قلم باركر- أجمل صدفة

محمود زيدان`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2023-05-01ضع على الرف
  • 2.9K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

أجمل صدفة

نوفيلا
قلم باركر
محمود زيدان
------
بعد يوم طويل من عملي المرهق في إحدى المدارس الخاصة بالقاهرة، تلك المدارس التي تُعتبر ملاذًا آمنًا لمن فاتهم "الميري" ولم يقبلوا أن يتمرغوا في ترابه، فوجدوا فيها ضالتهم المنشودة التي يخرسون بها ألسنة الناس ممن يصفونهم بالعواطلية أو المتكاسلين، تمامًا مثل الفتاة التي أهلكت بصرها في دفاتر العلم وعندما تجاوزت سن الزواج أصابها العَمَش فقَبِلتْ بأول خاطب يطرق بابها وملّكته من قلبها وجسدها ودفاتر علمها فقط كي لا توصف بالعانس!

وقفتُ بمحاذاة الرصيف منتظرًا قدوم الباص الذي سيقلني إلى منزلي- أحفظ رقمه جيدًا ولكني لا أثق بذاكرتي لذا سجلته في دليل الهاتف.. وبما أني أتوقع اﻷسوأ دائما دونته في دفتر المعلم تحسبًا لسرقة هاتفي في غمرة الزحام الذي تشعر معه كأنك تخوض مغامرة كُبرى لاصطياد سمكة التونة العنيدة!

ولكن هناك شيءٌ آخر كنت أخشى ضياعه أكثر مما خشيت فقدان رقم الباص، هذا الكيس اﻷسود الذي قدمته لي ميس نيرمين صباح اليوم، ففي أول حديث جرى بيننا باﻷمس أخبرتها بكل شيء أعرفه عن نفسي- شاب غريب من أقصى جنوب مصر، أعيش في شقة متواضعة مع اثنين من اﻷصدقاء أحدهما مهندس شاب والآخر طبيب حديث التخرج، لا أفكر في الزواج الآن، أشعر أن هذا المكان لا يلائمني ولكنه أفضل من لاشيء.. بالإضافة إلى غيرها من اﻷسرار التي في العادة لا تُصبح أسرارًا بمجرد مرور ثلاث دقائق من التحدث إلى شخص غريب مُعتبرًا مُضي أكثر من دقيقة واحدة على أي لقاءٍ يجمع بين اثنين هو بمثابة فرصة رائعة لتفجر ينبوع الصداقة بينهما، ورغم هذا ليس لديّ الكثير من اﻷصدقاء ولكن على أيّ حال أعتبر نفسي حينها كأني ألقيت أسراري في سلة مهملات.. فهي ليست على قدرٍ من اﻷهمية أصلا!!

أخبرتني ميس نيرمين- أستاذة التاريخ- أنها تبلغ من العمر ثلاثة وعشرون عامًا، وأنها تجيد طهي المأكولات بجميع أنواعها، وهي بارعة أيضا في صنع الحلويات الشرقية منها والغربية رغم أني لم أسألها عن هذا، ولكن لا تكف المرأة مهما بلغت من العمر عن الحديث حول مهارتها في أعمال المنزل وكأنها لا تخرج إلى العمل إلا وقد تركت عقلها في بيتها، وليست مساحيق التجميل التي تغطي وجهها إلا وسيلة لتعويض هذا العقل المفقود!!

حسنًا يبدو أنني وصديقاي قد نلنا قدرًا كبير من الشفقة لدى ميس نيرمين، وأن قلبها الرقيق مثل رقة أناملها التي كان يسقط منها القلم مرةً تلو أخرى عند حديثي معها قد تحركت نوازعه ﻷن تعطف على هؤلاء الرفاق الثلاثة، فصَنَعَت لهم بعض الطعام الذي تفوح منه رائحة نفاذة رغم أنها غطته بإحكام شديد.

ولكن تُرى ماهو الطعام الذي اختارت أن تقدمه لنا أستاذة التاريخ؟!

أيًا كان ما يحويه الوعاء فلم أكن أشغل بالي كثيرًا به، بل كل ما أفكر فيه الآن هو كيف أمهد اﻷمر لكي أجعل صديقاي يستقبلا هذا الحدث الكبير بهدوء تام دون إحداث جَلَبَة في المكان بسبب سعادتهم بهذا المغنم الوفير- نعم أينما سكن العُزّاب أو قل المُعذبون في بِناية سواء كانت فاخرة أو حقيرة فإن جميع اﻷنظار تكون مُسلطةً عليهم، ويضعونهم تحت ميكروسكوب الدين واﻷدب واﻷخلاق الحميدة، فإن صدرت منهم مجرد هفوة واحدة تقاذفتهم اﻷلسنة بشتى عبارات اللوم والتوبيخ، بينما تنبعث من خلف جدران المتزوجون أصواتٌ يندى لها الجبين ويَقْطُر القلبُ دمًا من فرط قسوتها، فهناك طفلةٌ مسكينةٌ تصرخ بأعلى صوتها جَرّاءَ ضرب والدتها إياها ﻷنها لم تحصل على درجات كتلك التي حازت عليها ابنة الجيران، وهذه زوجةٌ قليلةُ الحيلةِ تبكي بِحُرقة لقسوة زوجها الذي عاد من عمله ولم يجد مائدة الطعام في شرف انتظاره، وهذا ولدٌ يضرب أخيه اﻷصغر بشدة ﻷنه مزق غلاف كراسته المهترئة دون قصد منه.. يبدو للوهلة اﻷولى أن الناس قد جاءوا إلى الدنيا لكي يُعذب بعضهم بعضًا ثم يرحلون!

نعم يحدث هذا على مرأى ومسمعٍ من الجميع ولكن لا أحد يُحرك ساكنًا فكلهم يغوص في الوحل من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وليس من المعقول إذا أُصيب قومٌ بالخبل أن يعاير بعضهم بعضًا!

- من فضلك.. أريد الذهاب إلى أقرب محطة مترو.
صوت أنثوي ذو نبرة عذبة نطق هذه الكلمات ليقطع تفكيري العميق في أمر صديقاي فشعرت بسعادة بالغة لم أعهدها منذ زمن رغم أني لم أبصر صاحبة الصوت بعد، فليست كل أصوات النساء محببة للقلب.. منها مثلا صوت غليظ يجعلك تنفر من المرأة مهما كانت بارعة الجمال، ومنها كذلك الصوت الرفيع الحاد الذي يُسبب لك الإزعاج مهما كان منخفضًا، ومنها أيضا الصوت العادي الجاف الذي تكون عند السماع إليه كالموظف حين يتلقى التعليمات من مرؤوسيه فقط مجرد وسيلة لنقل الكلام من المتحدث إلى المستمع وما إن تفارفه لا تتذكر تلك النبرة أبدًا فهي ليست مميزة إطلاقًا.. لا شاذةً تُصيبك بالاشمئزاز ولا رقيقةً تُطرب لها الآذان!

وهناك أخيرًا صوت فريد من نوعه قلّما تجده حاضرًا عند إحداهُن، كأنما صاحبته عجنته بماء الورد في إناءٍ من الذهب الخالص، ثم قامت بتنقيته من النشاز على بضع مراحل، وأضافت إليه قطرات من العسل المصفى، ثم أخيرًا نثرت على وجهه مسحوق السكر الناعم فأصبح حلو المذاق يستلذ به لسانك ويُطرب له قلبك.. فيراودك شعور غريب كأنك تجلس في حفل غنائي كبير، والناس من حولك منصتون جميعًا لسماع صوت الترانيم التي تشدو بها سيدة الغناء الجميلة، ولكن لا يسمع صوتها الحنون إلا أنت، فلا القريب يصله الصوت رغم دُنُوّهِ منها، ولا البعيد يسمع شيئا مهما حاول الإنصات، بينما يصغي إليها فقط من أرادت هي كأنما رمته بسهم قاصدة إياه فلا يصيب إلا صدره فقط.

استدرت إلى صاحبة الصوت فإذ بها غادة حسناء في مقتبل العمر، غضة المنظر كأنها نجم يتلألأ في ليلة حالكة السواد.. من هؤلاء اللاتي تشعر بثقل لسانك عند رؤيتهن، وتعجز تماما أن تنطق بكلمةٍ واحدةٍ رغم محاولاتك المتكررة في التعبير عما يجول بخاطرك.. فتقف مضطرب القلب والعرق يَقْطُرُ من جبينك كالمتهم في حضرة السلطان، فلا أنت قادرٌ على الرحيل كالنحلةِ إذ تتنسم الرحيق، ولا أنت قادرٌ على البقاء دون ارتباك.

فتاة في مقتبل العمر رشيقة القوام لينة العود كأنها غصن أهيف يتمايل بخفة ودلال في يوم ربيعي مبهج، والعواصف العاتية تتلاشاه حين تمر به خشية أن تكسره أو تفسد عليه نضارته.. عيناها كأنهما باقةً من زهر التوليب المتلألئ كلما نظرت إليهما شعرت أن الكون كله ملك لك فازددت فرحةً وسرورًا، وحاجباها كنصل السيف يشيران إليك بالرجوع ويقسمان أن مصيرك الهلاك ولسوف تُثخن بالجراح إذا فكرت أن تقترب.

أما عن شفتاها فكانتا أشبه بضفتي نهر عذب أحلى من العسل، يشتهي الظمآن أن ينهل منهما بلا توقف إلى أن يروي ظمأه ولا يرتوي أبدًا مهما أطال المكوث على شاطئيه.. وإذا نظرت إلى وجنتيها شعرت كأنما أحاطت بك هالة من النور الساطع إما أن تصيبك بالاحتراق إن هي أدبرت، وإذا أقبلت تزيدك بهاءًا كالقمر إذ يستمد نوره من الشمس، وتعيد إليك نضارة الوجه من جديد ولو كنت عجوزًا بلغت من العمر أرذله.. إن مفعول الجمال ﻷشد خطرًا على الإنسان من فعل السحرة والدجالين، نعم إن للجمال لهيبة تجعل السلطان عبدًا واﻷمير صعلوكًا والقائد منقادًا، وتحول الرجل العادي إلى خرقة بالية في يد من أحب!

في غابر اﻷزمان أراد أحدهم أن يختار أجمل النساء، فجُمع الحسناوات كلهن في مدينة واحدة وكان يتوجب عليه أن ينتقي إحداهن في وقت محدد، ولكن اﻷمر كان من الصعوبة بمكان، فمن العسير أن تختار اﻷجمل في مدينة تكتظ بالحِسان والفاتنات، أخذ الرجل يدور يمينًا ويسارًا وكلما وقع بصره على واحدةٍ مِنهُنّ صاح هذه أجمل النساء ثم ما يلبث أن تتراءى له اﻷجمل فيترك هذه ويختار تلك إلى أن نفد الوقت وخرج خالي الوفاض.

أقسم أنه لو كانت فتاتي هناك لاخترتها دون تردد ولَكُنتُ قد ربحت الرهان بلا أدنى شك.

- نعم سيدتي.. ماذا تريدين؟!
أجبت بهذه الكلمات دون وعي مني كأن لساني في وادٍ وعقلي في وادٍ آخر وقلبي في وادٍ بعيدٍ لا أشعر أين ذهب، كأنما انتشله أحدهم في غمرة الزحام على مرأى ومسمعٍ من المحيطين بي ولا أحد منهم يفكر في مطاردة السارق ولم يكن هذا خطأهم بل إنني لم أصرخ بأعلى صوتي أنني سُرقت.. فقد كان صوتي كالعبد الآبق الذي تمرد على سيده وأعلن خضوعه لسلطان الحسن والجمال، وأنا راضيًا كل الرضا بل كنت أبتسم من فرط سعادتي.

- قلتُ لكَ.. أريد الذهاب إلى أقرب محطة مترو هل بإمكانك أن تدلني أم أنك غريب مثلي.. صاحت بها الفتاة في عجل وتهيأت للمضي في طريقها لولا أن هتفتُ.. نعم أعرف بالطبع.

تعلمون أني أكذب.. فرغم بقائي في هذه المدينة منذ فترة ليست بالقصيرة لم أكن أعرف شيئًا عنها ربما بسبب وظيفتي كأستاذ في معمل العلوم كل ما يشغل بالي هو طبيعة التفاعل بين العناصر الكيميائية، أما التفاعل بين البشر فلا يعنيني في شيء، بل إني كثيرًا ما التقيت بأشخاص أحسب أنني أقابلهم لمرة اﻷولى ولكن في حقيقة اﻷمر كنت قد التقيتهم مرارًا من قبل.. كما أن ذاكرتي بالكاد تكفي ﻷن أحفظ مسميات العناصر الفيزيائية وليس بها مكانٍ خالٍ ﻷسماء اﻷزقة والشوارع والمنشآت الهامة أو المطاعم الكبرى في المدينة.. ولكن على أي حال راح لساني يكذب ويقول: أنا أعرف كل شيء في هذه المدينة.. كل شيء من مداخلها ومخارجها وأحفظ كل شبر فيها عن ظهر قلب.. لقد سألتِ الشخص المناسب ياسيدتي الجميلة، بالطبع لم أقل الجميلة تلك فقد أخبرتني ميس نيرمين اليوم أن اﻷنثى ربما تعشق كلمات الإطراء من الرجل ويرق لها قلبها ولكن في الوقت ذاته قد تلكمك في وجهك بعد سماعها كمن يلعق العسل ثم يلقي بالصحن بعيدًا ويتركه يتدحرج على اﻷرض دون اكتراث لحاله، وما كان ﻷستاذٍ مثلي أن يقع في خطأٍ كهذا.

- من فضلك أخبرني فورًا، فليس لديّ وقت للثرثرة.. قالتها الفتاة بنبرة حادة ثم سمعتها تتحدث إلى شخصٍ ما عبر الهاتف قائلة له: لقد تم قبولي في الوظيفة الجديدة، أنا في طريقي إلى المنزل، من فضلك أعدي لي بعض الطعام فأنا جائعة.

من المؤكد أن الشخص الذي كان على الطرف الآخر من المكالمة لم يكن أم الفتاة، إذ ليس من اللباقة أن تطلب الابنة من والدتها إعداد الطعام حتى إن كانت جائعةً بحجم السماء.. حسنًا على أي حال لن أشغل بالي بفنون اللباقة في هذا الوقت، ثم ليس من الجيد أن أجيب على سؤالها هذا بنعم وأنا لا أعرف إجابته! تُرى أي مأزق وضعت فيه نفسي.. اﻷستاذ يُسأل عن شيء ولا يجيب! سأظل طيلة حياتي أشعر بالذنب الشديد سيلاحقني هذا العار أينما ذهبت ولربما تذكرته في كل سؤال يوجهه لي تلامذتي فهل أقول أني لا أعرف الإجابة.. لا لن يحدث ذلك أبدًا ولن أفقد احترامي لنفسي ومكانتي العلمية.. ولكن ما الحل إذن؟ ماذا أفعل للخروج من هذا المأزق بحيلة ذكية.

حسنا لقد وجدتها..

- لا داعي للقلق فأنا أيضًا ذاهب إلى هناك، هكذا أجبتها ثم استوقفت سيارة تاكسي على الفور وفتحت الباب الخلفي كما يفعل الرجل- الجنتلمان- وطلبت منها الركوب سريعًا قائلا: تفضلي ياسيدتي ليس لدينا وقت للثرثرة.

اعتقد أنني كنت في غاية الذكاء لتصرفي هذا، فلو كنتُ عرضت عليها مرافقتي منذ البداية لكان الرفض هو النتيجة الحتمية، ولَكُنتُ قد أضعت هذه الفرصة الثمينة من يدي.. لذا لم أسمح لها أن تقرر شيئًا فالمرأة مثل أي عنصر كيميائي إن لم تضعها في تفاعل دائم طوال الوقت أصابها الخمول ولن تحصل منها على النتيجة المرجوة.. نعم لا تترك لها مجالًا للتفكير هي تعشق هذا وإن تظاهرت بعكس ذلك.

استجابت الفتاة للأمر برغم ما أصابها من الارتباك وأخذت تلاحقني بنظراتها المتعجبة- ماذا يفعل هذا المجنون؟ ولكني تجاهلت ذلك وأخفيت رغبتي الجامحة في مرافقة فتاة بهذا القدر من الجمال، وتظاهرتك بأن مايحدث ليس إلا تصرفًا تلقائيًا لم أقصد منه أبدًا إقحام نفسي في أمر لا يعنيني هو فقط محض صدفة جمعت كلانا في طريق واحد لا أكثر!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي