني وبين الطبيب. فقد كنت عاجزا في تلك اللحظات عن احتواء حزنهما وبكائهما، لأنني كنت في حاجة إلى من يواسيني.. إلى صدر حنون أرمي برأسي عليه فيهدئ من صخب أفكاري وقلقي. لقد كانت هي ذلك الصدر الحنون. هي الآن داخل غرفة العمليات حياتها والمولود في خطر.
استطعت بهدوء مصطنع أن أتغلب على استفسارات الأم والشقيقة. ماذا قال الطبيب ولماذا تأخرت الولادة؟
لقد حاولت جاهدا أن أطرد الشك من قلبيهما وفي قلبي كان ساكنا ألف وسواس ووسواس من الشك يتراقص. أفكار سوداء كانت تسوقني أمامها في أنفاق شتى مظلمة جميعها. لم أدر كيف اقتنعتا أو أنهما حاولتا الاقتناع بكلامي، ربما أدركتا حجم الموقف فآثرتا الصمت.. الناطق. عيونهما كانت تلاحقني بألف سؤال وسؤال.. تحاولان استراق ما أخفيه في أعمق أعماقي من "أسرار" لكن ماذا عساي أقول؟ ماذا كنت أعلم؟ ماذا كنت أستطيع فعله غير الدعاء الصادق؟
ساعات ثلاث مرت حسبتها دهرا. كنت حبيس ظنوني التي صحبتني في كل درب تمكنت من الوصول اليه، لكن بين كل هذه الظنون كان وميض الأمل ينتفض في جوارحي. كنت على ثقة، أعرف مصدرها بأن لهذا الليل نهاية هي فجر جديد لا بد أن يشرق على أيامي فيسعدها.
فُتح الباب أخيرا، خرج الطبيب من غرفة الولادة. تعلق بصري بتعابير وجهه علّها تسكت أوجاعي. لم يطل الأمر كثيرا. تبسّم وقال: مبروك سلامة الأم.. مبروك سلامة المولودة. احتضنت الطبيب.. قبلته.. شعرت بسعادته فقد أشعل تصرفي في نفسه الشعور بالرضا والثقة بالنفس.. تأبط ذراعي إلى مكتبه يسبقنا إليه فنجانا قهوة.
أخبرني الطبيب صعوبة الحالة. لا ولادة بعد اليوم فجسد زوجتي النحيل لا يحتمل الحمل مرة أخرى. لم أصدم فسعادتي كانت فوق كل وصف واستأذنت الطبيب لأراها ولو من وراء حاجز زجاجي.
فتحت باب غرفتها بلطف.. وقفت أمامها أتأملها تغط في سبات عميق.. فوق جبينها بقايا من حبيبات عرق.. أمسكت يدها وقبلتها.. قبلت جبينها.. مسحت دمعتين ثمينتين.. مبروك يا حبيبتي فقد تحقق حلمك بالأمومة.. لقد كنت صلبة.. صابرة.. صامدة على الرغم من كل الوساوس التي أكلت من سنوات عمرك.. اقتاتت على كثير من أفكارك التي كانت ترحل صباح مساء إلى حيث تقودك الظنون.. ليس إلى نبع العين ولا النهر ولا كروم التين والعنب وحقول القمح وبيادر الزمان.. بل إلى سجن.. قفص.. وجع..
قبلت جبينها مجددا ثم غادرت الغرفة كما دخلتها.. بهدوء.
وكأنني كنت أبا للمرة الأولى. هكذا أحسست عندما صحبتني الممرضة لرؤية المولودة.. التي طال انتظارها.
وقفت أمام سريرها أتأمل في وجهها الصغير براءة الأطفال، وربما براءة الحياة.. كل الوجود.. انحنيت أستنشق عطر أنفاسها.. بالكاد كنت أستشعرها. قالت لي الممرضة إنها جميلة.. جميلة جدا.. ربما تشبه أمها أكثر مما تشبهك. ابتسمت بصمت.. أدركت الممرضة أنني ربما وددت أن أنفرد بنفسي مع ابنة عمري فتركتني مذكرة بأنها بعد ربع الساعة ستعود.
حبست أنفاسي لأسمع صوت أنفاسها.. خفت أن أحملها بين يدي.. أن أضمها إلى قلبي.. أشفقت على جسدها الندي الطري من "صلابة" عاطفتي فآثرت التأمل وذهبت في حلم بعيد عمره سنوات.. وسنوات.
حملتني الذكرى على متن آلاف الأيام السابقة من عمري، إلى ليلة الصيف التي شهدت نضوج حبنا أنا ورفيقة عمري الأولى. ومن الذكرى بدأت تتولد الذكريات ندية كفجر يوم ربيعي.. طيبة كطعم سنابل القمح يذروها الحصّاد فوق الكتفين ليتذوق خير الأرض في موسم صيفي...لذيذة كطعم حبات التين في موسم خريفي "تتوعد" القلب بالسعادة.. سعادتي بحبات المطر يصطادها "مزراب" بيتنا القديم.. موسيقى تزرع في دفء الشتاء أحلام فتى.. ريفي.
وكأنني كنت أبا للمرة الأولى وأنا أتأمل صغيرتي. لقد تأخرت كثيرا سبقها أربعة أخوة لكنها أتت أخيرا فالأرزاق بيد الله وحده سبحانه وتعالى وله الحمد والشكر على ما رزق.
فتحت عينيها برهة، ظننت أنها كانت تنظر إليّ.. وكأنها تودّ أن تقول لي شيئا.. وبدلا من أن أستمع بادرت إلى مخاطبتها.. وأخيرا أتيت يا ابنة عمري.. لقد انتظرناك أمك وأنا كثيرا.. تأخرت ولكنك أخيرا وصلت.. تستحقين الانتظار يا رفيقة روحي.. يا بهجة عمري.. ماذا تحبين أن أُسمّيك.. سأترك الأمر لأمك فهي من يستحق أن يطلق عليك اسما ولن أناقشها.. ربما أسمتك زينة.. وربما مريم.. أنا أحب كثيرا اسم مريم.. هل أنت جائعة.. ألم يأتوا إليك بالحليب.. ربما سيحضرون قريبا ليأخذوك إلى حضن من أنجبتك.
استيقظت من أحلامي على صوت الباب يفتح. لقد أتت الممرضة كما وعدت.. ربع الساعة بالتمام والكمال. ابتسمت، توجهت نحو الطفلة.. حملتها بين يديها بلطف وسألتني أن أتبعها إلى الغرفة التي ترقد فيها زوجتي فلقد استردت وعيها بعد العملية الجراحية وتريد أن ترى نتاج عمرها كله.. ففعلت.
لن أستطيع وصف المشهد مهما استعنت بمخزوني من جمال اللغة وبلاغتها. كانت تضع الصغيرة في حضنها. تبكي.. تضحك.. طبعا ليس بسبب الجنون، وإن كان ما تفعله يوحي بنوع من الجنون الذي لا يعاقب عليه صاحبه. إنه جنون السعادة ومن حقها أن تصاب به وقد تفجرت أمومتها بعد سنوات طويلة من القحط والجدب.. من الانتظار الصعب.
شعرت بوجودي.. لبيت نداء عينيها دون أن تكون في حاجة لتناديني. جلست على حافة السرير بجانبها وانضممت إليها في رحلة تأمل مع الضيفة الحبيبة الغالية غلاة العمر الماضي والآتي.
أي كلام حلو أقوله في هذه المناسبة لحبيبة العمر وقد أثمر انتظارها سعادة ستكبر في حضنها مع الأيام؟ كلمة مبروك لا تكفي، وكل مفردات اللغة لن تفي بالغرض، فاكتفيت.. بل اكتفينا بلغة العيون وقد تعانقت نظراتها مع الضيفة الحبيبة...وكان السكون الأكثر بلاغة من الكلام.. كل الكلام.
غرقت مجددا في تأملاتي الماضية والمستقبلية. حب الماضي كان ينازعني فرح الحاضر والمستقبل. فرح أزاح عن كاهلي عبء آلام وهموم سنوات طويلة. فرح كنت أنتظره بفارغ الصبر.. إلى درجة اليأس.. لكنه تحقق أخيرا.
قطعت تأملاتي بسؤالها لي عن مدى سعادتي. أجبتها بأن لملمت أصابعها بين أصابعي.. تشابكت يدانا.. وقبل أن تسأل أجبتها بأننا سنعود إلى بيتنا
قريبا.. هكذا قال الطبيب.
ابتسمت الحياة مجددا لزوجتي الأولى ولي، فقد ملأت ابنتنا العزيزة البيت فرحا وحبا وسعادة، وزرعت في كل ركن فيه عطر ابتسامة. زوجتي اطمأنت على أمومتها فلا بأس بابنة واحدة استطاعت أن تزيل كابوس العقم وأن ترضي الطبيعة الأنثوية المغلوب على أمرها لسنوات عدة مضت.. إنها نتاج العمر ينمو ويكبر ويضرب في أعماق الحياة.
أما أنا فقد استراح ضميري من كل عقدة ذنب كانت تؤرقه، وانزاحت عن كاهلي الهواجس والوساوس التي استبدت بجزء من حياتي الماضية وكادت تحتل كل مساحات الفرح في عمري الآتي، وانصرفت بما توفر لدي من راحة بال لمواجهة تعقيدات الحياة ومشاكل العمل، فلقد كنت في حاجة إلى جزء ولو يسير من الاستقرار النفسي لاحتواء الأعباء الوظيفية وترسيخ الأقدام وتثبيتها في مشوار أعمالي الخاصة التي أسستها مع عدد من الأصدقاء زملاء التخصص والوظيفة.
كادت حياتي تستقيم على وتيرتها الجديدة، وانغمست في مشاريع أعمالي بكل ثقة وصبر ووهبتها معظم ما تبقى لدي من وقت خارج إطار الوظيفة، يعمق اندفاعي ما حققته من نجاح، عملت على استثماره بكل ما اكتسبت من خبرة في مدرسة الحياة.
وكنت بالفعل في حاجة إلى "الهزة" التي فجرتها أم الاولاد الأربعة التي احتجت على "سجنها" وطلبت مني صكا يحررها من "عبودية" الانتماء لي ولبيتي.
كان ذلك في أحد الأيام وقد عدت إلى البيت فجرا، ليس من سهرة "فارغة" وإنما من دعوة عمل في منزل أحد الأصدقاء لمناقشة بعض المشاريع، فطارت الساعات كلمح البصر ودخلنا فجر يوم جديد دون أن نشعر.
فتحت الباب وأشعلت النور، فوجئت بها جالسة وحيدة في العتمة بكامل صحوتها وجهوزيتها للمواجهة والتحدي. أذهلني المنظر، وقبل أن أبادر بإلقاء تحية الصباح والاستفسار عن سبب "حردتها" بادرتني هي بالسؤال: أين كنت حتى الآن؟
أخطأت في إدراك ما يجول في خاطرها، وربما كانت من المرات النادرة التي يخطئ فيها حدسي. اعتقدت للوهلة الأولى أن غيرتها ألهبت "حقدها" عليّ فلربما اعتقدت أنني قاسمت ضرتها حقها بي.
كنت قد بدأت أرتب دفاعي على أساس ذلك، لكن "نيران" ثورتها تجاوزت كل الحدود التي عرفتها. لقد كانت إنسانة أخرى في ذلك اليوم.
"عاصفة" السؤال.. أين كنت.. ريح عاتية فجرتها زوجتي في وجهي ذلك الصباح، ليس غيرة من ضرة أو انصياعا لموجة من الأنانية الأنثوية أو "تهويلا" تقتضيه بعض المواقف الزوجية في مثل حالتها. أبدا لقد كانت صرخة قوية من الأعماق.. صوت ضمير.. دعوة حق للالتفات إلى حياتي الأسرية التي هي فوق مشاكل الزوجتين.. مسؤولية أبناء يكبرون في بعض من غفلة مني.. واعترفت لنفسي بخطئي.
لم أقاوم غضبها ولم أقاطع حدة نبراتها. لم أمل من النظر إلى وجهها.. تعابيره كانت صادقة.. استعطاف نظراتها.. تجاعيد جبينها.. ارتجاف الكلام فوق شفتيها. كل خلجة فيها كانت صادقة. كل ذرة في كيانها كانت تستحلفني.. تستحثني التدخل قبل فوات الأوان.
اختتمت "محاضرتها" عاد إليها بعض هدوئها. توردت وجنتاها من الخجل. توجهت نحو غرفتها تجللها مسحة من الحياء الأنثوي. أما أنا فقد آثرت فنجانا من القهوة واسترخاء تأمليا في مكتبي. في كلامها تتجلى الحقيقة التي اعتقدت بها دوما ولا بد من تصرف.
كانت صادقة في ثورتها فلقد غبت عن بيتي كثيرا. سرقتني من أبنائي أضواء النجاح ونشوة "التميز" الاجتماعي و"انتفاخ" الرصيد البنكي. وشيئا فشيئا كنت أبتعد عن نمط "جميل بثينة" عن أشعار الحب والغزل التي كنت أباري بحفظها أيام الشباب. لم أعد أقرأ لأبي الطيب المتنبي وقد كان مرشحا ليكون بطل رسالة الدكتوراه أو لأبي تمام وابن الرومي وأبي العلاء المعري. لقد نأيت بنفسي عن بعض مهم من نفسي، حتى أن زوجتي الأولى التي شهدت بدايات نجاحي كثيرا ما سألتني عن طموحي وأحلامي التي بنيتها على أساس الحصول على درجة الدكتوراه، التي لم أعد في حاجة إليها اليوم للحصول على ترقية أو زيادة في المرتب أو حتى الارتقاء درجة في سلم المكانة الاجتماعية.
أحسست بالخجل يغمرني وأنا أتقلب على كرسيي وراء المكتب وقد تنكر لي النوم ولو للحظة في ذلك الصباح. كيف أغفو وسياط الندم تجلدني؟ لم أقترف ذنبا ماديا محسوسا أعاقب عليه حتى الآن ولكنني "انحرفت" عن مساري الذي انتهجته مذ تفتحت مداركي، ويكفي أن أقتل في نفسي الشوق إلى الكلمة.. يكفي أن أهجر بعض مبادئي. إنها جريمة معنوية تستحق العقاب.
رياح الندم تقاذفتني في ذلك الصباح، كانت تتوه بي في مسالك شتى. أضغط على جبيني المتعرق. أطفئ سجائري وقد زادتني عصبية وقلقا. كنت أبحث في جلستي عن بداية لعهد جديد في حياتي دون أن أنسى الانتماء إلى ذاتي في ما مضى. أريدها نهاية مرحلة وبداية أخرى في لحظة واحدة أولد فيها من جديد، كما أنا، فلم يكن من شيمتي أن أتنكر لعمل اقترفته، وزدت تعرقا واستغراقا في التفكير والتأمل.
لم أدر كم من الوقت استغرقت في رحلتي التأملية. لقد كانت بضع ساعات على ما أعتقد. فقد انتبهت على حركة أبنائي وهم يبدأون يومهم الجديد. صوت الملاعق التي تحرك شاي الفطور أدرك مسامعي، حرك الجوع في معدتي وفي قلبي لاحتضن أبنائي في حناياه، أحاول أن أرد عنهم النوائب وأولها نوائب الطيش.. طيشهم.. جهلهم لمدارك الحياة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي