الفصل الرابع
مضت أيام طويلة وثقيلة على هذا الحال إلى أن وجدت نفسي أقع في الفخ، أتأبط ذراع عروس أخرى، في ليلة زفاف أخرى، تذكرت جميلا وبثينة وقصيدة شعر "قريبان مربعنا واحد" وعلت زغاريد الفرح.
لن أنتظر حكمكم على تصرفي لأنني أعرفه سلفا، بعضكم قد يعتبر زواجي من امرأة ثانية أمرا طبيعيا، خصوصا إن كان الدافع إليه عقم الزوجة الأولى وما آل إليه حالها نتيجة ذلك، وحق الزوج في أن تكون لديه ذرية من البنين والبنات فما بالك مع "رضا" الزوجة الأولى عن هذا الزواج، بل أنها هي من مهد لذلك وأقنعت الزوج الحبيب بضرورة الإقدام عليه حتى لا تظلم شريك العمر بسكوته على "ظلمها" له متمسكة بأنانيتها الأنثوية.. ذلك كان اعتقادي.. ربما هي لم ترد ذلك طوعا.. فأي زوجة قد تدفع زوجها الذي تحب الى الزواج من أخرى حتى لو كانت غير قادرة على الانجاب.. وربما توهم الزوج أن ما قالته كان بمثابة رسالة له كي يتحرر من قفصها ففعل.
لقد كان ذلك هو الفخ الذي أوقعت نفسي بين أشراكه عن طيب خاطر. للأسف لقد كان يفوتني الكثير عن مشاعر النساء وعواطفهن على الرغم من أربع سنوات من الزواج، ربما كان الحب بالنسبة لي مجرد قصيدة، ونسيت قصة جميل بثينة الذي استمر في حب ابنة عمه التي لم تكن من نصيبه، حتى عندما عيّرته يوما بالشعر الأبيض كان رقيقا وحنونا في الرد عليها، لم يجرح مشاعرها، لم يقل لها جهرا وصراحة أنها هي الأخرى أيضا قد كبرت، وأنها ربما كانت تداري الشعر الأحمر (الأبيض) بخمارها، فقال فيها قصيدته الشهيرة:
"تقول بثينة بعد أن رأت
فنونا من الشعر الأحمر
كبرت جميل وأودى الشباب
فقلت بثين ألا فاقصري
أتنسين أيامنا باللوى
وأيامنا بذوي الأجفر
ليالي كنتم لنا جيرة
ألا تذكرين بلا فاذكري
وإذ أنا أغيد غض الشباب
أجرّ الرداء مع المئزر
وإذ لمّتي كجناح الغراب
ترفل بالمسك والعنبر
فغير ذلك ما تعلمين
تغيّر ذا الزمن المنكر
قريبان مربعنا واحد
فكيف كبرت ولم تكبري
لقد قالها جميل بأن بثينته كبرت مثله، لكنه كان رقيقا ورفيقا بهذه القارورة فسألها.. كيف كبرت ولم تكبري؟
وفريق آخر قد يعتبر ما حدث "طعنة" في حق الحب والوفاء والإخلاص والولاء للحياة الزوجية المشتركة، وربما يجاهر بالسؤال: ترى لو كان الزوج هو العقيم والعاقر هل كان سيسمح له "ضميره" أو رجولته بأن يفاتح شريكة العمر بأمر "الظلم" الحاصل في حياتهما المشتركة، ويشرع أمامها أبواب الإفلات من قبضة العيش تحت سقف واحد محرومة من مشاعر الأمومة التي لن تجدها إلا مع زوج آخر؟
أيا كان الحكم، يبقى ما حدث وما أقدمت عليه أحد فصول حياتي، حاكمت عليه نفسي يوما وأصدرت الحكم ونفذت العقوبة.
لقد فرض زواجي الجديد علي، إضافة إلى الأعباء النفسية أعباء مادية، فقد كنت مضطرا بعد قضاء شهر العسل في بيت أهل عروستي إلى البحث عن منزل جديد أستقل فيه بحياتي الثانية، وقد فعلت.
غير أنني لم أكن في غمرة انشغالي بحياتي الجديدة لأنسى حياتي الماضية، فقد وزعت وقتي بين الزوجتين بالعدل، بدا لي أنهما كانتا راضيتين على مضض، والحق يقال كنت أشعر في أحيان كثيرة بأنني فقدت مصداقيتي وتوازني، وكنت أعتقد بأنني أسبح في بحر عالي الأمواج تتقاذفني تياراته العميقة دون أن ترسو بي على شاطىء.. أي شاطىء أجد عنده الاستقرار والراحة، حتى أنني كثيرا ما فكرت بأن أهجر حياتي التي تحولت إلى كابوس أقض مضجعي وحرمني من نعمة النوم وراحة البال.
أثمرت خصوبة زوجتي الثانية بعد أشهر قليلة على زواجنا، بدأ بطنها بالانتفاخ، كانت سعيدة بحملها، وكنت أداري سعادتي بذلك، حاولت أن أتمسك ب"وقاري" وهي تمسك في إحدى المرات بيدي تمررها على بطنها "المتورم" تريدني أن أتحسس حركات ابننا او ابنتنا في شهره السابع. حركات شعرت بأنها "صبيانية" علمتني إياها. انظر إنه يتحرك. تطلق ضحكة كبيرة "لقد لبطني" أسفل بطني. لقد كانت سعيدة جدا. بدأت أعتقد أنها ربما كانت تحبني بالفعل، بل إنها متيمة بي دون أن أدري بداية لتاريخ هذا الغرام.
مرت الأيام سريعة وبدأ حلم الأبوة يغزو خواطري من دون استئذان.. وفي إحدى الليالي تحقق الحلم.
كنت لا أزال ساهرا في تلك الليلة، وأنا أقلب بين دفات المصادر والمراجع اللازمة لرسالة الدكتوراه. سمعت أنينها.. صوت تعبها.. بكاءها...صرخاتها أن أنقذني.. أرجوك.
بكل حب العالم ضممتها إلى صدري في تلك الليلة وهي تعاني من آلام المخاض، حملتها دون أن أدري كيف، هبطت بها الدرج إلى السيارة فالمستشفى.
دقات قلبي كانت تتلاحق في فجر ذلك اليوم وأنا أتمشى أمام غرفة الولادة. من دون وعي اتصلت بأهلها وأهلي، كانوا جميعهم معي في تلك اللحظات، يحيطونني ويحيطونها بكل الدعوات، بكل الحب والعطف. كانت أفكاري معها في غرفة الولادة. شعور غريب كان ينتابني وأنا على عتبة الأبوة، تفصلني عنه بضع سنتيمترات أو ربما ملليمترات.. هل هو ولد.. هل هي بنت.. لا يهم، المهم أن تقوم هي بالسلامة. خرج الطبيب من غرفة الولادة تتبعه الممرضة.. وجهان يبتسمان.. مبروك.. ولد.. الحمد لله على سلامة الأم والمولود.
جلست إلى جانبها على حافة السرير. مسحت براحة يدي حبيبات من العرق بللت وجهها. أمسكت بيدها، قبلتها، ضغطت على أصابعي. دمعتان انحدرتا من عينيها، مسحتهما و.. أحبك.. كلمة للمرة الأولى سمعتها مني في ذلك اليوم.
حملت مولودي الأول وعدت به مع والدته من المستشفى إلى البيت وسط جوقة من الأهل، أهلي وأهلها الذين كانت دلائل السعادة تتراقص على وجوههم، حتى لكأنهم ينافسونني في فرحتي.
أوقفت السيارة أمام مدخل البيت. نزلت أم وليدي، استندت على أمها وهي تصعد الدرج، حملت ابني البكر، بعض النسوة سبقننا إلى الداخل، فتحن الباب على مصراعيه.. الحمد لله على السلامة.. ادخلي.. الرجل اليمنى أولا.. مبروك لكم سعادتكم، إن شاء الله يكون ولدا صالحا، يتربى في حياتكم، عبارات كثيرة سمعتها وأنا أحمل وليدي وأدخل به دار أهله، كلمات وعبارات كانت تدغدغ مشاعري وتلفني بالفرحة والسعادة.
مضى من الأيام عشرون.. ثلاثون.. خمسون.. تسعون وأنا منشغل بمولودي البكر وبأمه كل الانشغال، حتى أنني نسيت واجبي تجاه الحبيبة الأولى، تجاه أناس لهم علي حق الواجب والتكريم والمحبة، ولا أزال حتى اليوم أخجل من نفسي كلما تذكرت تقصيري في أداء الواجب الذي سرقني منه ابني الأول، لقد سرقني حتى من نفسي.
في الساعة الخامسة من عصر أحد الأيام، وكان ولدي على وشك اختتام شهره الثالث، كنت أحمله بين ذراعي وأداعبه في حضني وأنا أتمشى به في حديقة المنزل، ووالدته تتكىء بكل سعادتها على الكرسي الهزاز وبين يديها مغزل صوف، تحيك بلوزة تدفئ بها جسم طفلها، لقد كنا في أواخر فصل الصيف، والخريف يطرق الأبواب.
طرقة على الباب خفيفة. إنها هي. انتفضت مشاعري. بدأ قلبي يدق بسرعة غير معهودة. صعد الدم إلى قمة رأسي. طرقة ثانية وثالثة. أعطيت الرضيع لأمه وأسرعت ناحية الباب متعثرا بارتباكي.. وفتحت.
طالعتني بمسحة الحزن المعهودة على وجهها الذي غص بالدمع. استقبلتها وأنا أحاول مقاومة خجلي، أمسكت يدها ودخلنا.
لن أنسى ما حييت ذلك المشهد الذي أرّخته ووثقته في سجل ذكرياتي. الزوجتان تلتقيان للمرة الأولى تحت سقف واحد وبحضوري.
لا أزال أتذكر ارتباكي بالرغم من محاولتي المستميتة الإمساك برباطة جأشي وأنا المشهود لي بذلك. أما هي فقد تغلبت على الموقف بديبلوماسيتها المعهودة، فيما أم الولد كان لونها مخطوفا، اختلط على وجهها تمازج الألوان حتى بدا من دون لون.. أحمر...أصفر.. أزرق لا أدري. حاولت أن أنقذ الموقف بعبارة، أي عبارة، سبقتني إلى ذلك، تقدمت (زوجتي الأولى) الى الزوجة الثانية، مدت يدها مصافحة، معانقة. الحمد لله على السلامة. مبروك ما أنجبت. احتضنت ابن ضرتها بكل عاطفة الأمومة التي حرمها منها القدر، وربما مضاعفة، ضمته إلى صدرها بلهفة وشوق وحنان.
في تلك الليلة توهمت نقاء سريرة زوجتي الثانية، هكذا تخيلت، تكلمت كثيرا عن زوجتي الأولى بحرارة وصدق كما بدا لي، حتى أنني شعرت بالغيرة من كثرة كلامها غير أنني آثرت الاستماع...فصمتّ.
في اليوم التالي وبعد انتهاء الدوام، عرّجت على بيتي القديم. وجدتها غارقة في ذكريات الماضي. خمسة أعوام مضت على زواجنا، استقطعت من عمرها أضعافا مضاعفة، طحنت كل أحلامها وآمالها، استقرت في شرنقة همومها وأحزانها ولم أكن لألومها.
نحيلة أصبحت.. رهينة الحزن الدائم. استقبلتني بحرارة الحب السابق. ضممتها إلى صدري. تفتحت في قلبي ينابيع ذكرى ماض جميل.. بكيت.. بكيت حتى ثملت من دموعي فاحتوتني في أحضان عاطفتها، مسحت بيدها على رأسي، خاطبتني بكل عذوبة المحب.. حبيبي أريد الطلاق.
قاومت رغبتها في الانفصال بكل ما أملك من قدرة على الإقناع، وبكل ما استطعت أن أضمن عباراتي من مشاعر الحب الصادق، مناشدا لها أن تتروى في اتخاذ قرار كنت أعلم يقينا إنها غير قادرة عليه لأنني كنت أدرك ماذا يعني لها، إدراكي ما يعني لي.
أعددت فنجانين من القهوة وعدت لأواجه الحوار الذي "استراح" دقائق على متن شرود الذهن إلى الماضي.. الحاضر.. وربما المستقبل.
مسحت دموعها.. اعتدلت في جلستها. وبدأت الحديث، فأصغيت وأنا أسمع ارتعاش فنجان القهوة بين يديها.
قالت: إنها المرة الأولى التي نتحدث خلالها كزوجين منذ زواجك الثاني، وهي المرة الأولى التي أشعر فيها بقربي منك من خلال عقلي لا من خلال قلبي وعاطفتي، فقد ملكت مني مشاعري ولا تزال ولست نادمة على ذلك.
زوجي.. حبيبي.. اليوم أخاطب فيك الزوج فاسمعني بعقل، ودع الحبيب يستريح قليلا في أحلام الماضي، احبسه بين جدران الهوى الذي كان، قيّده بسلاسل أشعار عنترة بن شداد وجميل بثينة وكل عبارات الغزل التي تهواها، واحجبه عن نافذة الواقع كي لا يلفحه عذابه فيتألم، ولا أريد له أن يتألم.
دع عنك عنترة وحبه عبلة.. وقصيدته التي يقول فيها.. "فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم" ودع عنك جميل المتيم بهوى بثينة وشعره "تقول بثينة بعد أن رأت فنونا من الشعر الأحمر...كبرت جميل وأودى الشباب فقلت بثين ألا فاقصري".. إلى آخر القصيدة. كما دع عنك امرأ القيس وقصيدة الأطلال "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل".. ألا تحب هؤلاء الشعراء وأشعارهم التي لطالما ترنمت بها.. كنت أسترق السمع إليك، وأنت تدندن بقصيدة أبي فراس الحمداني "أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتاه لو تشعرين بحالي.. معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببالي".. أأذكرك بكم أنت متيم بأبي الطيب المتنبي.. وسواه كثيرون.
أيها الزوج الحبيب نحن اليوم لا نلقي شعرا ولا نستمع إليه. أعرف أنك عاشق ل بشار بن برد وقصيدته "يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا".. دع عنك رومانسيتك واسمعني.
أيها الحبيب.. تجربتنا ليست وحيدة في هذا العالم، فأنا لست المرأة الوحيدة التي لم تقدر على الإنجاب ولو طفلا واحدا تحفظ به أركان بيتها من الانهيار، ولست الرجل الوحيد الذي آثر الذرية على أن يخلص لامرأة واحدة.. لا تنجب.
إنها ليست البداية ولن تكون النهاية، فالعالم مليء بمثل تجربتنا، وأنا سعيدة من أجلك، صدقني إنني سعيدة جدا فابنك هو ابني.. ألست زوجي وحبيبي؟ نعم ومن أجل ذلك طلبت.. وأطلب منك اليوم الطلاق.
أطلب الطلاق لأنني أحبك، ولا أستطيع إلا أن أحبك. أطلب الطلاق كي "أحررك" من كل عقدة ذنب تشعر بها اتجاه نفسك من أجلي. لماذا آسرك في قفصي وكل أحلامه سراب؟ إن أرضي جدباء لا تنتج قمحا ولا ياسمين ولا وردا فلم تصر على امتلاكها؟ هل هي رغبة منك في التملك أم عطف وشفقة أم حب حقيقي؟ ومن أجل ذلك الحب أريدك أن تتركني فكفى بقلبك عذابا.. لقد آن له أن يستريح.
أيها الزوج الحبيب، آن لك أن تنطلق من سجني وقد فتحت لك بابه فانطلق قبل أن "أندم" فإن لك بيتا آخر هو أولى من بيتي بالعطف والرعاية والحنان.
لن أسمح لنفسي أن أحطم أركان بيتك الآخر وقد دفعتك أنا إلى بنائه دون حتى أن أقاوم، ومن واجبي ومسؤوليتي اليوم أن أحافظ عليه من أن ينهار ويندثر.
أيها الزوج الحبيب، مهما خبرت من عواطف النساء فلن تستطيع ولو كنت زوجا لاثنتين أن تسبر كل أغوار هذه العواطف. أرجوك أن ترحل من حياتي أو اتركني أنا أرحل من نافذة قلبك، وأوصدها دوني كي لا أعود.
أيها الزوج الحبيب، لقد رضيت قسرا أن تتقاسمك معي إنسانة أخرى، من أجلك أنت، ولأجلك أنت أتنازل اليوم عن نصيبي فيك. نحن.. أنا وزوجتك كأس نصفها مملوء والنصف الآخر فارغ.. فلا تحتر ولا تتخير.. الخيار أمامك واضح فلن يفيدك نصف الكأس الفارغ الذي هو أنا.
أيها الحبيب.. رحلني من حياتك لأنني امرأة لن تعيش في ظل امرأة أخرى.
كنت "أسير" حديثها لمدة تجاوزت الساعتين. كلامها كان منطقيا إلى أبعد الحدود، لكن من قال إن المنطق يستطيع أن "يقتل" حبا أو "يغتال" ذكريات.
كانت تسوق الحجج بعقلية امرأة متفتحة الذهن، صادقة في كل شيء إلا في التنكر لعاطفتها. لقد كانت تحاول "طردي" من أسرها فتأسرني عذوبة ألفاظها وبحة صوتها وحنان عباراتها. لقد كانت تحاول إبعادي من أسرها إلى حتفي. هكذا تخيلت لبرهة.. وصدق ظني.
إنني أحبها ولن أستطيع العيش من دونها، وإذا كانت كامرأة لا تستطيع أن تتقاسمني مع امرأة اخرى، فلقد كنت مستعدا في تلك اللحظة أن "أتهور" و"أستغني" عن نصف الكأس المملوء، بل وربما عن كل العالم لأجلها وحدها فقط.
لم يكن حبها ليموت في قلبي، لكنها "أشعلته" في ذلك اللقاء فطغى "جنونه" على كل عقل ومنطق لدي.. صرخت.. تألمت.. بكيت، ولم تهدأ ثورتي إلا عندما رأيتها أمامي تبكي.. تتوسلني.. تستحلفني الكف عن ثورة جنوني.. فهدأت.
وعاد الحب لينتصر من جديد على كل "منطق" حاولت زوجتي وحبيبتي أن "تتمترس" خلفه وهي توجه إليّ نيران التفكير بالهجران والتحريض عليه.
ضممتها إلى صدري وأنا أعبث بخصلات من شعرها الغافي على كتفي وأسترجع الذكرى، أياما لن تعود لكنها محفورة في أعماق الوجدان.
كيف "تجرأت" أن تطلب مني الطلاق؟ كيف استطاعت أن تخترق أسوار قلبها وهي تتوسل إليّ أن أرحل بها عن قلبي لتقتلنا كلينا؟
..زوجتي الحبيبة إنها ليست نهاية العالم أن يكون قدرك حتى الآن عدم الإنجاب وأن ألتمس الإنجاب من سواك. إنني أقدر مشاعرك وأحاسيسك وفطرتك الأنثوية، كما قدرت فيك تضحياتك وإنسانيتك، وخير لي على الرغم من عاطفة الأبوة التي فجرها في أعماقي ابني البكر أن أكون لك وحدك على أن أطاوع "منطقك" وأهجر قلبك أو أطردك من قلبي.
لا أنكر أنني سعيد، حتى الآن، بزواجي الثاني، فأنا كما تعهدين أضع ضميري رقيبا على نواياي في كل عمل أو تصرف، فكيف أطعن بسيف الغدر إنسانة لم يكن ذنبها أنني قبلت بها زوجة وأنجبت لي طفلا بات قرة عين لي؟
زوجتي الحبيبة. لقد كانت السعادة ترفرف على حياتنا إلى أن "قتلك" التفكير بعدم الإنجاب، فشوهت صورة نفسك أمام نفسك وأمامي، وشوهت نقاوة سريرتي عندما لم تردعيني من أن أتزوج بأخرى من أجل الأبناء فزرعت في ضميري هذا الهاجس. ركضت خلفه، وعندما تحقق حط في داخلي إحساس كنت أعتز به وأفتخر بالانتماء إلى ذاتي وإليك، وأنا أعود اليوم لأرمم ما تحطم.. فكيف تطلبين مني أن أقضي على البقية الباقية من هذا الانتماء بيدي.. ومن أجلك؟
زوجتي الحبيبة.. إن لأم ولدي عليّ حقوقا لن أتساهل في أدائها أبدا. الانسانية تأمرني بذلك ولن أتخلى عن إنسانيتي فمن دونها لن أكون أنا ولن أستحق سنوات عمري الماضية.. والقادمة معك.
زوجتي الحبيبة.. إنني أجعل خياري رهن ردك عن سؤال.. لو كنت أنا غير قادر على الإنجاب وطلبت منك الطلاق.. هل كنت توافقين؟
حرارة دموعها أعادتني إلى بعض من واقعي.. ردّدت: حبيبي أنت خياري كما أنت. أنعشت آمالي بفجر حلم جديد.. وأمضيت ليلتي في بيتي الأول.
ومرت الأيام ممتطية صهوة الحلم الجديد.. الواقع سيد الموقف.. و"القناعة كنز لا يفنى" شعار المرحلة الجديدة. أنا قانع بحياتي الموزعة بين زوجتين، وزوجتاي مضطرتان، كرها أو طوعا، على الاستمرار في شراكتهما معي وتقاسمهما إياي.
مولودي الثاني قادم على الطريق، وزوجتي الثانية سعيدة بحملها. تنتابها أحيانا موجة من الكبرياء والغرور "المستترة" أو المتسترة فتفاخر بأنها أتتني بما عجزت عن الإتيان به الزوجة الأولى، وأحيانا كانت تأخذها موجة من الشفقة على ضرتها فتدعو لها بأن يرزقها الله من الذرية ما تقر به عيناها، ولا بد من أن اعترف في هذا المقام بأن عطف هذه الزوجة وحنانها ورقة قلبها كانت تتجاوز مشاعرها السلبية، فلم تصل علاقتها مع ضرتها في يوم من الأيام إلى حد التوتر أو التجاذب أو الصراع بأي من وسائل الحرب الأنثوية.. ربما كنت مخطئا، لم أقرأها جيدا، أو ربما هو العطف، مجرد العطف ممن يملك على من لا يملك.. الأيام كانت كفيلة بكشف المستور.
وعادت الزوجة الأولى لتستكين إلى ضعفها وقسمتها ونصيبها في هذه الحياة، غير أنها بدأت تستجيب لإلحاحي عليها بأن تبدأ مشوارا من العلاج، لعل الله ييسر لها من أسبابه ما ييسر ويفرج عنها كربها، فيرزقها ما تقر به عيناها.. وعيناي.
ثلاث سنوات مضت، استقرت خلالها أحوالي، فقد حصلت على ترقية جيدة في عملي وبدأت من خارج أوقات الدوام مشروع عمل خاصا بي مع بعض الأصدقاء تأسيسا للمرحلة المقبلة من عمري واستعدادا للتفرغ للعمل الخاص لحظة يحين الوقت لذلك. أما مشروع رسالة الدكتوراه فقد نام في أدراج التأجيل والتباطؤ والتكاسل سنوات عدة أخرى، على الرغم من كل الطموح والرغبة في الحصول على الشهادة.. وقد فعلت ذلك ولو متأخرا.
أصبح عندي من الأبناء ثلاثة، جميعهم من الذكور. حولوا حياتي إلى نعيم وسعادة لا حدود لها، وبالرغم من مشاكلهم الطفولية كنت أسعد بأن أنام على "أنغام" صراخهم وأستيقظ على "سيمفونية" فوضاهم. كنت سعيدا بحياتي معهم، وكثيرا ما كنت أتساءل كيف كان طعم حياتي من دونهم؟ لكن دون أن أجرؤ على أن أجيب. أما والدتهم فقد كانت بالرغم من سعادتها بهم شديدة الأمل بان تختم رحلتها في مسيرة الإنجاب بمولودة أنثى، فرزقنا الله المولود الرابع ذكرا.. وكان آخر العنقود.
لن أنتظر حكمكم على تصرفي لأنني أعرفه سلفا، بعضكم قد يعتبر زواجي من امرأة ثانية أمرا طبيعيا، خصوصا إن كان الدافع إليه عقم الزوجة الأولى وما آل إليه حالها نتيجة ذلك، وحق الزوج في أن تكون لديه ذرية من البنين والبنات فما بالك مع "رضا" الزوجة الأولى عن هذا الزواج، بل أنها هي من مهد لذلك وأقنعت الزوج الحبيب بضرورة الإقدام عليه حتى لا تظلم شريك العمر بسكوته على "ظلمها" له متمسكة بأنانيتها الأنثوية.. ذلك كان اعتقادي.. ربما هي لم ترد ذلك طوعا.. فأي زوجة قد تدفع زوجها الذي تحب الى الزواج من أخرى حتى لو كانت غير قادرة على الانجاب.. وربما توهم الزوج أن ما قالته كان بمثابة رسالة له كي يتحرر من قفصها ففعل.
لقد كان ذلك هو الفخ الذي أوقعت نفسي بين أشراكه عن طيب خاطر. للأسف لقد كان يفوتني الكثير عن مشاعر النساء وعواطفهن على الرغم من أربع سنوات من الزواج، ربما كان الحب بالنسبة لي مجرد قصيدة، ونسيت قصة جميل بثينة الذي استمر في حب ابنة عمه التي لم تكن من نصيبه، حتى عندما عيّرته يوما بالشعر الأبيض كان رقيقا وحنونا في الرد عليها، لم يجرح مشاعرها، لم يقل لها جهرا وصراحة أنها هي الأخرى أيضا قد كبرت، وأنها ربما كانت تداري الشعر الأحمر (الأبيض) بخمارها، فقال فيها قصيدته الشهيرة:
"تقول بثينة بعد أن رأت
فنونا من الشعر الأحمر
كبرت جميل وأودى الشباب
فقلت بثين ألا فاقصري
أتنسين أيامنا باللوى
وأيامنا بذوي الأجفر
ليالي كنتم لنا جيرة
ألا تذكرين بلا فاذكري
وإذ أنا أغيد غض الشباب
أجرّ الرداء مع المئزر
وإذ لمّتي كجناح الغراب
ترفل بالمسك والعنبر
فغير ذلك ما تعلمين
تغيّر ذا الزمن المنكر
قريبان مربعنا واحد
فكيف كبرت ولم تكبري
لقد قالها جميل بأن بثينته كبرت مثله، لكنه كان رقيقا ورفيقا بهذه القارورة فسألها.. كيف كبرت ولم تكبري؟
وفريق آخر قد يعتبر ما حدث "طعنة" في حق الحب والوفاء والإخلاص والولاء للحياة الزوجية المشتركة، وربما يجاهر بالسؤال: ترى لو كان الزوج هو العقيم والعاقر هل كان سيسمح له "ضميره" أو رجولته بأن يفاتح شريكة العمر بأمر "الظلم" الحاصل في حياتهما المشتركة، ويشرع أمامها أبواب الإفلات من قبضة العيش تحت سقف واحد محرومة من مشاعر الأمومة التي لن تجدها إلا مع زوج آخر؟
أيا كان الحكم، يبقى ما حدث وما أقدمت عليه أحد فصول حياتي، حاكمت عليه نفسي يوما وأصدرت الحكم ونفذت العقوبة.
لقد فرض زواجي الجديد علي، إضافة إلى الأعباء النفسية أعباء مادية، فقد كنت مضطرا بعد قضاء شهر العسل في بيت أهل عروستي إلى البحث عن منزل جديد أستقل فيه بحياتي الثانية، وقد فعلت.
غير أنني لم أكن في غمرة انشغالي بحياتي الجديدة لأنسى حياتي الماضية، فقد وزعت وقتي بين الزوجتين بالعدل، بدا لي أنهما كانتا راضيتين على مضض، والحق يقال كنت أشعر في أحيان كثيرة بأنني فقدت مصداقيتي وتوازني، وكنت أعتقد بأنني أسبح في بحر عالي الأمواج تتقاذفني تياراته العميقة دون أن ترسو بي على شاطىء.. أي شاطىء أجد عنده الاستقرار والراحة، حتى أنني كثيرا ما فكرت بأن أهجر حياتي التي تحولت إلى كابوس أقض مضجعي وحرمني من نعمة النوم وراحة البال.
أثمرت خصوبة زوجتي الثانية بعد أشهر قليلة على زواجنا، بدأ بطنها بالانتفاخ، كانت سعيدة بحملها، وكنت أداري سعادتي بذلك، حاولت أن أتمسك ب"وقاري" وهي تمسك في إحدى المرات بيدي تمررها على بطنها "المتورم" تريدني أن أتحسس حركات ابننا او ابنتنا في شهره السابع. حركات شعرت بأنها "صبيانية" علمتني إياها. انظر إنه يتحرك. تطلق ضحكة كبيرة "لقد لبطني" أسفل بطني. لقد كانت سعيدة جدا. بدأت أعتقد أنها ربما كانت تحبني بالفعل، بل إنها متيمة بي دون أن أدري بداية لتاريخ هذا الغرام.
مرت الأيام سريعة وبدأ حلم الأبوة يغزو خواطري من دون استئذان.. وفي إحدى الليالي تحقق الحلم.
كنت لا أزال ساهرا في تلك الليلة، وأنا أقلب بين دفات المصادر والمراجع اللازمة لرسالة الدكتوراه. سمعت أنينها.. صوت تعبها.. بكاءها...صرخاتها أن أنقذني.. أرجوك.
بكل حب العالم ضممتها إلى صدري في تلك الليلة وهي تعاني من آلام المخاض، حملتها دون أن أدري كيف، هبطت بها الدرج إلى السيارة فالمستشفى.
دقات قلبي كانت تتلاحق في فجر ذلك اليوم وأنا أتمشى أمام غرفة الولادة. من دون وعي اتصلت بأهلها وأهلي، كانوا جميعهم معي في تلك اللحظات، يحيطونني ويحيطونها بكل الدعوات، بكل الحب والعطف. كانت أفكاري معها في غرفة الولادة. شعور غريب كان ينتابني وأنا على عتبة الأبوة، تفصلني عنه بضع سنتيمترات أو ربما ملليمترات.. هل هو ولد.. هل هي بنت.. لا يهم، المهم أن تقوم هي بالسلامة. خرج الطبيب من غرفة الولادة تتبعه الممرضة.. وجهان يبتسمان.. مبروك.. ولد.. الحمد لله على سلامة الأم والمولود.
جلست إلى جانبها على حافة السرير. مسحت براحة يدي حبيبات من العرق بللت وجهها. أمسكت بيدها، قبلتها، ضغطت على أصابعي. دمعتان انحدرتا من عينيها، مسحتهما و.. أحبك.. كلمة للمرة الأولى سمعتها مني في ذلك اليوم.
حملت مولودي الأول وعدت به مع والدته من المستشفى إلى البيت وسط جوقة من الأهل، أهلي وأهلها الذين كانت دلائل السعادة تتراقص على وجوههم، حتى لكأنهم ينافسونني في فرحتي.
أوقفت السيارة أمام مدخل البيت. نزلت أم وليدي، استندت على أمها وهي تصعد الدرج، حملت ابني البكر، بعض النسوة سبقننا إلى الداخل، فتحن الباب على مصراعيه.. الحمد لله على السلامة.. ادخلي.. الرجل اليمنى أولا.. مبروك لكم سعادتكم، إن شاء الله يكون ولدا صالحا، يتربى في حياتكم، عبارات كثيرة سمعتها وأنا أحمل وليدي وأدخل به دار أهله، كلمات وعبارات كانت تدغدغ مشاعري وتلفني بالفرحة والسعادة.
مضى من الأيام عشرون.. ثلاثون.. خمسون.. تسعون وأنا منشغل بمولودي البكر وبأمه كل الانشغال، حتى أنني نسيت واجبي تجاه الحبيبة الأولى، تجاه أناس لهم علي حق الواجب والتكريم والمحبة، ولا أزال حتى اليوم أخجل من نفسي كلما تذكرت تقصيري في أداء الواجب الذي سرقني منه ابني الأول، لقد سرقني حتى من نفسي.
في الساعة الخامسة من عصر أحد الأيام، وكان ولدي على وشك اختتام شهره الثالث، كنت أحمله بين ذراعي وأداعبه في حضني وأنا أتمشى به في حديقة المنزل، ووالدته تتكىء بكل سعادتها على الكرسي الهزاز وبين يديها مغزل صوف، تحيك بلوزة تدفئ بها جسم طفلها، لقد كنا في أواخر فصل الصيف، والخريف يطرق الأبواب.
طرقة على الباب خفيفة. إنها هي. انتفضت مشاعري. بدأ قلبي يدق بسرعة غير معهودة. صعد الدم إلى قمة رأسي. طرقة ثانية وثالثة. أعطيت الرضيع لأمه وأسرعت ناحية الباب متعثرا بارتباكي.. وفتحت.
طالعتني بمسحة الحزن المعهودة على وجهها الذي غص بالدمع. استقبلتها وأنا أحاول مقاومة خجلي، أمسكت يدها ودخلنا.
لن أنسى ما حييت ذلك المشهد الذي أرّخته ووثقته في سجل ذكرياتي. الزوجتان تلتقيان للمرة الأولى تحت سقف واحد وبحضوري.
لا أزال أتذكر ارتباكي بالرغم من محاولتي المستميتة الإمساك برباطة جأشي وأنا المشهود لي بذلك. أما هي فقد تغلبت على الموقف بديبلوماسيتها المعهودة، فيما أم الولد كان لونها مخطوفا، اختلط على وجهها تمازج الألوان حتى بدا من دون لون.. أحمر...أصفر.. أزرق لا أدري. حاولت أن أنقذ الموقف بعبارة، أي عبارة، سبقتني إلى ذلك، تقدمت (زوجتي الأولى) الى الزوجة الثانية، مدت يدها مصافحة، معانقة. الحمد لله على السلامة. مبروك ما أنجبت. احتضنت ابن ضرتها بكل عاطفة الأمومة التي حرمها منها القدر، وربما مضاعفة، ضمته إلى صدرها بلهفة وشوق وحنان.
في تلك الليلة توهمت نقاء سريرة زوجتي الثانية، هكذا تخيلت، تكلمت كثيرا عن زوجتي الأولى بحرارة وصدق كما بدا لي، حتى أنني شعرت بالغيرة من كثرة كلامها غير أنني آثرت الاستماع...فصمتّ.
في اليوم التالي وبعد انتهاء الدوام، عرّجت على بيتي القديم. وجدتها غارقة في ذكريات الماضي. خمسة أعوام مضت على زواجنا، استقطعت من عمرها أضعافا مضاعفة، طحنت كل أحلامها وآمالها، استقرت في شرنقة همومها وأحزانها ولم أكن لألومها.
نحيلة أصبحت.. رهينة الحزن الدائم. استقبلتني بحرارة الحب السابق. ضممتها إلى صدري. تفتحت في قلبي ينابيع ذكرى ماض جميل.. بكيت.. بكيت حتى ثملت من دموعي فاحتوتني في أحضان عاطفتها، مسحت بيدها على رأسي، خاطبتني بكل عذوبة المحب.. حبيبي أريد الطلاق.
قاومت رغبتها في الانفصال بكل ما أملك من قدرة على الإقناع، وبكل ما استطعت أن أضمن عباراتي من مشاعر الحب الصادق، مناشدا لها أن تتروى في اتخاذ قرار كنت أعلم يقينا إنها غير قادرة عليه لأنني كنت أدرك ماذا يعني لها، إدراكي ما يعني لي.
أعددت فنجانين من القهوة وعدت لأواجه الحوار الذي "استراح" دقائق على متن شرود الذهن إلى الماضي.. الحاضر.. وربما المستقبل.
مسحت دموعها.. اعتدلت في جلستها. وبدأت الحديث، فأصغيت وأنا أسمع ارتعاش فنجان القهوة بين يديها.
قالت: إنها المرة الأولى التي نتحدث خلالها كزوجين منذ زواجك الثاني، وهي المرة الأولى التي أشعر فيها بقربي منك من خلال عقلي لا من خلال قلبي وعاطفتي، فقد ملكت مني مشاعري ولا تزال ولست نادمة على ذلك.
زوجي.. حبيبي.. اليوم أخاطب فيك الزوج فاسمعني بعقل، ودع الحبيب يستريح قليلا في أحلام الماضي، احبسه بين جدران الهوى الذي كان، قيّده بسلاسل أشعار عنترة بن شداد وجميل بثينة وكل عبارات الغزل التي تهواها، واحجبه عن نافذة الواقع كي لا يلفحه عذابه فيتألم، ولا أريد له أن يتألم.
دع عنك عنترة وحبه عبلة.. وقصيدته التي يقول فيها.. "فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم" ودع عنك جميل المتيم بهوى بثينة وشعره "تقول بثينة بعد أن رأت فنونا من الشعر الأحمر...كبرت جميل وأودى الشباب فقلت بثين ألا فاقصري".. إلى آخر القصيدة. كما دع عنك امرأ القيس وقصيدة الأطلال "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل".. ألا تحب هؤلاء الشعراء وأشعارهم التي لطالما ترنمت بها.. كنت أسترق السمع إليك، وأنت تدندن بقصيدة أبي فراس الحمداني "أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتاه لو تشعرين بحالي.. معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببالي".. أأذكرك بكم أنت متيم بأبي الطيب المتنبي.. وسواه كثيرون.
أيها الزوج الحبيب نحن اليوم لا نلقي شعرا ولا نستمع إليه. أعرف أنك عاشق ل بشار بن برد وقصيدته "يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا".. دع عنك رومانسيتك واسمعني.
أيها الحبيب.. تجربتنا ليست وحيدة في هذا العالم، فأنا لست المرأة الوحيدة التي لم تقدر على الإنجاب ولو طفلا واحدا تحفظ به أركان بيتها من الانهيار، ولست الرجل الوحيد الذي آثر الذرية على أن يخلص لامرأة واحدة.. لا تنجب.
إنها ليست البداية ولن تكون النهاية، فالعالم مليء بمثل تجربتنا، وأنا سعيدة من أجلك، صدقني إنني سعيدة جدا فابنك هو ابني.. ألست زوجي وحبيبي؟ نعم ومن أجل ذلك طلبت.. وأطلب منك اليوم الطلاق.
أطلب الطلاق لأنني أحبك، ولا أستطيع إلا أن أحبك. أطلب الطلاق كي "أحررك" من كل عقدة ذنب تشعر بها اتجاه نفسك من أجلي. لماذا آسرك في قفصي وكل أحلامه سراب؟ إن أرضي جدباء لا تنتج قمحا ولا ياسمين ولا وردا فلم تصر على امتلاكها؟ هل هي رغبة منك في التملك أم عطف وشفقة أم حب حقيقي؟ ومن أجل ذلك الحب أريدك أن تتركني فكفى بقلبك عذابا.. لقد آن له أن يستريح.
أيها الزوج الحبيب، آن لك أن تنطلق من سجني وقد فتحت لك بابه فانطلق قبل أن "أندم" فإن لك بيتا آخر هو أولى من بيتي بالعطف والرعاية والحنان.
لن أسمح لنفسي أن أحطم أركان بيتك الآخر وقد دفعتك أنا إلى بنائه دون حتى أن أقاوم، ومن واجبي ومسؤوليتي اليوم أن أحافظ عليه من أن ينهار ويندثر.
أيها الزوج الحبيب، مهما خبرت من عواطف النساء فلن تستطيع ولو كنت زوجا لاثنتين أن تسبر كل أغوار هذه العواطف. أرجوك أن ترحل من حياتي أو اتركني أنا أرحل من نافذة قلبك، وأوصدها دوني كي لا أعود.
أيها الزوج الحبيب، لقد رضيت قسرا أن تتقاسمك معي إنسانة أخرى، من أجلك أنت، ولأجلك أنت أتنازل اليوم عن نصيبي فيك. نحن.. أنا وزوجتك كأس نصفها مملوء والنصف الآخر فارغ.. فلا تحتر ولا تتخير.. الخيار أمامك واضح فلن يفيدك نصف الكأس الفارغ الذي هو أنا.
أيها الحبيب.. رحلني من حياتك لأنني امرأة لن تعيش في ظل امرأة أخرى.
كنت "أسير" حديثها لمدة تجاوزت الساعتين. كلامها كان منطقيا إلى أبعد الحدود، لكن من قال إن المنطق يستطيع أن "يقتل" حبا أو "يغتال" ذكريات.
كانت تسوق الحجج بعقلية امرأة متفتحة الذهن، صادقة في كل شيء إلا في التنكر لعاطفتها. لقد كانت تحاول "طردي" من أسرها فتأسرني عذوبة ألفاظها وبحة صوتها وحنان عباراتها. لقد كانت تحاول إبعادي من أسرها إلى حتفي. هكذا تخيلت لبرهة.. وصدق ظني.
إنني أحبها ولن أستطيع العيش من دونها، وإذا كانت كامرأة لا تستطيع أن تتقاسمني مع امرأة اخرى، فلقد كنت مستعدا في تلك اللحظة أن "أتهور" و"أستغني" عن نصف الكأس المملوء، بل وربما عن كل العالم لأجلها وحدها فقط.
لم يكن حبها ليموت في قلبي، لكنها "أشعلته" في ذلك اللقاء فطغى "جنونه" على كل عقل ومنطق لدي.. صرخت.. تألمت.. بكيت، ولم تهدأ ثورتي إلا عندما رأيتها أمامي تبكي.. تتوسلني.. تستحلفني الكف عن ثورة جنوني.. فهدأت.
وعاد الحب لينتصر من جديد على كل "منطق" حاولت زوجتي وحبيبتي أن "تتمترس" خلفه وهي توجه إليّ نيران التفكير بالهجران والتحريض عليه.
ضممتها إلى صدري وأنا أعبث بخصلات من شعرها الغافي على كتفي وأسترجع الذكرى، أياما لن تعود لكنها محفورة في أعماق الوجدان.
كيف "تجرأت" أن تطلب مني الطلاق؟ كيف استطاعت أن تخترق أسوار قلبها وهي تتوسل إليّ أن أرحل بها عن قلبي لتقتلنا كلينا؟
..زوجتي الحبيبة إنها ليست نهاية العالم أن يكون قدرك حتى الآن عدم الإنجاب وأن ألتمس الإنجاب من سواك. إنني أقدر مشاعرك وأحاسيسك وفطرتك الأنثوية، كما قدرت فيك تضحياتك وإنسانيتك، وخير لي على الرغم من عاطفة الأبوة التي فجرها في أعماقي ابني البكر أن أكون لك وحدك على أن أطاوع "منطقك" وأهجر قلبك أو أطردك من قلبي.
لا أنكر أنني سعيد، حتى الآن، بزواجي الثاني، فأنا كما تعهدين أضع ضميري رقيبا على نواياي في كل عمل أو تصرف، فكيف أطعن بسيف الغدر إنسانة لم يكن ذنبها أنني قبلت بها زوجة وأنجبت لي طفلا بات قرة عين لي؟
زوجتي الحبيبة. لقد كانت السعادة ترفرف على حياتنا إلى أن "قتلك" التفكير بعدم الإنجاب، فشوهت صورة نفسك أمام نفسك وأمامي، وشوهت نقاوة سريرتي عندما لم تردعيني من أن أتزوج بأخرى من أجل الأبناء فزرعت في ضميري هذا الهاجس. ركضت خلفه، وعندما تحقق حط في داخلي إحساس كنت أعتز به وأفتخر بالانتماء إلى ذاتي وإليك، وأنا أعود اليوم لأرمم ما تحطم.. فكيف تطلبين مني أن أقضي على البقية الباقية من هذا الانتماء بيدي.. ومن أجلك؟
زوجتي الحبيبة.. إن لأم ولدي عليّ حقوقا لن أتساهل في أدائها أبدا. الانسانية تأمرني بذلك ولن أتخلى عن إنسانيتي فمن دونها لن أكون أنا ولن أستحق سنوات عمري الماضية.. والقادمة معك.
زوجتي الحبيبة.. إنني أجعل خياري رهن ردك عن سؤال.. لو كنت أنا غير قادر على الإنجاب وطلبت منك الطلاق.. هل كنت توافقين؟
حرارة دموعها أعادتني إلى بعض من واقعي.. ردّدت: حبيبي أنت خياري كما أنت. أنعشت آمالي بفجر حلم جديد.. وأمضيت ليلتي في بيتي الأول.
ومرت الأيام ممتطية صهوة الحلم الجديد.. الواقع سيد الموقف.. و"القناعة كنز لا يفنى" شعار المرحلة الجديدة. أنا قانع بحياتي الموزعة بين زوجتين، وزوجتاي مضطرتان، كرها أو طوعا، على الاستمرار في شراكتهما معي وتقاسمهما إياي.
مولودي الثاني قادم على الطريق، وزوجتي الثانية سعيدة بحملها. تنتابها أحيانا موجة من الكبرياء والغرور "المستترة" أو المتسترة فتفاخر بأنها أتتني بما عجزت عن الإتيان به الزوجة الأولى، وأحيانا كانت تأخذها موجة من الشفقة على ضرتها فتدعو لها بأن يرزقها الله من الذرية ما تقر به عيناها، ولا بد من أن اعترف في هذا المقام بأن عطف هذه الزوجة وحنانها ورقة قلبها كانت تتجاوز مشاعرها السلبية، فلم تصل علاقتها مع ضرتها في يوم من الأيام إلى حد التوتر أو التجاذب أو الصراع بأي من وسائل الحرب الأنثوية.. ربما كنت مخطئا، لم أقرأها جيدا، أو ربما هو العطف، مجرد العطف ممن يملك على من لا يملك.. الأيام كانت كفيلة بكشف المستور.
وعادت الزوجة الأولى لتستكين إلى ضعفها وقسمتها ونصيبها في هذه الحياة، غير أنها بدأت تستجيب لإلحاحي عليها بأن تبدأ مشوارا من العلاج، لعل الله ييسر لها من أسبابه ما ييسر ويفرج عنها كربها، فيرزقها ما تقر به عيناها.. وعيناي.
ثلاث سنوات مضت، استقرت خلالها أحوالي، فقد حصلت على ترقية جيدة في عملي وبدأت من خارج أوقات الدوام مشروع عمل خاصا بي مع بعض الأصدقاء تأسيسا للمرحلة المقبلة من عمري واستعدادا للتفرغ للعمل الخاص لحظة يحين الوقت لذلك. أما مشروع رسالة الدكتوراه فقد نام في أدراج التأجيل والتباطؤ والتكاسل سنوات عدة أخرى، على الرغم من كل الطموح والرغبة في الحصول على الشهادة.. وقد فعلت ذلك ولو متأخرا.
أصبح عندي من الأبناء ثلاثة، جميعهم من الذكور. حولوا حياتي إلى نعيم وسعادة لا حدود لها، وبالرغم من مشاكلهم الطفولية كنت أسعد بأن أنام على "أنغام" صراخهم وأستيقظ على "سيمفونية" فوضاهم. كنت سعيدا بحياتي معهم، وكثيرا ما كنت أتساءل كيف كان طعم حياتي من دونهم؟ لكن دون أن أجرؤ على أن أجيب. أما والدتهم فقد كانت بالرغم من سعادتها بهم شديدة الأمل بان تختم رحلتها في مسيرة الإنجاب بمولودة أنثى، فرزقنا الله المولود الرابع ذكرا.. وكان آخر العنقود.