الفصل الثاني

تباعدت الجفون ببطئ عن أعين كحلاء، واسعة، أشتد سوادها وبياضها، فـنظرت للمرآة لتضرب الصدمه عقلها للحظات قبل أن تثرثر في عدم تصديق وهي تتحسس وجهها ذو البشرة البرونزية الجميلة. «لا، لا، لا، لا، مستحيل، لا» تلك فقط الكلمات التي صدرت منها أثناء صدمتها قبل أن يوقظها صوت فتاة صغيرة تصرخ عليها في غضب جليّ على وجهها الجميل:

-أسرعِ يا "فرح" منذ ساعة وأنتِ تقفين أمام المرآة، ماذا تفعلين؟ إن أمي تنتظركِ في السوق لا تتركيها وحدها فلن تستطيع العمل وسط بكاء "زمرد".

-أسفة، لقد شردت قليلاً، حسناً سأذهب الأن، أعتني بنفسك وبأختكِ الصغرى جيداً، أتفقنا؟

لا تعلم كيف ولكنها تتذكر من هذه الفتاة، أنها أختها الصغرى "يشم" وأيضاً الصغيرة "ريحانة" والرضيعه "زمرد" ووالدتهم الجميلة "نجلاء" نِسبةً لعينيها الواسعة ووالدهم الراحل "حَمِيم" تتذكرهم جميعاً، وتتذكر أيضاً منزلهم الصغير، القديم، والذي تآكلت بعض جدرانه لشدة الأمطار شتاءً، ملابسهم القليلة والتي ملئتها الرُقَع، لكن رغم ضيق الحال إلا أنهم سعداء ويضحكن كل ليلة ويحتضن بعضهم البعض للنوم.

وصلت للرقعة التي رتبت عليها الأم منسوجاتها ومشغولاتها اليدوية الجميلة، كانت والدتها تقف مع النساء تعرض لهن الأثواب وقطع الزينة، ربطت "زمرد" البكاءه بقطعة قماش قديمة على ظهرها.

أخذت مكانها إلى جوار أمها وقبلت خدها ثم شرعت في دق مسمارين في أعلى نقطة تصل إليها على كل عمود من الأعمدة الخشبية ثم وصلتهما بحبل متين وعلقت عليه الأثواب فـأتاحت هذه الحيلة للنساء رؤية ما فصلته الأم من أثواب جميلة من الحرير والكتان.

جلست الأم تُرضع "زمرد" وتركت مهمة خدمة الزبائن لـفرح التي عادت لها سعيدة ببيع ثلاثة أثواب من الحرير، أعطتها الأموال وحملت عنها الرضيعة تهدهدهـا لـتهدئ وتنام.

أزدحم السوق بالناس مع أشتداد حرارة الشمس فأنغمست "فرح" وسط الأعمال، من ترتيب المشغولات وخدمة النساء لينتقين من الأثواب أحلاها وأجملها عليهن.

بضع دقائق كونت ساعة أخرى من الوقت الماضي ليمر موكب كبير به الكثير من الخدم والحرس يقفون صفوفاً من أمام وخلف هودج الملكة "ياقوت" فأنحنى كل من في السوق خوفاً من غضبها.

أما هي فكانت تتابعهم من داخل الهودج مبتسمة بسعادة وقد أرضى خوفهم نفسها المريضة.

أثناء تسوقها وقع عينيها على ثلاث فتيات جميلات من بينهن "فرح" والتي كانت مميزة ببشرتها البرونزية وشعرها الكث، المنسدل على طول ظهرها بـلونه الفاحم.

وعندما عادت للقصر أسرعت لغرفتها وخلفها وصيفتها لتسألها في تأدب:
-هل أزعج مولاتي أمر ما أثناء مرورها في السوق، لقد لاحظت غضب مولاتي فـأتسائل هل ستخبرني ملكتنا الجميلة عما يعتلي صدرها؟

وقفت "ياقوت" أمام المرآة في خيلاء وتحسست خدها في إعجاب شديد يصل للمرضي بجمالها الذي بدأ يختفي لـكبر سنها ثم أمسكت بزجاجة من عطر الياسمين ورشت منها على طول رقبتها مستمتعة بكلمات وصيفتها وبداخلها شعور قوي بالاستحقاق.

فهي ترى أنها تستحق أن تكون حديث المدينة بأكملها، وأن تكون المرأة الوحيدة التي تغار منها النساء، والمرأة الوحيدة أيضاً التي يغرم بها الرجال، والمرأة الوحيدة التي تستحق الجمال والسلطة.

ألتفتت إلى وصيفتها لتجيبها بعد الكثير من الوقت الذي أستغرقته في التخيلات والأماني:
-هناك ثلاث فتيات أريدكِ أن تحضريهن للقصر وأنا سأقرر وظائفهن هنا.

-أوامر مولاتي واجبة التنفيذ، هل تسمحي لي بالسؤال عنهن؟ إن أرادت مولاتي تخفيف الأمر على كتفي.

أبتسمت "ياقوت" في سعادة بالغة لتسير في خيلاء وتجلس على سريرها قائله:
-الأولى ابنة بائع الطماطم والثانية تبيع الحبوب والغلال أما الثالثة فهي تبيع المنسوجات اليدوية، أريدهن أمامي صباح الغد.

أنحنت الوصيفة إحتراماً ثم قالت:
-أمراً وطاعة مولاتي.

-هيا غادري أريد النوم.

غادرت الوصيفة لتذهب مع حارسان في عربة ملكية بحثاً عن هؤلاء الفتيات وهي تلعن تلك العجوز، القبيحة، البغيضة.

...

أستيقظ من نومه ونظر حوله في صدمه، لم يكن يفهم ما يحدث وأين هو، نظر عن يمينه فرأى شابًا قوي البدن، نظر إلى جواره فلم يرى أحد فنظر للمرآة مجدداً ورفع يده فأنعكست صورته في المرآة أنتفض عن السرير ولمس وجهه فكذلك فعل إنعكاسه، بدأ يقرص ذراعه عله يكون حُلمًا لكنه لم يكن يحلُم، أخذ وقتاً طويلاً ليفهم ولو قليلاً مما يحدث معه الأن.

ولج إلى المرحاض ليغتسل لكنه وقف قليلاً أمام المرآة ينظر لجسده المصاب بالكثير من آثار الجروح، تلك التي على كتفه أصابه بها قائد جيش مدينة "الدَّلَس"، وتلك التي على صدره عندما حارب أقوى جنود مدينة "لُجَّة"، وتلك آثار طعنات حصل عليها عندما تكاتف عليه مجموعة من "الشراكس".

كان مصدوماً من تلك الذكريات التي تدفقت لعقله بسرعة وكأنها فيلم قصير، أنهى حمامه وخرج ليرتدي الدرع والخوذة ويحمل الترس والسيف الذي كان قديماً ثقيلاً عليه ويرهقه  اليوم هو أعز ما يملك.

ابتسم عندما تذكر كيف كره والده عندما ارسله للحرب وهو ابن السابعه، ضعف جسده وبكاءه لتعبه من حمل السيف الثقيل على ظهره طوال الوقت، لكنه اليوم يشكر والده لما أوصله من قوة الجسد وذكاء وخبرة بالمعارك والحروب.

نزل ليودع عائلته ويركب ظهر جواده، ودع أخوته وأخواته بعناق جماعي ومزاح مقصود ليخفف عنهم، بينما حيّاه والده تحية القادة فتأثر وعانقه وهو يعده بأن يعود منتصراً، وعلى الناحية الاخرى كانت والدته غارقة في دموعها فعانقها ووعدها بأن يعود حياً، منتصراً، وملكاً قوياً تفتخر به فقبلت الملكة كتفه وقالت بصوتٍ تخنقه العبرات:

-أستحلفك بالله الذي لا إله إلا هو أن تحارب بقوة وتتمسك بالحياة وتعود إلى حضني سالماً.

-أعدك يا أمي.

وعدها كما كان يفعل دائماً وقبل جبينها ثم ركب ظهر جواده وركض به حيث أحتشد الجيش وهو يبتسم متذكراً عندما كان في السابعة من عمره وأمر والده أن يحمل سيفه ويذهب للحرب مع الجيش، كيف كانت والدته تبكي وتحتضنه بقوة رافضة إعطاءه لقائد الجيش وتصرخ في الملك تطلب منه أن يمهل صغيرهما بضع أعوام أخرى فلا يزال صغيراً، ضعيفاً، لم يتدرب على القتال وحمل السيف فكيف سيذهب للحرب؟

حينها أجابها والده بجملة لم ينساها قط، أخبرها في هدوء أن الحرب هي التي ستعلمه القتال الحقيقي وأنه سيحارب للإبقاء على حياته.

ثم أشار للقائد فجذبه من حضن أمه التي ظلت تصرخ وتركض خلفه لكن القائد وضعه على فرسه ورفض تسليمه لها وركض الفرس بهما تحت سيطرة القائد نحو موقع تجمع الجنود وصدى صوت صراخ أمه لا يزال يتردد إلى أذنيه كأنه يسمعه الأن.

ألتفت خلفه ليرى القصر الملكي وصورته تتقلص وتبتعد في كل خطوة يخطوها بجواده بعيداً نحو حرب أخرى.

...

-سمو الأميرة، سمو الأميرة أستيقظي رجاءً الملك يسأل عنكِ، سمو الأميرة.

-حسناً، حسناً قادمة.

اتجهت الوصيفة لخزانة الملابس وأخرجت للأميرة فستانً جميلاً من الحرير ذا اللون الوردي، يحد أطرفه من الأكمام طول بسيط من قماش الدانتيل ومزين بالؤلؤ الأبيض، صغير الحجم.

وثبت عن السرير وسارت تجاه المرحاض، بعد بضع دقائق كانت تقف أمام المرآة تساعدها وصيفتها على أرتداء الفستان، لكن عقل الأميرة كان شارداً وظهر هذا في تعلق مقلتيها البُنية على إنعكاس صورتها في المرآة.

كانت تنظر لوجهها في صمت لكن عقلها كان منشغلاً في الكثير من التساؤلات حول كيفية وجودها هنا؟ وعن حقيقة هذا المكان؟ وماذا حدث؟ وأين صديقتها "منة"؟ هل هي فقط التي وقعت في هذا العالم؟.. لقد كانت تظنه حُلمًا وأنها عندما تنام وتستيقظ ستجد نفسها عادت لأرض الواقع، لكن هذا لم يحدث، ولا تعلم هل ستعود أَم أنها علِقَت هنا.

فرّت دمعه من عينها فنظرت لها الوصيفة في قلق:
-ما الأمر سمو الأميرة؟ هل سموك مريضة؟ أ أرسل لطلب الطبيب؟

-لا، لقد تذكرت أمي وأشتقت لمعانقتها.
أجابتها بصوتٍ تخنقه غصة قوية لفراق والدتها، مسحت خديها وتنهدت ثم جلست على الكرسي وتركت شعرها الأمغر لوصيفتها تصففه وتضع به زينة الشعر المناسبة.

-أشعر بما يؤلم قلب سموك فلقد ترعرعت في الدار الذي بناه الملك لرعاية الأيتام، لا أعلم من هم عائلتي، حتى اسمي لقد أطلقته عليّ الملكة عندما أتت لزيارتنا، وقتها كانت حاملاً في مولودها الأول سمو الأمير "يشب"، أقدر ألم فقد الأُم لكن سموك محظوظة فلديكِ الملكة "چوليت" زوجة الملك فهي تتعامل مع سموك والأمير كأنكما أبناءها.

زوجة أبيها، أنها سيدة حنونة وتعاملها بلطف وتحترم أخاها الكبير فهو سيكون الملك، كما أنها تساعده في أتخاذ بعض القرارات.

أرتدت حذاءها وغادرت الغرفة نحو غرفة الطعام تتبعها وصيفتها، ما إن وصلت إلى هناك فتح لها الخادم الباب لتدخل وتشارك العائلة المالكة تناول الفطور وأنتظرتها وذهبت الوصيفة إلى غرفة الوصيفات لتتناول فطورها هي أيضاً.

عندما رأتها الملكة وقفت وفردت ذراعيها فأقتربت منها الأميرة وعانقتها ثم جلست إلى جوارها وألقت السلام عليهم وبدأوا بتناول الطعام.

أنهى الكل طعامه فأتى الخدم كل منهم يحمل صحناً وأبريق مليء بالماء ومنشفه، ووقفوا كل خادم إلى جوار أحد أفراد العائلة يصب له الماء ليغسل يديه، أمسك الملك بالمنشفه ونشف يديه وفمه ثم أنتظر عندما ينتهوا جميعاً، ليوجه كلامه للأميرة عندما رآها أنتهت من تنظيف يديها قائلاً:

-أميرة "أريام".

نظرت له مع ابتسامه جميلة ارتسمت على ثغرها
-نعم أبي.

-لقد أرسل الملك "ضرغام" وزوجته الملكة "أمجاد" يطلبان زواجك من أبنهما
الأمير " أشهب".

وقفت "أريام" وصاحت معترضة في غضب:
-ما الذي تقوله يا أبي بالتأكيد لا أوافق.

وقف الملك وأقترب منها ليمسح على شعرها الأمغر الجميل في حنان قائلاً بنبرة أكثر حنانًا:

-أسمعيني عزيزتي، أنتِ أبنتي الغالية لا أملك سواكِ، لذا لن أقبل بأياً كان أن يكون زوجاً لكِ، أنتِ أصبحتي بعمر الزواج وأنا أرى الأمير "أشهب" أفضل من تقدم للزواج منكِ ولا أرى أفضل منه، فلقد حكم مملكته بعمر الثالثة عشر عندما غادر الملك للحرب، وكان حكمه عادلاً لعامين كاملين، أنا لا أرغمكي على الزواج به لكن فكري عزيزتي.

-لا، لا أوافق وأنتهى الأمر.

غادرت في غضب فلحق بها أخيها قائلاً في سخرية:
-تريدين الحكم؟

ضحك ساخراً ثم أسترسل:
-لا سلطة لأميرة في الحكم إلا بزوجاً يكون ملكاً.

-بل سأكون ملكة هذه البلاد، أخي.

قالتها في حزم وغضب ثم عادت لأبيها وفتحت الباب على مصراعيه صائحة:
-أرسل لذلك الأشهب وأخبره بموافقتي وليتعجل في أمور الزفاف.

وقف الملك وهرول إلى ابنته في سعادة ليحتضن وجهها بكفيه ويقبل جبينها داعياً لها أن يتمم الله زواجها على خير ويكون زواجاً سعيداً وأن يحظى بأحفاد قريباً.

خجلت "أريام" وتركت والدها وركضت نحو غرفتها وهي تلعن غباءها فهذا زواج وليس لُعبة، ما الذي أوقعت نفسها به.

أحتضنت الوسادة وصرخت بها بقوة وهي تلعن أخاها الذي لعب بعقلها وجعلها توافق بل وتتعجل الزواج، يالحماقتها.

...

لم يشغله أنه أصبح مكان الشخصية وأنه ربما لن يعود للواقع ولعائلته الحقيقية مجدداً بل فضَّل الاستمتاع بما هو فيه الأن، أرتدى قبعة كبيرة وتسلل في الظلام ليقف أسفل شجرة كبيرة أمام شرفة الأميرة "بيداء"، تابعها لوقت طويل وهي تقف ساكنه تنظر للسماء ودموعها تنساب في صمت على خديها.

جلس أسفل الشجرة وأسند ظهره إليها وهو يتذكر تلك الجميلة عندما أتت إلى هذا القصر للمرة الأولى وعندما أخذت لقب الأميرة، وخاصة في الأسبوع الأول الذي مر عليها داخل القصر.

كانت تركض بقوة في حديقة القصر وهي تبكي وتنوح أثناء تنقلها من شجرة لأخرى علها تجد واحده تتمكن من تسلقها وتخرج من القصر لترى أصدقاءها مجدداً وتلعب معهم بالسيوف الخشبية بعيداً عن الفساتين الملكية وحفلات الشاي.

رآها وهي تحاول تمزيق فستانها لتتسلق الشجرة لكن يدها الصغيرة لم تستطع فجلست أرضاً تبكي فأقترب منها وفي يده خصن شجرة صغير ثم جلس إلى جوارها وسألها في فضول:

-من أنتِ؟

مسحت أنفها بظهر يدها ونظرت له قليلاً ثم سألته:
-هل أنت أمير؟

ضحك بقوة وأجابها في سخرية:
-نعم، أمير في عين أمي فقط.

-لم أفهم.

لم تكن الصغيرة تفهم ما يرمي له ذلك الفتى، فمسح الفتى كفه في ثيابه ومد يده إليها قائلاً:

-اسمي "شهاب" وأنتِ؟

صافحته الصغيرة وقد زين وجهها ابتسامه جميلة مجيبة:
-وأنا "بيداء"، هل نحن أصدقاء الأن؟

سألت في خجل فابتسم" شهاب" وأعطاها الخصن الذي يملكه
-بالطبع.

ثم جذبها نحو الأسطبل لترى الخيول الجميلة وتلعب معهم، كانت صغيرة في ذلك الوقت ولا يتخيل مرور ثمانيّ أعوام منذ أول لقاء لهما، لقد كان الأمير "أشهب" يرفض صداقتهما دائماً ويأتي لأخذ الأميرة منه قائلاً لها:

-أنتِ أميرة جميلة لا يصح أبداً أن تلعب الأميرة بأغصان الشجر والقش.

ولأن "بيداء" كانت تحترم الأمير كانت تطيع أمره لكن في الأسبوع التالي تكرر هروبها إلى الأسطبل لتلعب بالأغصان والقش مع "شهاب".

ابتسم عندما تذكر هروبهما لأول مره خارج أسوار القصر على مهره بيضاء جميلة أسفل ضوء القمر محققاً لها أمنيتها في عيد مولدها السادس عشر، في ذلك اليوم أعترف لها بحبه فأخبرته على استحياء أنها أيضاً تشعر بمشاعر حب تجاهه وركضت بعيداً عنه نحو المهره لتهرب من حصار عينيه الحوراء، وعندما عادا للقصر زرعا تلك الشجرة لتكون ذكرى لذلك اليوم.

ازدادت ابتسامته إتساعاً فغادر نحو الأسطبل وهو ينتظر حلول الصباح لضرب المزيد من المسامير في نعش العائلة الحاكمة. 

...

أختفت الإضاءه تدريجياً لتجد نفسها في فستان ملكي جميل لا يليق إلا بأميرة، كانت تقف في شرفة غرفتها تنظر للسماء الملبده بالغيوم لوقت طويل، شعور الضيق والحزن لا يفارقاها، تلك الذكريات التي تتدفق إلى رأسها تخنقها بقوة، كم كانت تتمنى لو كانت طيراً حراً يحلق عالياً كما يشاء، لو كانت فتاة عادية تختار الرجل الذي أحبت أن يكون زوجها،  تتذكر ذلك اليوم وكيف كانت سعيدة بلقب الأميرة كالخرقاء.

ذلك اليوم كانت تلعب في الشارع مع أبناء الحي، ممسكه بسيف خشبي صغير تتوهم بأنه سيف حقيقي من حديد وغمد ذهبي مرصع بالجواهر الثمينة معلق بخصرها وبأنها محاربة قوية تحمي مملكتها، كانت تتقاتل مع أبناء الحي وهي تصرخ فيهم بصوتها الرقيق:

-تباً لكم أيها الجبناء.

رد عليها أكبر هؤلاء الفتيان في غضب جليّ على وجهه:

-سأقتلك أيتها القصيرة اللعينة.

صوت البوق العالي جعلهم جميعاً يرمون سيوفهم ويركضون إلى أسطح البيوت ليرو موكب الملكة وهو يمر إلى البحيرة، إلا هي، لم تترك سيفها ولم تركض إلى بيتها لترى الموكب فقط بل هي تحلم دوماً برؤية الملكة وستراها اليوم.

ركضت بأعلى سرعة لديها وأندست بين الزحام، لكن الموكب كان سريعاً وتدافع الناس يبطئ حركتها فأسرعت نحو البحيرة لتتمكن من رؤيتها هناك.

ما إن وصلت إلى هناك ورأت الملكة تنزل من هودجها لم تسيطر على إنفعالاتها وركضت نحوها وهي تصرخ في سعادة فألتف الحراس حول الملكة وصوبوا السيوف نحوها ظناً منهم أن ذلك الصراخ لشخص يحاول قتل الملكة لكن تلك القصيرة الصغيرة جعلتهم يتسمرون في حيرة من أمرهم.

عندما رأتهم الفتاة يصوبون أسلحتهم نحوها رفعت هي الأخرى سيفها الخشبي وزمجرت في حدة كأنها تخبرهم أنها خصم شرس.

نظرت الملكة لما ينظرون إليه فصدمها ذلك الجمال الناعم خلف تلك الملامح الشرسه البريئة، تلك الصغيرة بشعرها الأشقر المنسدل على طول ظهرها وعيناها الزرقاء، كأنها لوحة لفنان أصابه الجنون بالجمال فرسم تلك الملاك الصغيرة لتظل دليلاً على جنونه.

رأتها الفتاة لتتسمر مكانها في ذهول وسعادة كبيرة بدت في أبتسامتها الواسعة وصراخها:

-يا إلهي أنتِ جميلة جداً! أريد أن أكون مثلكِ.

ضحكت الملكة على عفويتها وسارت نحوها فأبتعد الحرس وأصطفوا على جانبي الملكة كل مجموعة تنظر إلى طريق لتتأكد من بقاء الملكة في أمان.

جلست الملكة القرفصاء أمام الفتاة ومسحت خدها قائله:
-لكنكِ جميلة أيضاً.

-حقاً!
قالتها الفتاة بسرعة وفرحة جعلت الملكة تضحك وتمسح على شعرها مجيبة في حنان بالغ:

-نعم يا صغيرتي أنتِ أية في الجمال.

عانقتها الفتاة بقوة وصرّحت بحبها للملكة في صرخة عفوية فضحكت الملكة وأخبرتها أنها تحبها أيضاً ثم سألتها عن اسمها وعائلتها فأجابت الصغيرة بسرعة:

-اسمي "بيداء"، في التاسعة من عمري، أبي يعمل حداداً وأمي تهتم بأخوتي الصغار طوال اليوم، أملك صديقين وصديقة هم "علي" و "عمرو" أبناء العم "مصطفى" الذي يملك حانوت لبيع السمك و "سارة" صديقتي ابنة العم "بكر" يعمل في حانوت العم "طه" للأعشاب، نسكن في الحي الثالث قُرب السوق.

ابتسمت الملكة وحملتها ووضعتها داخل الهودج وأخذتها معها إلى القصر الملكي وأرسلت جندي مع ثلاثة أحصنه ليحضر والدي "بيداء".

أجتمعت الأسرة بالملكة التي كانت تجلس على عرشها وتضع "بيداء" في الكرسي المجاور لها مرتديه فستاناً جميلاً، سألتهم عن أحوالهم وعدد أفراد عائلتهم ثم أخبرتهم بقرارها الذي صدمهم:

-لقد قررت إعطاء "بيداء" لقب أميرة وستعيش من اليوم داخل القصر وسط الأمراء والملوك.

سقطت الأم على ركبتيها وصرخت بقوة رافضة ذلك اللقب:
-إنها ابنتي أنا وأنا أمها لا أريدها أن تبتعد عني.

ركضت الفتاة نحو أمها فأحتضنتها الأم بقوة إليها وقبلتها قبلات عديدة، وقفت الملكة وأقتربت منهم لتجيبها:

-إنها ابنتكِ ولن ينكر أحد هذا ويمكنكِ زيارتها متى تشاءين لن يمنعكِ أحد.

أحتضن الأب زوجته ليهدئها وهمس إليها:
-هذا أفضل لها، دعيها في رعاية الملكة هكذا سيكون لها مستقبل مشرق.

بكت الأم كثيراً قبل أن تمسك يد صغيرتها وتضعها في يد الملكة قائله:
-هذه فلذة قلبي، أسلمكِ أياها، رجاءً أحسني إليها.

دخلت إلى غرفتها وألقت جسدها على السرير، ذلك اليوم لم تفكر في شيء إلا أنها أصبحت أميرة حقيقية، كم كانت غبية.

...

داهمه كابوس أثناء نومه فأستيقظ وقلبه يدق كطبول الحرب، تلك الذكريات، يكرهها بشدة، هذه ليست ذكرياته فهو لم يعيش في هذا الزمان، لكنه يشعر بتلك الذكريات كأنها حدث بالأمس، يسمع صراخ النساء ويرى دموع أمه وهي تحتضن الدرع التي لم تجف حتى أصابها العمى ورحلت هي أيضاً، وصدمة أخاه التي أصابته بعجز في رجله اليمنى حتى الأن.

أختنق صدره فترك عيناه تبكي وتفيض بالدموع، فتلك الذكريات تؤلمه بشدة حتى وإن كانت ليست له، دلف إلى المرحاض ونظر لوجهه في تلك المرآة الصغيرة، ليس وجهه بل وجه ذلك المحارب الذي أختاره، لم يتخيل أن يكون ماضي هذه الشخصية بذلك القسوة وأنه سيكون مكانها ويشعر بالألم الذي يحمله في قلبه.

أبحر به عقله بين الذكريات في ذلك اليوم المشؤوم عندما أيقظه أخاه الكبير ليغتسل ويتناول معهم الغداء، وقتها عندما خرج لردهة منزلهم الصغير وجد المنزل مرتباً ونظيفاً وأخاه ووالدتهم يرتدون أفضل ثيابهم والمنزل يملئة رائحة الريحان التي يحبها أباه.

وقف على أصابع قدميه وهمس إلى أخيه متسائلاً:
-هل سيأتي أبي الليلة؟

لف الأخ ذراعه على رقبة أخيه الصغير وأجابه في سعادة:
-نعم يا حمزة، سيصل والدنا اليوم بإذن الله.

صرخ "حمزة"  في بهجة ملأت المنزل بأكمله ورقصت في قلوبهم فرحة بوصول الحبيب إلى أرض الوطن، حل مساء ذلك اليوم فخرجت كل أسرة من بيتها تستقبل أباً أو أخاً أو ابناً أو زوجاً أتى من الحرب.

وقف الجميع يتابع القوارب وهي تجدف نحو شاطئ القرية، قارب تلو الآخر يفرغ من به ولا يزال الوالد لم يظهر، بدأ الصراخ وبكاء النساء يتزايد ويكثر فعدد الناجين كان تقريباً نصف رجال القرية مما يعني أن النصف الأخر قد قُتِل في الحرب، حتى أجسادهم دُفِنت هناك في أرض لا يعرفون فيها حبيب ولا يعرفهم ترابها.

نزل صديق والدهم والذي كان يبحث بعينيه المليئة بالدموع عنهم قبل أن يبحث عن أهل بيته ليؤدي الأمانة إلى أصحابها، رآى درع أبيه وسيفه بين يدي صديقه الذي أقترب منهم في حزن مطأطأً رأسه:

-إنا لله وإنا إليه راجعون.

صرخت الأم وأنتشلت الدرع الغارق بدماء زوجها تحتضنه بقوة كأنها تحتضن جثمان أبيهم ومع صرختها كأنها قادت نار الحزن في قلب نساء القرية فصرخت منهن من فقدت عزيزاً عليها وبكت من كان رجلها من الناجين حزناً على هؤلاء النساء. 

يتذكر جيداً وقتها سقط أخاه أرضاً من صدمته وعندما أستيقظ كان عاجزاً لا يقدر على تحريك قدمه اليمنى وأصبح يستند إلى عكازاً كعجائز القرية.

وموت والدته الذي دخل عليها عندما عاد من المدينة ليوقظها ويفاجأها بقدومه ففاجأته هي برحيلها الصامت وهي تحتضن درع والده كأنه أتى ليصطحبها معه تاركاً حزناً جديداً في قلب ولداه.

ضاق صدره فصرخ بقوة وأنتحب على فراقهما، هرول إليه أخاه وهو يتكأ على عكازه وعندما رآه في هذا الضعف أحتضنه بقوة وربت على ظهره مواسياً:

-لقد ذهبا، أدعو لهما بالرحمة ولا تحزنهما على حالك يا أخي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي