الفصل الثالث

وتدحرجت الذكريات.. سيرة العمر.
قبل سنوات طويلة تزيد عن الثلاثين بدأت قصة هواي الأول. أنا أحد فتيان قرية تستريح على جزء من كتف جبل، وهي أجمل فتيات القرية، بل أحلاهن قواما ممشوقا، وأملحهن وجها ينبض بالطيبة، وأوسعهن مدارك وأفكارا، ورائدتهن في التمسك بأهداب الفضيلة والأخلاق.
عباراتي في وصف من أصبحت الزوجة الأولى ليست مجرد كلمات يزينها عبق الماضي، فأنا لم أستعر في الوصف أي قبس من خيال، إنها الحقيقة كما عرفتها.
تحت ظلال سماء واحدة تربينا، ومن خيرات أرض واحدة نما عودنا وصلب، وبين كروم التين والعنب والزيتون توزعت براءة طفولتنا، وعلى ضفاف النهر الذي كان يحمل الخير لبساتين قريتنا اغتسلنا من كل أحقاد العالم وضغائنه، ومن مياهه شربنا حلاوة الطيبة، ومن هواء قريتنا الوادعة تنسمنا كل الخصال الحميدة، ومنه استنشقنا عطر الأخلاق، ومن بيادر القمح على مشارف قريتنا ملأنا دفاترنا بحكايات ذلك الزمان.
هكذا تربينا وترعرعنا وعشنا طفولتنا وصبانا وبلغنا مرحلة الشباب.
كلمات من الواقع تسطرها الذاكرة، مغلفة بكل أحاسيس الحنين إلى الماضي.
وفي إحدى أمسيات هذا الماضي.. في ليلة صيف تعانق فيها القمر مع سنابل القمح الناضجة التقينا.
لقاؤنا الناضج استمر يصارع "جموح" الشباب .. "جميل" كنت .. وكانت "بثينة". قصة هوى أثرت في سلوكياتي، وأنا طالب في المرحلة الثانوية. عشقت شعر "جميل" حتى الثمالة، وامتزجت عذرية أشعاره بفطرة جبلت عليها، لكنني لم أكن أريد أن تكون نهاية حبي كما نهاية حب "جميل" لابنة عمه "بثينة" فأنا أريد "بثينتي" لي مهما كلفني حبي لها من أثمان، فأنا وهي "قريبان مربعنا واحد" في أحضان عمر واحد.
لم تسمح لي "بثينتي" أن أقع "فريسة" للغرام فقط، كانت كما كنت أنا تستعجل الأيام ليجمعنا بيت واحد وتحت سقف واحد.
كانت لي العون والسند على تخطي كل صعاب اعترضت مسيرة دراستي الجامعية، كانت تريدني أن أدخل الى الحياة من بابها الكبير، وكنت أتوق شوقا إلى ذلك اليوم الذي أتخرج فيه في الجامعة لأتأبط ذراعها ونطرق سويا باب الحياة.. الكبير.
لم يكن حبنا "ضميرا مستترا" فقد أعلناه على الملأ، حتى الكروم والوديان ونهر البلدة وبيادر قمحها وسهولها وأرضها المغروسة بأشتال التبغ تشهد على ذلك. إنها التقاليد أولا ثم الفطرة ثانيا. فكل نفس مجبولة على ما فطرت عليه، ساعدنا في إشهار حبنا تقارب الأهل والمستوى الاجتماعي، والفارق الوحيد أنني أكملت دراستي الجامعية فيما اكتفت "بثينتي" بالشهادة الثانوية، ولا أدري حتى اليوم سببا لعزوفها عن خوض غمار الدراسة الجامعية على الرغم من أنها كانت متفوقة في دراستها الثانوية وما سبقها، فقد كانت وما زالت ذكية متوقدة الذهن، سريعة البديهة، يليق بها أن تكون محامية أو طبيبة أو حتى مدرسة جامعية، ولم يكن أهلها ليعارضوا دخولها الجامعة لكنها لم تفعل واكتفت بشهادة الثانوية العامة.
كنت أتمنى لو شاركتني رحلتي اليومية إلى الجامعة ومنها إلى البيت. وأن نتقاسم السهر، أنا أرنو إليها وهي تغالب النعاس، حتى ليكاد كتابها يسقط من بين يديها، أو حتى نتراشق بالنظرات كل من خيمته الدراسية التي يقيمها على سطح منزله كعادة ذلك الزمن، لكنها لم تفعل. كثيرا ما تمنيت ذلك، لكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. ".
لم أكن أكبر من "بثينتي" كثيرا، فقد كنا متقاربين في العمر، لذلك كانت أفكارنا ورؤانا متقاربة، إن لم تكن منسجمة ومتطابقة تماما، ولذلك توقع لنا الأهل والأحباب حياة زوجية سعيدة تظللها راحة البال ويسعد روضها أطفال. كنا نمني النفس أن يكونوا ستة، ثلاثة صبيان وثلاث بنات. هكذا كان بعض حلمنا المشروع، وقد عشناه حتى آخر قطرة من حلاوته وعسله وعذوبته.
كان فصل الربيع يأخذنا بعيدا في براري قريتنا، نراقص الأزهار البرية، ونبحث عن "السكوكع" و"الحميضة" وسواها من نباتات تجود بها الأرض علينا.. أما فصل الصيف فكان موعدنا مع الأهل في كروم التين والعنب وحصاد القمح وعلى البيادر، وفي حقول التبغ. كانت حياتنا قروية بسيطة، طيبة بامتياز.
أما شهر رمضان فكان له طعم خاص.. كنا نتبارى إن حل في موسم الزعتر البري في جمع أكبر كمية ممكنة من ذلك النبات الطيب مؤونة للشتاء، كان وقت الصيام يمر دون أن نشعر به، نحمل في جيوبنا بضع حبات من التمر نفطر عليها إن حل موعد الإفطار ونحن منشغلون في قطاف الزعتر.
لا أزال حتى اليوم أذكر تلك الأيام الحلوة التي تطرق باب المخيلة فلا تبارحها من دون عبارة "والله يا زمن".
وفجأة وجدنا نفسينا وقد كبرنا.
تخرجت في الجامعة وحظيت بعمل أسعدني، فيما كانت "بثينتي" في انتظار العريس الآتي على حصان أبيض ل"يخطفها" و"يطير" بها إلى الحلم.
لم ولن أنسى ذلك اليوم الذي ارتدت فيه "بثينتي" ثوب الزفاف الأبيض. كانت حلوة كالفراشة، مملوءة بالسعادة، تكاد أن تطير، وأنا كنت أرتدي بذلة كحلية اللون، جلست إلى جانبها وسط فرحة الاهل وابتهاجهم أرمقها وترمقني. "أسرق" أصابع يدها، أفركها بكل الحب، دماء الخجل تضرج وجهها، تردعني، تمنعني، فأطيع.
لقد كانت ليلة عمري ولا تزال حتى اليوم تاجا في سجل ذكرياتي، أصارع من أجل أن تستمر حية في الذاكرة، تجابه كل مفردات النسيان في قواميس اللغة.
مرت أيام على زواجنا وأشهر وسنوات.
كنت سعيدا في عملي، في طموحي وأنا أحضر للدراسات العليا.. الماجستير نلتها بامتياز مع مرتبة الشرف، وجاء دور درجة الدكتوراه و"بثينتي" السند والداعم والمعين.
كنت سعيدا جدا بنجاحاتي إلى درجة الأنانية، التي حجبت عني رؤية وإدراك معنى مسحة من الحزن كانت تتملك وجه زوجتي، حبيبتي، شريكة عمري، بين حين وآخر. أحيانا كنت أستفسر منها عن سبب هذا الحزن "المفاجئ" فتجيبني بكلام حلو المذاق لا تريد من خلاله أن تنغص علي صفو سعادتي فأصدق عذوبة كلماتها، وأحيانا كثيرة لم أكن لأعير حزنها أي اهتمام، فالسعادة كانت في اعتقادي تغلف حياتنا التي كنت اعتبرها نجاحا في مجال عملي، وصدقا في حياتي الزوجية. إذن ماذا ينقصنا؟ لا شيء.
يا لبساطتي وعدم إدراكي سبب تلك المسحة من الحزن.. هل نسيت أننا كنا نمني النفس بنصف درزن من الأبناء. كيف غاب ذلك عن بالي. ربما أدفع اليوم ثمن جهلي بتلك المسحة من الحزن وعدم جديتي في تقصي أسبابها، وكان ذلك سيعفيني من أن أكون في الموقف الذي رسمته لنفسي دون أن أقصد.
هكذا كانت سنوات زواجي الأولى، أذكر أنها كانت أربعا قطفت خلالها كل ثمار السعادة، ولم أبخل أيضا، فمنحت شريكة حياتي كل أسباب السعادة. كنا نخطط لمستقبل حياتنا دون أن ننسى الحديث عن الأولاد الستة.. نتخيل ضحكاتهم.. نكاد نسمعها.. ننام على أنغام هذا الحلم الجميل.. ومسحة حزن غير مفهومة لي على الوجه الجميل الذي يشاركني الوسادة التي لم أعتقد يوما أنها ستكون خالية.
في إحدى الليالي استيقظت من نومي على "صوت" دموع مصدرها شريكة حياتي. نهضت مرتبكا مشوشا، وقبل ان أسأل عن السبب، سألتني أن أصحبها في الصباح لتعرض نفسها على طبيب.
كل سعادة عمري الماضي وعمري الذي سيأتي كانت في صبيحة ذلك اليوم في ميزان خبرة طبيب صحبت زوجتي وحبيبتي إلى عيادته، فإما أن يقتل وساوسها أو يثبتها.. ف "يقتلها" و"يقتلني".
لم أكن أسوأ حالا في ماضي حياتي ومستقبلها كما كنت في ذلك اليوم، الذي عرفت فيه سر مسحة الحزن التي كانت "تأسر" سعادة زوجتي في قفص من الظنون والإحساس بخيبة الأمل. لقد تركتها سنوات أربعا تصارع وحدها الهواجس دون أن تستنجد بي أو أتقدم لنجدتها طائعا مختارا، حتى فاض بها الكيل فأفصحت عن مكنون هواجسها، دموعا سكبتها صامتة، وكم من دموع سكبت دون أن أدري، هل كانت تقضي معظم لياليها باكية، فيما أنا أجثم على السرير خالي البال، وأظن أنني زوج صالح، معطاء، أسعد زوجتي التي لا ينقصها شيء، فيما كانت هي تشعر بأنه ينقصها أهم شيء.. الأبناء.
هل كنت أنانيا...فلم أسأل بجدية عن تلك المسحة من الحزن، أظنني لو ضغطت عليها لأعلم السبب لكانت استغنت عن ذرف الدموع تحت جنح الليل، في فراش شعرت بأنه بارد، وفي بيت اعتقدت أن لا حياة فيه.. لكنها تكتمت وصبرت إلى أن.. انفجرت.
استدعتني الممرضة لأتحدث مع الطبيب بعد أن أجرى فحوصاته اللازمة على زوجتي. استجمعت كل رباطة جأشي وتحاملت على نفسي وأنا أسمع الخبر.. إن زوجتك غير قادرة على الانجاب ولن تجدي معها كل وسائل العلاج.. تذرع بالصبر ولا تقنط من رحمة الله.
كلمات نزلت عليّ كما الصاعقة. لم أفكر في نفسي، فكرت بها، ماذا سيكون وقع الخبر عليها، هذا إن لم يكن الطبيب قد أخبرها بالفعل؟ كيف سأداوي جرح الأمومة المفقودة، كيف سأنتشلها مما ستعتبره مصيبة حلت بها، قتلت حلمها.. أنوثتها؟
صحبتها عائدين إلى المنزل، لم تكن في حاجة لأن أخبرها ما قال الطبيب، فقد كانت تدرك "مصيبتها". بكل حب العالم ضممتها إلى صدري. شعرت بدموعها تحرق جوارحي.. قلبي.. أضلعي.. فبكيت.
كل مواساة الأهل لم تستطع أن تنتزعني من أسر تعاستي. لم أكن تعيسا من أجلي، لقد كنت تعيسا من أجلها هي. فأنا أدرك كم هي عزيزة عاطفة ومشاعر الأمومة، وكم هو صعب الحرمان منها، أن يبلغك طبيب أتيت إليه حاملا معك بعض الثقة وبعض الأمل، بأنك غير قادر على الانجاب وأن أي علاج قد لا يفيد في مثل حالتك، كما أدرك عاطفة ومشاعر الأبوة التي كنت حتى ذلك الحين أمتلك مفاتيحها.
كنت متألما من أجلي وأجلها نحن الإثنين وأنا أقاوم كوابيس باتت تطاردني حتى في أوقات اليقظة، في معترك عملي، حتى بت أحس بأن كل شيء قد يضيع مني، فرص النجاح في العمل، دراساتي العليا، أحلام درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف، وربما ما بعدها من بحوث، كلها باتت مهددة بالانتكاس.
وبدأ الضعف مقرونا بذعر وقلق يدب في أوصالي، استسلمت خانعا لسوداوية هواجسي، قادتني إلى أنفاق شتى، طرقت أبواب نهاياتها جميعا، كانت كلها موصدة، لم أجد أملا ولو في مخرج واحد، فقررت في لحظة ما وبكل عزيمة وقوة الارادة أن أستيقظ من الكابوس.. وفعلت.
رفعت أشرعة سفينة حياتي من جديد، أمسكت بالمجاديف بكل ما أمتلك من قوة، مقرونة بخبرة في خوض غمار الحياة. حاولت أيضا وبكل ما أملك من صدق المشاعر وصدق النوايا أن أنقل شريكتي معي إلى واحتي، أن أسحبها من صحراء قاحلة مجدبة، لا حياة فيها، لا شجر ولا ماء ولا طيور ولا حتى ما يدب على الأرض، أن ننتقل معا إلى محطة أخرى في بحر حياتي، لكنني اعترف بأنني.. فشلت.
لقد استعذبت حبيبتي أسر ضعفها فاستسلمت لمصيرها، بدأت تتخلى.. قسرا.. عن الأحلام. أيام كثيرة مضت وأخرى ستأتي. حاولت جاهدا أن أخلصها مما هي فيه إنقاذا حتى لنفسي، فأنا أحبها.. ما زلت وسأبقى أحبها.
لكنها كانت قد قبضت في قلبها وفي راحة يديها على كل بؤس العالم، أطلقته في وجهي ووجهها، في إحدى الليالي حينما أفصحت عن مكنون نواياها فقالت: أنا أدرك شوقك لتكون أبا إدراكي لرغبتي في أن أكون أما. إنه أمل حرمتني الظروف من متعة تحقيقه فلماذا أظلمك وأظلم نفسي بظلمي إياك. أنت حر طليق من كل "قيودي" التي كنت أتمنى أن تكون خيوطا من حرير. اقتلع أوتاد حب زرعته، وأمل بنيته، فك وثاق سفينتك من أسر مرفأي فبحري كله ضباب، سراب، أخشى أن تتحطم سفينتك فوق أمواجه الجدباء.. ارحل.. ودعني أرحل.
كانت ليلة طويلة، أحسست فيها حتى بالغربة عن نفسي وعن شريكة عمري، وهي تدفعني للاقتران بأخرى "ذات خصوبة" قادرة على أن تمنحني ولدا دون أن تدري أو أن تقصد ذلك، ودون حتى أن تطلب الطلاق، فلم يسمح لها خجلها وحزنها بذلك وربما تركت تقدير الأمر للظروف.
هكذا سارت بنا الأيام بعيدين عن بعضنا، غريبين عن مشاعرنا وحبنا وحياتنا الأولى، متنكرين للماضي الجميل وقصة الحب التي نسجناها معا في كروم التين والعنب والزيتون، وعلى وقع غرس أشتال التبغ، وعلى صوت ماء نهر قريتي يؤنس مسامعنا، وعلى بيادر القمح على مشارف الضيعة، نسترق السمع إلى دقات قلبينا ونحاذر أن تكشف العيون لغة عيوننا، هناك حيث كان الأمل معقودا على حياة زوجية جميلة ترفع أشرعتها تحت سقف واحد.
كثيرا ما تساءلت.. هل لهذا النفق المظلم من نهاية. تحملت، صبرت، واجهت، قاومت، لم يكن بالأمر السهل أن ترى وردة جميلة تذوي وتذبل، وقد انتزعت نفسها من تربة حياتها لتموت من دون لون ولا رائحة، وهي التي كانت تعطر برائحتها الأجواء بل والحياة.
تعطلت لغة الحب. جف النهر. يبست عروق أشجار الكرمة. لم يعد للتين الطازج المقطوف من أكمام الشجر طعم ولا لذة، كم من صباحات حملتنا سويا إلى تلك الكروم، ونحن نحمل سلالنا لنأتي بها الى البيت محملة بالخير.. والحب بألوان العنب الأبيض والأحمر.
كل ذلك تغيّر.. في طرفة عين.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي