الفصل الخامس والعشرون

انتهت السنة الأولى من الجامعة بحلوها ومرها، اليوم وضعنا آخر ورقة امتحان، قرر الجميع أن يخرج في نزهة، ودفعتنا متحزبة جداً، كل له شلة خاصة ينتمي إليها..
كنا قد قررنا أن نخرج أنا وبسمة ورانيا بعد الامتحان، رغم حبي للاستكشاف ولكنني لم اتجول كثيراً في المدينة خلال فترة اقامتي الماضية، واليوم أنا مصابة بالانفلونزا، انفي محتقن، أشعر بأن راسي أضخم من رأس الفيل وجسدي النحيل غير قادر على حمله، دموعي تتساقط مع أي نسمة هواء تداعب أنفي، ذاك النسيم الذي أحبه أشعر بأنني لا أحتمله الآن، كل عظامي تئن من الألم في صمت، قالت بسمة بحزن: لا بأس، لنأجل الأمر ونخرج في يوم آخر
قلت نافية: لا سوف نخرج، أنا بخير
قالت رانيا: لا يبدو ذلك
قلت: متعبة قليلا، ولكن ليس لتلك الدرجة التي تمنعني من الاحتفال بانتهاء هذه السنة الطويلة
ضحكتا بمرح ثم قالت بسمة بحماس: هيا آذن، إلى شارع النيل
في الحقيقة، كل ما أريده في هذه اللحظة أنا أستلقي وأنام بعمق، لا شيء أكثر متعة من النوم، خاصة أنني سهرت معظم الليل للدراسة، لأن المادة الأخيرة كانت دسمة جداً..
ولكنني لا يمكنني أن ألقي هذا الأمر الذي تم التخطيط له منذ أيام عدة، وكل يوم نحسب الساعات والدقائق حتى نصل إلى هذه اللحظة.. نعم للضرورة أحكام، وستقبلن الأمر بصدر رحب، ولكن الأمر محبط في نفس الوقت، لذلك لم أستطع..
كنت أجر قدمي معهما في تثاقل، أضحك معهما فأشعر بصداع في رأسي، طلبنا طعاماً في مطعم قيل أنه طعامه لذيذ، في الحقيقة لم أتذوق أي طعم، ندمت على المال الذي دفعته، قالت رانيا أن الطعام أكثر من رائع والصوص قصة لوحده، وافقتها بسمة، أما أنا فتوجهت نحو بائع في الطريق، أشتريت شرائح المانجو الخضراء، التي توضع في كيس صغير، وعليها ليمون وملح وشطة حادقة، علها تعيد لي حاسة التذوق، أكلتها بمتعة، شربنا عصير مانجو في مكان يختص بعصير المانجو فقط، كان الكوب صخماً والسعر مغرياً، قال بسمة: اشربي، سوف ينفعك..
مشينا قليلاً في شارع النيل، شعرت بأن قواي قد خارت، لم أعد أقوى على الوقوف حتى، قلت لهما باعياء: حسنا، هل نذهب؟
قالت رانيا: دعونا من هناك، ونشاهد مياه النيل
قلت بضيق: لا أستطيع، أريد العودة الآن
قالت بسمة باصرار: رجاء يا يقين، ننزل قليلاً ثم نعود، سوف نستأجر سيارة من هنا، رجاء
قلت متأففة: حسناً، هيا
كنت دائما أتمنى رؤية البحر، ولكن في حالتي هذه لا أتمنى سوف الاستلقاء على سريري فقط
نزلنا، كان الطريق منحدر ووعر، ننزل ببط
كانت عقلي مشتتاً بسبب الاعياء والتعب، أمشي بلا تركيز، فجأة وجدت نفسي أمام منظر مهيب، اشتعلت كل حواسي، اتسعت حدقتا عيني بدهشة وأنا أنظر فاخرة فاهي، لا أريد أن أقول بأن نظرتي الشاعرية للأمور قد عادت في تلك اللحظة، لأن ذلك المشهد لا يحتاج إلى شاعرية، مهما وصل بك التبلد فسوف تقف دهشاً، تلك الزرقة التي لم أرى مثلها في حياتي، الأمواج التي تتلاطم فتصدر صوتاً مهدي للنفوس، أتصدقون إن قلت لكم بأن كل الاعياء والتعب قد اختفى وتبخر في تلك اللحظة! أمام ذلك المشهد المهيب!
شعرت براحة غريبة، كأنني أحلق، روحي خفيفة، وقلبي يرقص بسعادة، ما هذا الجمال! ما تلك العظمة! سبحانك ربي ما أعظمك!
تغيرت حالتي مائة وثمانون درجة في تلك اللحظة، جلست بقرب حافة الماء، غمست أرجلي فشعرت بقشعريرة سرت في كل جسدي، أغمضت عيني وتنهدت بارتياح، كأن كل راحة الدنيا تجمعت فيني، تمنيت أن أبقى هنا إلى ما لا نهاية، ما أروع البحر! من اليوم سيكون صديقي المفضل، وهذا المكان هو مكاني المفضل، لن أجد أفضل منه ولا أريد..
طلبت مني بسمة أن أخرج أرجلي لكي لا يزداد مرضي مع البرودة ولكنني لم أستطع، أريد أن يستمر هذا الشعور إلى أطول مدة ممكنة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي