الفصل التاسع والعشرين

هناك خطأ يمكن اصلاحه .. و هناك خطأ كالوصمة ..
لا نستطيع التكفير عنه للأبد ..
في بقعة من الظلام وقف ينتظر صديق له ..
صديق كان بالماضي غريب إلى ان انقذ حياته من الموت في يوم ما ..
فحفظ له ذلك المعروف ليأتي يوم رد الجميل بالأجمل منه ..
عبد السلام .. او يسري كما هي حقيقته .. وقف بمكان نائي بتلك المدينة الهادئة ..
ليلاحظ ظل ملثم من بعيد قترب تجاهه فاقترب منه بدوره متلهفا ..
وقف كل منه في ظلام الليل قبالة الاخر ..
لينزع الظل اللثام فيظهر وجهه المبتسم قائلا ..
: مرحبا صديقي ..
عانقه عبد السلام فبادله الاخر بالعناق مربتا فوق ظهره ..
ليتحدث عبد السلام بلهفة اب ..
: ارح قلبي ديفيد .. ماذا فعلت .. ؟
ابتسم ديفيد باطمئنان يربت فوق كتفه ..
: اطمأن كل شيء تم بحسب ما اردت ، انتهى امر مراد للأب .. لم يعد هناك ما يهدد حياة عمر او قصي .. كن مرتاح البال يا صديقي ..
نظر له عبد السلام بامتنان تتجمع سحابات الدمع بعينيه ..
: اشكرك ديفيد .. الان فقط يمكن ان اقول انني سددت بعضا من دَيني لقصي .. شكرا لك صديقي ..
: لا تقل ذلك .. لقد انقذت حياتي سابقا و مهما فعلت فلن اسدي لك ذلك المعروف ..
ثم مشي يجذبه خلفه قائلا بحماس ..
: تعال .. تعال معي ..
ذهب عبد السلام خلفه بعدم فهم ليقف متصلبا .. متسع العينين ينظر إلى عمر الجالس بالسيارة على الجانب الاخر من الطريق ..
خر جالسا على ركبتيه يبكي بكاء حار .. يضم قبضته بألم حتى ابيضت عروقه .. كم اشتاق لعناقه ، كم اشتاق لعناقهم جميعهم .. قصي ، يمنى ، عمر ..
تمتم من بين بكائه بمعاتبة .
: لما ديفيد .. لما فعلت هذا .. لما آتيت به .. ؟
دنا منه ديفيد مربتا فوق كتفه .
: هون عليك يا صديقي .. انهض ، قم و اذهب إليه ..و ان اردت ابنتك آتيك بها ، فقط وافق و سأنفذ ..
هز عبد السلام رأسه نافيا ..
: لا .. ان اكون ميت بمعتقدهم  .. خير لي من ان اموت بنظرهم و انا على قيد الحياة ..
نهض يمسح عينيه يملي نظره بعمر مكملا بابتسام
: يمنى بأمان برفقة قصي .. انا واثق ..
تساقطت دموعه مرة اخرى مردفا .
: هي عد إليه فهو ملول الانتظار .. و شكرا لك مجددا ديفيد ..
التفت مغادرا فهتف ديفيد بحزن ..
: إلى اين .. ؟
نظر ديفيد إليه ثم رفع نظره نحو السماء قائلا ..
: إلى دين اكبر لم اسدده بعد .. ليت الدائن يقبل اعتذاري .. وداعا صديقي ..
و اختفى داخل ظلام الليل من جديد ..
____________________________

زفرت براحة تدخل إلى مكتبها الصغير ، حيث لم تقابل  ثرثرة علا الصباحية ..
توقفت تنظر فوق سطح مكتبها بزهول ..
اقتربت بشبه ابتسامة مستغربة .. نحو ذلك العصفور الصغير بداخل قفص ذهبي اللون
فوق سطح مكتبها ..
داعبت العصفور باطراف اناملها تبتسم له بمرح ..
مر حمزة بخاطرها في تلك اللحظة .. لماذا .. ؟ لا تعلم
فقط مرت بخاطرها لحظة اللقاء الاول معه برفقة عصفورها الجريح ..
ابتسمت حين تذكرت مشاجرتهم بذلك اليوم ..
: ساراااااااة ..
و مجددا علا ..
اجفلت سارة اثر صوتها المهلل خلفها ..
زفرت بنفاذ صبر لتكمل علا .
: اتأخرتي ليه ده الاجتماع خلص ، كان نفسي تشوفي المدير ابن صاحب الشركة ..
ثم اطلقت تنهيدة حالمة ، تكمل بحزن
: فاتك نص عمرك على فكرة هو مش جاي تاني خلاص صفى الشركة ، باعها ..
داعبت سارة العصفور فجلست جاذبة اياه امامها فوق سطح المكتب ، غير منتبهة لحديث علا ..
: العصفور ده بتاع مين يا علا .. ؟
مررت علا نظرها بينها و بين العصفور باستنكار ..
: عصفور .. ؟ بقولك الشركة اتباعت تقوليلي عصفور ..
نظرت لها بنافذ صبر تتحدث بحنق
: خلاص يا علا يعني اترفدنا ..
: لاء ، ما انتي لو كنتي حضرتي الاجتماع كنتي عرفتي حصل ايه .
وضعت يديها فوق جبهتها تدلكها بألم ..
: عربية اخويا عطلت في الطريق علشان كده اتأخرت ..
( و العطل لم يكن صدفه ، بل حلت المشكلة ما ان حدثه " عم عبده " او حمزة يخبره انه وصل )
ببلاهة ابتسمت تتحدث بدلال ..
: هو اخوكي جه هنا .. ؟
حدجتها سارة بنظرة استنكار من رأسها و حتى قدميها ..
لتستدرك علا نفسها سريعا قائلة و هي تخرج من غرفة المكتب بإحراج
: ااا .. المدير الجديد عايز يقابل المهندسة اللي اتأخرت على الاجتماع .. و اه صحيح قال مش هيمشي حد من الموظفين هو اشترى الشركة بموظفينها هو و شريكه قصدي شريكته ..
عاصفة ثرثرة تسمى علا ..
وضعت كلتا يديها على جانبي رأسها تغمض عينيها بألم حيث اجتاحتها آلام الرأس ..
استقامت تلقي على العصفور نظرة و ابتسامة ثم اتجهت نحوه دون تردد تفتح القفص تمد يديها لتلتقط العصفور .. و خطت نحو النافذة .. قبلته ..ثم اطلقت سراحه ..فمكانه الطبيعي الحرية ..
تنهدت بابتسام و اتجهت نحو مكتب المدير الجديد ..
حيث مفاجأة تنتظرها ..
~~~~~~~~~
بداخل المكتب وقف امام النافذة بشموخ يضع يديه داخل بنطاله يتمتم لنفسه بخفوت متفاخرا ..
: حلو دور المدير ده .. لايق عليا و الله ..
و فجأة استمع إلى طرق الباب ، اخذ نفسا عميقا يرد بصوت عال
: ادخل ..
ولجت سارة و لم تنتبه إلى نبرة صوته اغلقت الباب خلفها تلقي تحية الصباح باحراج معتذرة ..
: اسفة يا فندم حصل ظرف طارئ عطلني عن الاجتماع ..
ضيقت مابين حاجبيها بتعجب تتسع عينيها بصدمة ..
حين التفت لها حمزة ..
لم تنتبه إلى صوت المفتاح الذي تغلق به علا الباب بحذر من الخارج  ..
بزهول و عدم فهم تحدثت ..
: حمزة .. ! .. انت هنا بتعمل ايه .. ؟
: سيادة المدير يا باشمهندسة ..
صحح لها لقبه يحاول مداراة لهفة نظراته اليها ..
: مدير ايه .. ! انا مش فاهمة حاجة .. انت مش دكتور .. ؟
ليرد مبتسما بكل ثقة ..
: دكتور .. و مدير الشركة ..
الجمت الصدمة لسانها .. ليكمل و هو يجلس فوق مكتبه ..
: المرة دي بس هقبل اعتذارك عن التأخير علشان اول يوم ليا في الشركة ..
تذكرت حديث علا عن بيع الشركة الذي اعلن عنه في اجتماع اليوم .. لا تصدق انه بات مديرها
و لا تدرك هي ان ما خفي كان اعظم ..
تملك منها الغضب لتتحدث ساخرة
: لاء و على ايه يا فندم ما فيش و لا مرة جاية و لا رايحة .. انا مستقيلة .
و التفتت تغادر المكتب تحاول فتح الباب لتجده موصدا من الخارج . . فنظرت اليه بصدمة و استغراب
: لاء منا عامل حسابي لكل حاجة ..
قالها بابتسامه متسعة ينهض من مكانه متقدما اليها
يحمل بين يديه ورقة ما يفردها امام وجهها .. فأزاحتها بغضب حتى كادت تمزقها قائلة .
: افتح الباب ده حالا يا حمزة
عدل من الورقة قائلا
: الحمد لله اني عملت حسابي في دي كمان و ما جبتش الاصل ..
نظر اليها ليعطيها الورقة مرة اخرى بابتسامة سمجة ..
: اتفضلي اقري ..
: مش قارية حاجة ، افتح الباب بدل ما اصوت و اعملك فضيحة في شركتك اللي انت فرحان بيها دي ..
تبدلت نظرته يتنهد بحالمية قائلا .
: يا ريييت ..
اتسعت عينيها بزهول .. لينظر اليها مكملا
: تخيلي بقى لما تبقى سيرتنا على كل لسان في الشركة ، مدير الشركة و شريكته ..
: ايييييه ! ! !
صرخت بها باستنكار
: شريكة ايه ؟ انا مش شريكة حد
ليهتف ببرائة
: منا بقولك خدي اقري الورقة مش راضية ..
تناولت منه الورقة بعنف تقرأ محتواها لتتسع عينيها تنظر إلى مكان توقيعها فوق عقد شراكة صحيح .. تذكرت يوم امس عندما طلبت منها علا توقيعها .. لتهتف من بين اسنانها ..
: علا .. !!!
ليباغتها بنبرة مستمتعة ..
: بالظبط .. و اول صفقة لينا هي مستشفى اخوكي اللي بتتبني على ارضي ، انا خلاص لغيت التعاقد مع شركة المنياوي و مضيت انا و آدم ..
: آدم .. ؟
هتفت بها مشدوهة بصدمة ..
اذدرد ريقه بارتياك حيث كان الاتفاق ان لا يخبرها بتعاونه معه ..
همت تفتح الباب بعنف ليقترب منها تلين نبرته برجاء و بحب خالص
: سارة ارجوكي كفاية ، اعملك ايه تاني علشان تسامحيني ؟
ابتعدت خطوة إلى الوراء  بغضب .. بينما يجثو خافقها مشبكا يديه باكيا يتوسلها مسامحته ..
امتزجت لمعة الدموع بدفئ شعاع جرتي العسل خاصتها .. الغارق هو فيهما حد الثمالة ..
حد الانطفاء ..
فقط نور شمسه و كفى ..
دمعة عذبة صافية ولدت على اعتاب مقلتيها مرورا بوجنتها و كأنها تعاتبه تركها الموت على شفتيها .. تلاها الكثير منتحرا فوق حافتي شفتيها في لحظة شرخ لكرامتها و دون تحكيم عقل من وجهة نظرها ..
تحدثت معاتبة قلبه كيف جَرء .. ؟ نبرتها معاناة .. مهزلة بين قلب عاشق و عقل مشتت بافكار يسكنها هو وافكار معارضة ..
: عاوزني ازاي اسامحك .. ؟ .. انت دبحتني بكلامك يا حمزة .. ؟ .. جايز اكون جرحتك بالكلام اللي قولته
قطعت حديثها غصة قاتلة تنهار امامه باكية تردف بقهر ..
: بس كنت خايفة عليك .. كنت خايفة سالم ينفذ تهديده و يقتلك .. علشان كده جرحتك .. لكن انت . . كلامك دبحني و بدون اي عذر ليك ..
اشتعلت عينيه يشد على قبضة يديه  بغضب .. يسب نفسه .. يلعنها .. اقترب يحتويها بين ذراعيه لتشير إليه فاردة كفها  امام وجهه تمسح دموعها المتساقطة .. لترفع رأسها بشموخ في لحظة ادراك و ما زالت انتفاضة قلبها بالعشق .. و الألم يخرج على هيئة كلمات ..
مش مسمحاك و عمري ما هسامحك ..
: سارة انا بحبك ..
لن تنكر ان كلمته زلزلت قلبها .. اصابته بزيادة في معدل الخفق .. لتحاول اخفاء تأثرها
: افتح الباب يا حمزة خرجني ..
زفر بتعب بإرهاق عاشق في صحراء جافة تحت شعاع شمس قاسية .. فتح الباب لتخطو هي سريعا خارج المكتب ، و قبل خروجها قبض فوق معصمها يهمس بخفوت قرب اذنيها
: هسيبك تمشي .. بس مش هسيبك تخرجي من حياتي ..
نفضت يديه تخطو خارجا و من بين دمعاتها تسللت ابتسامة تناوش وجنتيها في الظهور ..
: اوعي تنسي العصفور .. خلي بالك منه ..

هتف بها ينظر لها بإصرار عاشق مثابر ..
لينال الشمس بجدارة ...
اما هي فابتسمت بانتقام تلتفت له قبل خروجها ..
: طيرته ..مكانه تحت السما .. حر ..
ثم ذهبت ..و ضيق هو ما بين خاجبيه بإدراك طبيعة شمسه النارية ليتحدث بخفوت ..
: مهما طار بعيد .. هيرجع ..
______________
انتهى الكابوس يجر خلفه ابواب الماضي المفعمة بالسواد ..
تأكد من حقيقة الفيدو تحت يد خبير فأكد له صحته ..
ينتابه شعور الان باختطافها في رحلة عشق لا نهاية لها ..
تسلل بخفة من خلفها حيث كانت تقف بشرفة الكوخ القريبة من الارض ..
اجفلها بعناقه لها من الخلف يستند بذقنه فوق كتفها .. يهمس بخفوت قرب اذنيها بنبرة عشق تسمعها لأول مرة
: وحشتيني ..
سريعة ازاحت بيديها دمعة كانت تسيل فوق وجنتها ليديرها اليه بتسائل ..
: بتعيطي ليه .. ! لسة بتخافي تقعدي لوحدك .. ؟
نفت برأسها ليحتضن وجهها بين يديه .
: اومال في ايه .. ؟
: انا هفضل هنا لحد امتى .. خالو و ماما وحشوني اوي ..
ضم رأسها نحو صدره ينظر نحو البحر بغموض .. لتهدأ هي من شهقات بكائها عندما استمعت اليه يقول ..
: لما نصفي حسابنا الاول ..
نظرت اليه تمتزج دموع عينيها بنظرة البرائة فيهما ..
: حساب ايه .. ؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي