الفصل الرابع عشر والاَخير

هزت زينب رأسها توافق رأي والدتها، فإن كان اخوتها يريدونها كما قالت؛ لابد أن سيأتون اليها وهي لن تغلق الباب بوجههم كما فعل والدهم ووالدتهم سابقًا معها، تنهدت بعمق مع الدمعة الغادرة التي سقطت من عيناها، قبل ان تنتبه لوجه امرأة شابه تمُر عليها بسيارتها، واقفة متسمرة خارج عتبة منزلها تهدهد في طفلتها ويبدوا انها كانت تتبعها بعيناها من وقت دلوف سيارتهم في الشارع، اشاحت المرأة عيناها وهي تستدير بشكلٍ مفاجئ، من قبل ان تتحقق زينب جيدًا من هيئتها، حتى دلفت لداخل منزلها وصفقت الباب بقوة .
التفتت زينب لوالدتها تسألها :
- مين دي ياأمي تعرفيها؟ اصلي انا مالحقتش اشوفها كويس، وبصراحة مستغربة فعلها .
اجابتها نعيمة بغموض:
- ماهي دي بقى اللي خدت مكانك واتجوزت العريس اللقطة اللي متحملش يستناكي تلت سنين الكلية .
شهقت زينب مجفلة ترد :
- معقولة دي صاحبيتي هاجر ياامي؟ طب والله ماعرفتها، اصل اتبهدلت خالص عن ماكانت معانا في الكلية، يانهار ابيض، دي اتغيرت خالص .
تنهدت نعيمة بعمق :
- الخلفة بقى ياعين امك وشيل المسؤلية؟ حكم انا شوفت زهرة اخت عامر قريب في السوق عندنا في المحافظة، وحكتلي عن اخوها الجلعان، انه مابيعمرش في اي شغلانة يمسكها ، معتمد بقى على ابوه ومرتب مرته من وظيفتها كمدرسة انجليزي ، والبت زي ماحتكلي طالع عينها في تربية العيال اللي خلفتهم ورا بعض اربعة ، دا غير انها بتدي دروس خصوصية .
جحظت عيناها زينب وفغر فاهاها وهي تستمع لكلمات والدتها.. تنقل عيناها اليها والى الطريق :
- معقولة يا أمي؟ دي هاجر دي كانت اليطة قوي معانا ايام الجامعة ، معقولة الزمن يجي عليها كدة؟ صعبت عليا والنعمة رغم الحركة الزبالة عملتها دلوك ، لما ولت وشها عني وقفلت بابها.
- تلقيها بس لسة غيرانة منك، عشان جوزها يعني لما كان عايز يتجوزك، وقعد سنة مستنيكي قبل ما يتبع ابوه ويتجوزها .
ردت زينب باستنكار:
- ويعني هو طلع زين قوي؟ ماهو مطلع عينها اهو، بس كان فالح في البس الحلو والمياعة، دا انا مزعلتش،عليه وانا طالبة في الكلية ، هابصلوا دلوك وانا ولله الحمد دكتورة ومتجوزة دكتور زيي؟ .
قالت نعيمة بابتسامة ماكرة:
- ما كنتي شايفاه عريس لقطة وفرصة ماتتعوضش ؟
لوت زينب فمها بابتسامة جانبية ترد عليها :
- بصراحة كنتي معجبة بشكله وشياكته ، اصله كان يلفت النظر بصراحة، لكن لما اتجوز هاجر زميلتي في الكلية ، انا شيلته من مخي على طول ، عشان ساعتها انا كنت مركزة في التفوق الدراسي، لكن الظاهر فعلًا انها هي منستش ، ياللا بقى ربنا يهدي .
- فعلًا يابتي ربنا يهدي .
...........................
بمنزل الخال حسان والمكون من ثلاث طوابق ، احتوي كل من الطابق الثاني،والثالث على اربع شقق، خصصهم سليمان لزواج ابناء الشباب والذي شُغلت منهم ثلاث وتبقى شقة واحدة في الطابق الثالث، لإصغر ابناءه والذي لم ينهي دراسته الثانوية بعد، في انتظار زواجه. الطابق الأرضي كان هو اصل المنزل والذي لم يقسمه سليمان وجعله بمساحته الشاسعة بالإضافة الى الحديقة الخلفية للمنزل والمحاطة بالسور الخرساني وتضم العديد من الاشجار والنباتات المتنوعة كي يضمه ويضم جميع ابناءه واحفاده ويسع جميع العائلة في مناسباتها واجتماعتها ، كهذا اليوم !
دلفت زينب ونعيمة لداخل المنزل، فتفاجأن بكمية الأطفال التي اتت اليهم مهرولة بالترحيب بالإضافة لولديها الصغيران ايضًا، ليلتفوا حولهم بتهليلٍ ومرح انتقل اليهن، فضحكن من قلوبهن، قبل ان تأتي زوجة خالها ، بغبطة وسررور ترحب بهن، حتى ادخلتهم الى صالة المنزل الفسيح ، والتي كانت ممتلئة بالنساء ، فتيايات صغيرات وشابات متزوجات ، كل واحدة منهن، تُعرف نفسها بسعادة بالغة لوجود الدكتورة زينب اَخيرًا بينهم ، ملبية دعوة خالها للتعرف بأفراد عائلتها ، ذاكرة نعيمة قوية ساعدتها على معرفة معظم الفتيات، واستعادتها لمواقف فعلنها بحماقة في صغرهن، حينما تذكرها نعيمة تنطلق الضحكات منهن جميعًا مصدرة جوًا من الفرح ، اما زينب، فتذكرت بالكاد بعضهن ، ولكنها كانت مستمعتة بجو العائلة الكبيرة، والذي افتقدته منذ زمن طويل ، حينما سألت عن زوجها دلتها احداهن نحو الباب المؤدي الى الحديقة الخلفية ، حيث الجلسة الرجالية والتي شملت خالها واولاده وازواج بناته وزوجها هي .
خطت بداخل الحديقة اليهم لتجده جالسًا بينهم على إحدى المقاعد الخشب، وقد خلع سترته وظل فقط بقميصه المنشي الأبيض على سروالٍ تحتى من الجينز ذو لونٍ رمادي دائمًا مهندم الملبس ، ليس وسيمًا بالمعنى المعروف ولكنه يتميز بملامح محببة للعين رغم خشونتها، شعره الكستنائي الخفيف عائد للخلف ، نظارته الطبية على عيناه العميقاتان زادته جمالًا مع هذه اللمحة المميزة بالرقي الفطري لشخصيته،

الاستاذ الدكتور عيسى النجار ، لقد كان استاذها في السنة الاولى من دراستها في الجامعة، وكانت هي الطالبة النجيبة معه، كم من مرة ظهر الاهتمام منه نحوها، ولكنها لم تنتبه ولم تعي، ولكنها كانت تشعر بتميز مكانتها لديه طوال سنوات دراستها، حتى قالها لها صراحة في اختبارها الاَخير لسنتها الرابعة، ولكنها رغم مفاجأتها وسعادتها بطلبه؛ فضلت التصرف بنصج وردت على طلبه بالإنتظار لبعد ظهور نتيجتها التي كانت كما توقعت، بدرجة ممتازة زادت لديها ثقتها بنفسها وزرعت داخلها الأمل للتعين بالجامعة، حتى تصل لمبتغاها في التقدم الذي ساعدها عليه، ولم يكن عائقًا في تحقيق أحلامها، بعد ان صارحته بقصتها ووالدتها بكل امانة ، فازدادت مكانتها بقلبه وازداد معه احترامه لها ولوالدتها المكافحة ، ولكن ظلت بقلبها تلك الغصة المريرة، وهي افتقادها للوالد الذي يسلمها بيده لعريسها، كما تحلم كل فتاة، ويكُن ظهرًا وحاميًا لها، كرامتها وكبريائها منعتاها للجوء اليه في هذا الوقت، بعد تركه لها بالسنوات، فقام بهذا الدور خالها حسان رغم سلبيته المعتادة معهم، ولكن صدقت المقولة الشهيرة والتي تقول بأن الخال والد !
حينما اقتربت للجلوس معهم وهم يقهقهون بأصواتهم الرجولية العالية، وجدت خالها الذي انتبه لها يشير بيده نحوها بفخر :
- واهي الدكتورة بتاعتنا وصلت اهي، عشان مايبقالكش حجة عاد .
- حجة ايه ياخال؟
قالتها وهي تجلس على مقعدٍ فارغ بجوار زوجها :
رد الدكتور عيسى :
- ياستي خالك عايزنى قال نقضي الاسبوع دا كله عندهم، ايه رأيك بقى؟.
نظرت نحو خالها قائلة بحرج:
- ماينفعش ياخالي والنعمة، ظروف الشغل في الجامعة ومدارس الأولاد .
رفع كفيه في الهواء بإشارة ، جعلت الجميع يقهقهون مرة اخرى حولها وبأصواتٍ أعلى، ان كان خالها أو اولاده و بعض الشباب الذين لم تعلمهم بعد .
قالت بعدم فهم وهي توزع نظراتها عليهم :
- في إيه ياجماعة ماتفهموني ، طب على الاقل خلوني أفهم معاكم .
رد خالها من بين ضحكاته :
- اصلك ماتعرفيش يابتي، الدكتور جوزك قبل ما توصلي قالنا ايه، لما زنينه عليه في موضوع قعادكم معانا ؟
نقلت عيناها بينهم تسأل بترقب :
- قال ايه يعني ؟
رد ابن خالها واسمه حميد من الناحية اخرى بحماس :
- قال انا راجل بسمع كلام مرتي واللي هاتقول عليه انا موافق .
انطلقت الضحكات مرة اخرى فلكزت زوجها بقبضتها على ساعده المستندة على ذراع المقعد و قد تخضب وجهها بحمرة الحرج :
- دا برضوا كلام برضوا ، كدة تخليهم يضحكوا علينا .
رد هو بثقة وصوتٍ عالي نحوهم :
- ومايضحكوا بقى واحنا هايهمنا ايه ؟ ايوة انا ياجماعة بسمع كلام مراتي، فيها حاجة دي ولا حد عنده اعتراض؟
قال خالها حسان وهو يهز اليها برقبته مسرورًا :
- ايوة كدة يابت جدعة وفهمتيها لوحدك ، احنا بنتتنا هما اللي بيمشوا رجالتهم ، واللي ماتعملش كدة تبقى مش من بنتتنا،.
وسط سيل الضجكات المتتالية تظاهرت زينب بالضحك أيضًا، لكن كانت من داخلها تود لو استطاعت ان تسأله :
- وهل والدتي ايضًا قد كانت من قائمة بنات العائلة وسليمان يفعل معها مافعله، ام هذا ينطبق على بناتك فقط ؟.!
ابتعلت السؤال بداخلها وصمتت لعدم تعكير صفو جلستهم ، والتي استمرت حتى ميعاد الغذاء، والذي كان كمأدبة فاخرة اعدت على شرف الدكتورة وزوجها واولادها ، تحوي العديد من الاصناف المتنوعة من الطعام بما لذ وطاب احتفالًا بحصول ابنتهم كما قال خالها على درجة الدكتوراة، ورفعها رأس عائلتهم لعنان السماء كما قال ابن خالها حميد ، كان الترحيب بها وبوالدتها عظيمًا ويدعوها للتفاخر امام زوجها ، لوهلة كانت ستستلم زينب لإفكارها وتعود بذاكرتها قديمًا حينما كانت ووالدتها كالمنبوذتان من العائلة ومن افراد البلدة، ولكنها بنظرة واحدة نحو والدتها المتسامحة، تنحت عن الحزن وفضلت الاستمتاع بوقتها معها ومع الجميع، فما فائدة التفكير حينما يعكر صفو الاوقات الجميلة علينا ، فلتذهب الذكريات السيئة الى الجحيم، ولنقتنص من دنيانا بعض اللحظات الجميلة فهي قلما ان لم يكن نادرًا ما تتكرر .
.........................
مر اليوم ما اروعه بصحبة ومودة أهلها التي لم تشهدها من سنين، وحينما اتت ساعة الرحيل والتي تمت بصعوبة، حتى استطاعت الفكاك من الحاح خالها وزوجته وأبناءه للمكوث ولو ليومً واحدًا اَخر بينهم ، على وعد بتكرار الزيارة بأقرب فرصة يسمح بها وقتهم،
سبقها في الخروج الى السيارة زوجها واولادها الصغار ووالدتها ايضًا، حينما خرجت هي الى مدخل البيت تفاجأت بخالها يهتف بإسمها من الخلف بقلب منزله، وهي التي كانت تظنه في الخارج مع زوجها !
وقفت منتظرة محلها حتى وصل بخطواته اليها ليقف امامها فسألته بتوجس:
- نعم ياخالي انت عايز حاجة؟
اجاب بملامح مغلفة غامضة :
- في ناس جاي مخصوص عايزة تشوفك.
هزت برأسها تستفسر :
- ناس مين ياخال؟ وهما فين بالظبط؟
اومأ برأسه وعيناه نحو الداخل:
- روحي بس انتي وشوفي بنفسك هتلاقيه مستنيكي في الجنينة اللي ورا .
تسارعت دقات قلبها بلهفة بعد سماعها جملة " هتلاقيه مستنيكي "
فقد وصل الى عقلها فورًا ان شقيقها هو المقصود، لم تشعر بأقدامها وهي تعدوا لداخل المنزل حيث الباب الخلفي،المؤدي الى الحديقة، وقلبها يحدثها بأنه اتى، شقيقها اتى اليها ليراها قبل ان تذهب، فتحت الباب فرأت شبح ظهره امامها على الفور، ولكن مهلًا هذا ليس طوله ولا حتى ظهر شاب مفرود الجسد نسبةً لعمره اليافع، دب الشك بقلبها وهمت لتستدير وتعود من حيث اتت ولكنه اجفلها بندائه :
- على طول هاتمشي كدة يازينب، من غير حتى ماتسلمي عليا؟
توسعت عيناها زعرًا او توجسًا او دهشة، لم تعلم ماهية ماتشعر به، لا تجد تفسيرًا لهذا الشعور الذي اكتنف عقلها وهي تنظر اليه جيدًا بعد هذه السنوات الطوال، أبيها لم يتغير وكفى؛ بل هو اصبح رجلًا اَخر.. فهذا النحيف لم يكن اباها الضخم قديمًا على الإطلاق طوال سنوات عمرها التي قضتها معه، قسمات وجهه المجعدة، خطوطٍ منتشرة حول الفم وتحت العين ، اين ذهبت حمرة وجهه ونضارة الصحة المعروفة عنه، شعر رأسه الذي كان قديمًا حالك السواد انتشرت به الشعيرات البيضاء حتى غطت على القلة السوداء بينهم ، ترى مالذي اصاب اباها بهذا الوهن وجعله يشيخ قبل أوانه وهو على حد علمها لم يتجاوز الخامسة والخمسون !
- هاتفضلي بصالي كدة كتير تفحصيني يازينب؟
خرج صوتها بتماسك رغم ثقل ماتشعر به :
- معلش اعذرني بقى، اصلي بقالي زمن طويل ماشوفتكش ولا اعرف عنك حاجة.
اطرق بوجهه وقال بخزي :
- انا عارف انك زعلانة وشايلة مني .
بشبه ابتسامة ساخرة ردت :
- زعلانة وشايلة! على ايه يعني؟ عشان قولتلي مثلًا.. ماليش دعوة بيكي واعتبري نفسك مالكيش ابهات لو طلعتي مع أمك، ولا يمكن عشان يعني حاولت معاك يجي كام مرة كدا ازورك او اشوفك لو حتى في الشارع واسلم عليك، وانت كنت بكل قلب مليان تكسفني قدام الناس، ولو في بيتك بقى تسيب مرتك تطردني قدام خواتي، واكني شحاتة وجاية امد ايدي ليكم.
قالت الاَخيرة بألم تصحبه دمعة خائنة، ازاحتها فورًا بإبهامها، امام سليمان الذي اصابته كلماتها وكأنها سياط تلسعه بقسوة ودون رحمة.
قال بأسف وعيناها منخفضة ارضًا لا تقوى على مواجهة عيناها:
- انا عارف اني غلطت وجيت عليكم كتير؛ بس انا كان دمي بيغلي منك انت وامك عشان كسفتوني قدام صاحبي وولده، امك وقفت قصادي زي الشوكة في الزور وانا كنت عايز استرك واجوزك ، ماكنتش هارميكي .
ردت بحمائية :
- امي ماغلطتش لما وقفت قصادك عشان اكمل تعليمي، امي عاشت سنين معاك مظلمومة منك ومقهورة من مرتك ؛ كله عشان خاطري ، واما وقفت قصادك ، دا كان عشان مايتكررش معايا اللي عملته انت فيها ؟
الجمته كلماتها الحادة حتى ان فتح فمه واغلقه عدة مرات دون صوت حتي قال اَخيرًا :
- بس كمان اللي عملتوه انتوا مكانش هين واصل عليا؛ لما تتحدوني وتسكونوا لوحديكم في بيت قديم، وبعدها تهجوا من البلد وتتجوزي وتخلفي بعيد عنها، ولا اكن ليكي اب عايش على وش الدنيا؟
ردت بابتسامة مريرة :
- وانت كنت فاكرها هينة عليا؛ لما جوزي يحط ايده في ايد خالي وابويا عايش على ضهر الدنيا، بس بقى كنت هاحلها ازاي دي،؟ بعد ماتعبت ونفسي،وجعتني من كتر المحاولات معاك ، وانت قلبك القاسي ولا مرة رق ولا حن لي، وانا كانت جريمتي ايه عشان دا كله؟ هي إني تبعت امي اللي كانت عايزة تعلمني؟
تجعدت ملامح وجهه بأسى وهو يطرق برأسه نحو الأرض، حتى شعرت نحوه بالشفقة، وبداخلها تجاهد لعدم اطلاق العنان لدماعتها امامه، خرج صوته كالهمس وهو يرفع عيناه اليها ببطء:
- يمكن دي تكون اول مرة اعترف فيها ليكي وقدام نفسي كمان اللي كانت بتكابر العمر كله، ان امك فعلًا كانت على حق ، وانا كُنت مغرور بصحتي ومالي وبجهلي كمان ، بس عايزك تعرفي زين ؛ ان ربنا خدلكم حقكم مني تالت ومتلت، خواتك الله يجازبهم ورثوا افترا امهم، وغرور ابوهم ، يعني مافيش حد بيملى عيونهم وخصوصًا ابوهم ، ياللا بقى مافيش داعي نفتح في مواجع .
اومأت برأسها صامتة تستوعب كلماته وقد تبين صدقها من هيئته المزرية ، ردت بثبات :
- يعني انت معرفتش الحق يابوي غير لما شوفت قساوة عيالك معاك ، وشوفت الفرق بين اللي عملتوا معايا انا وامي زمان وبين اللي بيعملوه ولادك معاك دلوك ، سبحان الله .
حينما ظل صامتًا، تابعت زينب :
- شوفت امي يابوي؟ اللي كنت بتعايرها بالرفع والقصر بقيت ازاي ؟
مسح بأطراف اصابعه على ذقنه قائلًا بتوتر :
- شوفتها يازينب وانا جاي دلوك وهي قاعدة في العربية، قبل ما اقابل خالك ويدخلني الجنينة جوا عشان نتكلم براحتنا، ماشاء الله عليها بقيت حاجة تانية، اتدورت واحلوت واكنها رجعت عيلة صغيرة ، بس لو امك كانت بالحلاوة دي وهي معايا مكنتش هافرط فيها واصل .
هتفت زينب بانفعال :
- امي كانت مطفية من عمايلك وظلمك ليها، وفعل الحيزبونة صفا اللي كانت مورايانا الويل بعمايلها معانا .
تنهد قائلًا برجاء :
- سامحيني يابتي وخلي امك كمان تسامحني .
اجفلتها كلماته المباغتة ، فتنهدت بعمق تحدق بعيناها اليه صامتة ، وصراعً يدور برأسها بين الرفض انتقامًا لكرامتها ووالدتها بعد ان تذكرها اخيرًا، وبين حنينها اليه والى وجوده في حياتها، حتى لو ظل بقسوته، بعد عدة دقائق من التفكير مرت عليه كالدهر ، قالت :
- خلاص يابوي ، مالوش لزوم الكلام في اللي عدى ولا اللي فات.. تعالى اما اعرفك على جوزي الدكتور عيسى ؛ دكتور في الجامعة، مش تاجر موالح .
شقت ابتسامة مضطربة وجهه وهو يرد عليها :
- ماخلاص يابتي عاد، كفياكي تقطيم فيا.
اومات برأسها قائلة بتسامح
- خلاص يابوي .
..........................

بعد مرور الوقت
بداخل سيارتهم وهي جالسة في المقعد الأمامي، بجوار زوجها الذي يقود السيارة وهي تقطع الطريق نحو الخروج من البلدة، كانت مستندة برأسها للخلف على مقعدها، وهي تنظر من النافذة للخارج صامتة، حتى غير عابئة بصخب ابناءها في المقعد الخلفي مع والدتها، أجفلت على صوت زوجها :
- اللي واخد عقلك يادكتورة!
التفت اليه برأسه تسأله بعدم فهم :
- ايوة ياعيسى، هو انت بتكلمني؟
القى نحوها ابتسامة مشرقة قبل ان يعود بنظره للطريق :
- لا ياحبيبتي بكلم نفسي.
اشاحت بعيناه عنه قائلة بسأم يشوبه المزاح:
- ياااربي عليك ياعيسى، لما تطلب معاك هزار ؟
صدحت ضحكته الجميلة بصخب في محيط السيارة، انعشت قلبها بمرح اخفته وهي تلتفت للنافذة مرة اخرى، ولكنه اجفلها حينما شعرت بكفه التي اطبقت على كفها، فوجدته ينظر لها بحنان، وكفهِ تشدد على كفها مرددًا باقتضاب:
- إنسي!
تبمست بجمال وشعور بالراحة و الدفء قد غمر قلبها لوجود زوج حنون بجوارها، متفهم ويصله حزنها وما يشغل عقلها دون ان تتكلم .
همت لترد عليه ولكنها أجفلت على اهتزاز جسدها بعنف، وزوجها يكبح زمام السيارة فجأة يوقفها وهو يصيح على أحد الأشخاص:
- انت مجنون يابني أدم انت؟.
جحظت عيناها وهي تلمح أحد الأشخاص متوقف امام السيارة بوسط الطريق، عيناه مرتكزة عليها ولا يعطي بالًا لصياح زوجها الذي كاد ان يصاب بنوبة قلبية :
- ياأخينا انت انا بكلمك، ابعد عن وشنا بقى خلينا نمشي، مش ناقصين قرف احنا .
انتابتها الدهشة بشدة وهي ترى هذا الشخص الغريب يتزحزح ببطء من امام السيارة، ونظراته الوقحة نحوها لم تحيد عنها، اثارت غضب زوجها الذي تمتم بجوارها :
- دا سكران دا ولا مجنون؟ اقسم بالله طالعة معايا انزل اضربه في الشارع .
تكلمت نعيمة من خلفهم :
- ملكش دعوة بيه ياولدي خلينا نروح .
ادار عيسى السيارة لتتخطى هذا المعتوه بعد ان افسح الطريق قليلًا ، فتبيت زينب من نافذة السيارة وجهه عن قرب فعرفته ، نعم عرفته، انه هو من كان يومًا سيصبح لها ....
- هو انتي تعرفي الراجل ده .
التفتت لزوجها مجفلة بعد ان قاطع شرودها تهز رأسها بحركة غير مفهومة قبل ان تقول اَخيرًا وهي تلقي نظرة للخلف نحو والدتها ، والتي اخبرتها بعيناها انها علمته ايضًا :
- دا اا ..دا حسب ما افتكر يعني شكله كدة يبقى ابن صاحب والدي.. تاجر موالح زي ابويا، وتلاقيه بس هو عرفني عشان كان بيشبه عليا .
التفت اليها يسألها:
- طب وانتي مالك كدة؟ بتتكلمي واكنك خايفة ؟
هزت رأسها بنفي واضطراب وقد لاحظت بالفعل ان كفها كانت على موضع قلبها، فقد فاجئتها الفكرة لوهلة عما كان سيحدث معها لو كانت تزوجت هذا الرجل الغريب ، والذي وضح لها جليا كم كان ربها كريمًا معها حينما نجاها من زواجها به، لقد كانت السيجارة بيده كما رأته سابقًا، وجهه بفعل المكيفات نحف وتجعدت بشرته وكأنه زاد لضعف عمره، بالإضافة ملابسه الغير مهندمة على الإطلاق، بنظرة واحدة نحو زوجها المهندم، والصارخة هيئته بالرقي؛ ظهر الفرق شاسعًا بينهم ، رفعت كفهِ المطبقة على كفها للأعلى تقبلها دون كلام، بحركة أجفلت زوجها وادهشته قبل ان تلتفت للخلف نحو الجالسة بجوار ابناءها تشاكسهم وتداعبهم وابتسامة رضا تزين محياها، القت اليها هي الأخرى قبلة في الهواء وهي تقول لها بمنتهى الشكر والتقدير :
- ربنا يخليكي ويحفظك ليا ياأمي ياست الغالين يارب.
بادلتها نعيمة القبلة هي ايضًا بابتسامة جميلة وقد فهمت مقصدها جيدًا!


.........تمت بحمد الله ...



     
اهداء لحبيبة قلبى أمي اللى انا متأكده تمام التأكيد انها لو اتحطت مكان " نعيمه " كانت هاتعمل زيها واكتر ، ولكل أم كمان بتضحي عشان ولادها
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي