عندما يبتسم الحظ

- من فضلك توجه إلى أقرب محطة مترو.. هكذا قلت لسائق التاكسي وأنا أمعن النظر في وجهه وأترقب رده بخوف شديد، ففي المرات القليلة التي استخدمت فيها التاكسي كان حظي العثر يوقعني في سائقين جُدُدْ يهيمون في الطرقات كالجمل الشارد لا يعرفون إلى أي وجهة يتجهون بل يعتمدون بالكلية على خبرة (الزبون) إلى أين يتجه، اسم الشارع، أين يقع، في أوله مطعم كذا وفي آخره متجر كذا.. ثم ينهمك الراكب في سرد التفاصيل المملة إلى أن يصل بعد طول عناء إلى المكان الذي يريد.

صمت السائق بضع لحظات فكاد يجن جنوني بينما كنت أفكر في إجابة منطقية إذا باغتني بنفس السؤال: أين تقع محطة المترو هذه.. إلا أنه ولحسن الطالع كان يبدو خبيرًا بطُرُقَات المدينة كالقصاصين الذين يقتفون اﻷثر في الصحراء، ولم تكن تلك النظارة ذات القعر السميك التي تلتصق بوجهه عبثًا بل كانت بمثابة الطفل في صدر أمه العمياء، كلما مر الزمن زاد التصاقه بها فلا هي قادرة على دفعه بعيدًا ولا هو قادرٌ على الاستغناء عنها.

توقف السائق العجوز بعد ثوان معدودة وقال بنبرة تبدو أقرب إلى السخرية: هذه محطة المترو يارجل، ثم رمقني بنظرة ثاقبة وغمغم بكلمات غير مفهومة ظننت منها أنه يلعن الكسل الذي منعنا من أن نقطع هذه المسافة القصيرة سيرًا على اﻷقدام ولسان حاله يقول: ادخر مالك أيها اﻷحمق ولو كان وفيرًا.. فمن الخَبَل أن تنفقه بهذه الطريقة الوقحة في زمن كهذا.

ثم زاد حنقه بعد أن شاهدني أفتش في جيب سترتي وبلغ مني الاضطراب مبلغه وتصبب جبيني عرقا فقد كنت في اﻷسبوع اﻷخير من الشهر، والموظف البسيط في هذا الوقت لا تميزه عن الشحاذين إلا بملابسه اﻷنيقة، ولكن ماقيمة الهندام إذا كانت الجيوب خاوية؟!

وكان الرجل مُحقًا كل الحق فكيف لمثلي أن يستقل سيارة أجرة ولا يملك في جيبه إلا بضع وريقات بالكاد تكفي ﻷن تُبَلّغُه نهاية الشهر أو ربما يضطر للاستدانة من صديق له ريثما يستلم الراتب الجديد.. على أي حال دفعت إليه بعض أوراق النقد التي تبدو وكأنها كانت تعتصر ألما لحالي، ثم مضيت أسارع الخطى إلى محطة المترو برفقة فتاتي الحسناء، ورحت أسألها بكل جرأة على غير عادتي إلى أين أنتِ ذاهبة؟ لا.. لن أسأل ففي هذه الحالة سأكون وفقا للقانون شخص متحرش وستنهال علي الضربات من هنا وهناك إلى أن أسقط أرضًا فاقد للوعي.. وقد كان هذا يوم حظي فقد سمعتها تتحدث إلى ذاك الشخص عبر الهاتف قائلة له: ولكن المسافة من منزلي في "حي المعادي" إلى مقر العمل تبعد كذا وكذا من الوقت، نعم لابد أن يكون الرجل حكيما وفَطِنًا وذو دهاءٍ كبير أضف إلى ذلك ما شئت من عبارات الحذر والحيطة في موقف كهذا فالمرأة بطبيعتها القاسية تشبه سمكة القرش، ما إن تشتم منك رائحة التطفل حتى تتحين الفرصة المناسبة للقضاء عليك.

- أنا أسكن في حي المعادي إذا كنتِ تنوين الذهاب إلى هناك سأجلب تذكرتين أما غير ذلك فلسوف أقول إلى اللقاء.. قلت هذا في لامبالاة كأن الأمر لا يعنيني، فأخذت الفتاة تحدق في وجهي تارة وتنظر إلى شباك التذاكر تارة أخرى.. كان وجهي حسن السمت جميل المُحيا لا توحي ملامحي بأي مظهر من مظاهر القسوة والوحشية أو الرغبة في التطفل، أستاذ يرتدي الزي التقليدي- قميص أبيض وبنطال أسود ورابطة عنق تجمع بين اللونين.. يحمل في يده اليمنى دفتر المعلم وفي يده اليسرى وعاءً به بعض الطعام، أضف إلى هذا كله أنه يصفف شعره بعناية بالغة! وهناك على الجانب الآخر كان الناس يتكالبون على شباك التذاكر بوحشية شديدة كما تتكالب الذئاب على فريستها ما جعلني أبدو الحل المناسب لتجنب هذا الزحام.

نعم يبدو أن الحظ كان يراقب الموقف بطريقته الخاصة فقرر مساندتي في هذا اليوم ﻷول مرة منذ زمن طويل، وكأنه يهمس في أذني غاضبًا: هذه فرصتك اﻷخيرة.. افعل شيئا أيها اﻷحمق.. تخلى عن حيطتك هذه، أخرج من شرنقة الحذر التي تقبع فيها منذ صغرك، تقدم كفارس مغوار لا يهاب النزال فالمرأة تعشق الرجل المقدام الذي لا يتردد في أن يقبض على معصمها بقوة وينتزعها انتزاعًا لا أن يمهلها وقتًا للتفكير فهي في معظم اﻷحوال لا تعرف ماذا تريد!

قلت وأنا أهم بسرعة البرق نحو شباك التذاكر، يبدو أنك تسكنين في نفس مدينتي، سأخوض غِمار المعركة ﻷجلب لنا بطاقتي تذاكر، فقط انتظري هنا لحظة.. ثم حانت مني التفاتة خاطفة إلى الوراء ﻷجدها قد تسمرت في مكانها بتعجب شديد وقد شَبّكَت بين ذراعيها انتظارًا لقدومي.. فما استدرت للجهة اﻷخرى إلا وقد أصبحت أحد المتصارعين حول شباك التذاكر.

- تفضلي سيدتي هذه بطاقتك.. قلتها وأنا أحاول التقاط أنفاسي بعد الانتهاء من هذا الماراثون الطويل.. فارتسمت على وجهها ابتسامة رقيقة كانت بمثابة الضوء اﻷخضر لي كي اقتحم حصونها المنيعة.. في تلك اللحظة شعرت كأنني دمرت أسوار عكا وحطمت حصن بابليون وأحرقت قلاع الإغريق وهزمت جيوش الرومان، فقلت مداعبًا إياها: إنما النساء خُلقن للحب والمرح فَلمَ ترهقن أنفسكن في الكد والعمل إن كنتن لا تحتجن إليه باﻷساس؟

تلاشت الابتسامة سريًعا من على وجهها حتى تمنيت أني لو لم أسألها ثم قالت وقد اغرورقت الدموع في عينيها: ولكن أنا بحاجة إلى العمل.

يالحماقتي.. متى أتوقف عن تقديم النصح بهذه الطريقة الفجة، إنما أردت بحديثي هذا أن أنفخ في جمر اﻷنوثة المتقد بداخلها، أن أشعل النار في عاطفتها الخامدة.. فإذا بها تجتر الحزن واﻷسى، واستدعيت بغبائي هذا مارد الكآبة من أعماقها ولا أدري كيف أصرفه.

- أنا على استعداد للتنازل عن وظيفتي من أجلك سيدتي والتسكع في الطرقات ريثما أحصل على عمل جديد.. أو حتى.. قاطعتني بضحكة غامرة فكأن قلبي عاد ينبض من جديد ثم قالت: أنا من أسرة ميسورة الحال ولكني أعمل من أجلها.

- تُرى من تكون هذه التي جعلت أميرة الحسن والجمال تتدلى من عليائها وتخوض في غمرة الزحام كي توفر لها بعض حاجاتها، لابد أنها تحظى بشرف لا يُضاهى وقدر من الحب لا تشوبه شائبة.. فما الذي يجعل الإنسان يقضي نصف يومه أو باﻷحرى نصف عمره في سبيل إسعاد شخص آخر غير أنه يحبه أكثر مما يحب نفسه.

- إنها جارتي العجوز التي تعاني مرارة الوحدة، لقد أقسمت أن أتكفل برعايتها من حر مالي، فلا أحد يكون له حق المِنّة عليها أو يمنع عنها العطايا متى أراد أو شعر بالضيق والسأم.

- حقا ما أحوجنا للنبلاء وذوو القلوب اللينة في هذا الزمان.. قلت هذا ثم أضفت بدهاء أحسد عليه: حقا إن لكل إنسان من اسمه نصيب.. نعم من المؤكد أن اسمك حنان.. أليس كذلك.

بادرتني بنظرة ثاقبة مثل الشرطي الذي يتفحص شخصًا مشتبه به في موقع الجريمة ثم قالت: لا تتظاهر بالسذاجة، لابد أنك قرأت الاسم من مفكرتي الخاصة.. لا داعي للإنكار.

- إن كان الاسم له قدسية اﻷسرار فما الغاية إذًا من كتابتكِ له في صدر الغلاف.. كانت هذه إجابتي على غير ما أؤمن، نعم أنا على يقين أن الاسم أقدس اﻷسرار وأكثرها شرفًا ورفعة، إنه يُمثّل الجوهرة البراقة التي تتوسط العِقد الثمين، فإذا سقطت توالى سقوط اللآلئ النفيسة من بعده.

في حقيقة اﻷمر أنا لا أتعجب من هؤلاء الذين يقومون بإخفاء كُنية المرأة في بطاقة الزفاف، فكما أن الحجاب يغطي شعر الرأس فالاسم يعد بمثابة الحجاب الذي يستر النفس من أن تلوكها ألسنة الفضوليين.

تقدمتُ إلى اﻷمام وقد استدعيت الحس الفيزيائي ﻷستاذ العلوم، فلم تكن خطوتي تسبق خطاها أو تتأخر عنها قيد أنملة، وأبقيت بمهارة على تلك المسافة التي تفصل بيننا فلا أنا بالبعيد الذي يبدو غريبًا عنها ولا أنا بالقريب الذي يلتصق بجسدها كما يلتصق العابد بسجادته.

- لنمضي سريعًا فالسيدة العجوز بانتظارنا!
تمتمت بهذه الكلمات وأنا أحاول إبعاد الزحام عنها قدر استطاعتي كبائع الورد حين يبالغ في الاعتناء بزهوره ليمنع عنها اﻷذى.

وكأن الحظ قد أراد أن يعتني بنا سويا ولكن بطريقته المفضلة، فقد تطوع اثنان من المراهقين بمكانهما ﻷجلنا فقام اﻷول وقال موجهًا حديثه للفتاة: يمكنك الجلوس هنا سيدتي، ثم تبعه الثاني وهمس في أذني قائلا: تفضل بالجلوس إلى جوار زوجتك يارجل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي