الفصل الثالث والعشرون

لا أستطيع أن أوصف مدى بهجتي بالخريف، أحب الفصول إلى قلبي، رغم أنه قاسي جداً في بلادنا، بسبب عدم المصارف، الطين الشديد المنتشر في كل مكان، من يرتدي لوناً أبيضاً فقد جنى على نفسه، أذكر إن إسراء قد أخبرتني بأن الموصلات تتوقف في قريتهم بسبب الطرق المسدودة بالمياة، حتى هنا، برك المياة منتشرة في كل مكان..
ولكنني أعتدت علي أن لنظر للجانب الجميل، تلك الخضرة النظرة، الحياة التي عادت للأشجار، لونها الذي يخلب العقول، رائحة الهواء العليل بعد المطر، ورائحة الطين نفسه، الغيوم التي تغطي الأرجاء، الأجواء الباردة، والشمس الحارقة التي تغيب طويلاً، الشوارع التي باتت مبهجة..
صرت أمشي لمسافات طويلة لوحدي، بلا وجهة، أتأمل هذا الجمال، بالتأكيد لم يخلق هذا عبثاً، اللهم نوراً بصائرنا لما تحب وترضى..
في ذات ليلة خريفية، كان صوت الرعد عالياً، والظلام يغطي كل الأرجاء، سارة مستلقية بقربي في سريري ترتجف من صوت الرعد المخيف..
كان أول خريف نقضيه بعيداً عن عائلاتنا، جميعنا لم ننم بسهولة، نمنا بعد وقت متأخر، ولكن صرخة ما أيقظتنا جميعنا من نومنا، فجأة وجدنا أنفسنا متكومات في سرير واحد، نرتجف من الخوف، كان صوت الرياح عالياً ومخيفاً، والساعة قد اقتربت من الثالثة فجراً، لم نتجرأ أن نفتح الباب، حاولت أن أفتحه ولكن لدن ابعدتني وهي ترتجف، قالت أمنية بصرامة: لن يفتح هذا الباب أبداً..
كنت خائفة أيضاً ولكن منظرهن مضحك جيداً، كتمت ضحكتي لأنني إن ضحكت فقد جنيت على نفسي، هذه العيون المتسعة ستلتقمني..
تركتهن مستيقظات ونمت، في الصباح أدركنا أن هناك سارق دخل إلى السكن، رأته فتاة كانت ذاهبة إلى المرحاض فصرخت من الفزع وهو ركض ولم يسرق شيئاً، لا يدرون كيف دخل، كل السور مغطى بالسلك الشائك، غريب الأمر جداً..
تكرر الأمر مرة أخرى بعد عدة أيام، ولكن السارق هذه المرة حاول الدخول إلى إحدى الغرف فرأته فتاة، حاولت مقاومته ولكنه ضربها على رأسها بحديدة ضربة جعلتها تسقط على الأرض وفر هارباً، اسعفت الفتاة وقد كانت إصابتها بالغة، كان الجو في السكن متوتر جداً، ومثل هذه الحوادث تحدث كثيراً ولكن هذه المرة كانت الفتاة قريبة لشخص له مكانة اجتماعية كبيرة، فأصبحت القضية قضية رأي عام..
لم أخبر أمي بما حدث من قبل، ولكن لسوء الحظ سمعت بالخبر بعد انتشاره، وكما توقعت جن جنونها، لذلك لم أرد إخبارها، قالت بأنها ظنت أن السكت الآمن ولكنها لم تعد تأمنه، حاولت أن أطمئنها وأجعل الأمر سخيفاً بقدر الإمكان ولكنني فشلت، أصبحت تتصل بي منذ السادسة صباحاً كل يوم، لا تتركني أنام إلا بعد أن تتأكد أنني قرأت أذكار النوم، وأننا أغلقنا الأبواب جيداً، لم تهدأ إلا بعد أيام طويلة، كانت خائفة أكثر مني بكثير، حتى أبي قال أنه سيحاول أن يسعى أكثر من موضوع الانتقال إلى المدينة في أقرب وقت ممكن، ما أروعهم!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي