الفصل الث

أحمد،

كان هناك صديقة مشتركه بيني وبين نادرة تدعى رشا، بحثت عنها حتى أجدها وطلبت منها رقم نادرة لاطمئن عليها، لكنها رفضت وقالت علي أن أخبرها أولا أنك تريد رقمها وإن وافقت أعطيك الرقم.

تفهمت تحفظها وتحفظ نادرة، و قلت إذا كنتي لا ترغبين بإخباري بالرقم فأرجو منك أن تتصلي بها لنطمئن عليها.

ابتعدت رشا لمسافة قليلة بحيث لا أستطيع سماعها، تحدثت مع نادرة ثم دلفت لي، وقالت نادرة بخير لكنها بزيارة ابنة عمها ولن تأتي اليوم إلى الجامعة.

_وهل أخبرتك ماذا جرى مع ابنة عمها؟
_تقول أن زوجها أعتقل في طريق العودة من لبنان من صهيب الخليل؟!

كان أكثر خبر صادم بالنسبة لي، فإنني على معرفة وثيقة بصهيب، فهو يقطن في حينا ومن أكثر الشخصيات المسالمة والمحبة للخير التي تعرفت عليها، وكل سكان الحي يشهدون له بالخير.

بعدما سمعت خبر اعتقاله قررت العودة للبيت، فلا مزاج لي اليوم بحضور المحاضرات، همست في خلجات نفسي أعانك الله يا صهيب ونجاك في أسرع وقت.

نادرة،

كنت أعلم خير المعرفة بكمية المحبة بين صهيب وحسناء، فقد دب خلاف كبير بين العائلتين من أجل زواجهما.

زوجة عمي لا ترغب بصهيب وتريد أن تزوج حسناء بشاب غني، وأم صهيب لا ترغب بحسناء وتريد أن تزوج صهيب بابنة أختها.

لكن حسناء وصهيب تمسكا ببعضهما كثيرا وقد توج زواجهما بعد سنتين بورد ودعاء، وعلى الرغم من الأحوال الإقتصادية الصعبة على الجميع، إلا أن صهيب لم يبخل يوم بإن يقدم لهم أفضل ما لديه حاله حال أي أب.

لذلك غياب صهيب ولأول مرة ترك فراغ كبير في حياة حسناء، فراغ لم تستطع تجاوزه بسهولة.

وقررت في اليوم الثاني أن أتصل بزوجة عمي، وأخبرتها أن تأتي وتقف بجانب حسناء فهي الأن بأمس الحاجة لها وأكثر من أي وقت مضى.

خرجت حسناء من الغرفة وهي تبكي، قالت يجب علي الذهاب للبيت لأحضر حقائب السفر، أمي حجزت لي في الغد مع شوفير خاص ليقلني إلى لبنان.

أرجوك يا امرأة عمي إن عاد صهيب أخبروه أنني لم أرغب في تركه والسفر، لكن أهلي أصروا على قدومي.

تقدمت إليها، حبيبتي حسناء نحنا لا نعرف الخير في حياتنا أين ومتى وفي أي شيء؟ قد نظن أنفسنا اليوم في محنة لكنها تكون منحة.

ومن المؤكد أن صهيب سيتفهم موفقك، إن شاء الله يخرج في القريب العاجل ويوافيك في لبنان.

سافرت حسناء وتركت فراغ كبير مكانها، لعله الخير في حقها وحق أطفالها، ومن المؤكد أن عمي وزوجة عمي لن يتركاها لوحدها في هذه المصيبة.

قررت الذهاب إلى الجامعة على أمل أن أغير القليل من نفسيتي، عندها وجدت أحمد قد جلس على مقعدي المعتاد في الحديقة، دلفت إلى المقهى وأحضرت كوبين من القهوة ثم توجهت إليه.

_صباح الخير، اليوم أنا من أحضرت القهوة، شعرت أنني بحاجة إلى التحدث مع أحد وأنت أفضل من يتقن فن السماع.
_يا صباح الخيرات، كيف حالك اليوم؟ ماهي أخبارحسناء وصهيب؟ هل من جديد؟
_لا جديد مع الأسف، حتى والد صهيب لم يترك باب لم يطرقه وعمي كذلك الأمر، والإجابة واحدة لم نراه ولا نعرف عنه شيئا.

وكما تعرف أن الداخل إلى هناك مفقود والخارج مولود، وحسناء المسكينة دمعتها لم تجف وقد سافرت إلى لبنان، وهي الآن مقيمة مع بيت عمها، رفضت أن تعيش مع أهلها ليبقى أطفالها بالقرب من بيت جدهم أهل والدهم، يعوضونهم ولو قليل عن فقدان صهيب.

كان الله في عونها وعون والدة صهيب، أنا أعرف أنها حاولت معه كثيرا في أخر زيارة أن يبقى معهم في لبنان لكنه رفض رفضا قاطعا، ليعود إلى مصيره المحتم، لكن يبقى كله بأمر الله وقضاءه.

أحمد،

طلبت هاتفها لكي أجري اتصال مع صديقي المزعوم، فقد وعدني أن يأتي لكنه تأخر وهاتفي قد انتهى شحنه.

قالت: بالطبع تفضل، مشكلة الكهرباء والشحن لا أعرف متى سنتخلص منها؟
طلبت الرقم لكنه لم يجب أعطيتها الهاتف مجددا وقلت شكرا لك لكنه لم يجب.

نادرة،

بعد أن خرجنا من المحاضرة رن هاتفي لأجد المتصل نفس الرقم الذي طلبه أحمد، قلت في نفسي سوف أجيب وأخبره أن أحمد ذهب للقائه

_ الو
_الو، كيف حالك؟ نادرة هذا أنا أحمد أعتذر منك لحصولي على رقمك هكذا لكن لم تتركي لي مجال غير هذه الطريقة بعد رفضك المتكرر بحصولي على رقمك.

تفاجئت من موقف أحمد فهو لم يكن يوما بهذه الجرأة.

طلبت من أحمد أن يتفهمني فأنا لا أحب أن أخون ثقة والدتي بي، صحيح نحنا زملاء في نفس الكلية وأكن له الكثير من الاحترام، ونحنا جيران أيضا منذ الطفولة.

لكن رقمي من ضمن خصوصياتي التي لا أحب أن يتطفل أحد عليها.

أعتذر مني مرة أخرى، ووعدني أن يحفظ الرقم فقط ولن يعاود الاتصال بي، وطلب مني أن أحفظ رقمه تحسبا لأي طارئ ثم أغلق.

تراكمت علي الكثير من المحاضرات، كانت مشكلة حسناء قد استحوذت على كل تفكيري وطاقتي، لذلك قررت ألا أذهب للجامعة اليوم، وأن أقضي اليوم في دراسة ما تراكم علي.

مواد السنة الثالثة صعبة وهي بحاجة لمتابعة كل يوم، وكما يقولون السنة الثالثة مقبرة الطلاب، لم يحصل أنني حملت مادة معي إلى السنة التي بعدها، وحتى هذه السنة لن أضيع وقتي وسأبذل قصارى جهدي لأرفع جميع موادي.

ومنذ الصباح الباكر قضيت وقتي كله في الدراسة، لكنني شعرت أن عقلي يكلمني ولسان حاله يقول أنا الأن رفعت الراية البيضاء، لا أستطيع أن أستمر أكثر.

ذهبت إلى المطبخ لأصنع كوب من القهوة فهي صديقة أوقاتي والمرافق لي في جميع مراحل دراستي.

في كل مرة ارتشف منها الرشفة الأولى وأظن أنني لن أتذوق بعذوبة طعمها، لكن اتفاجئ أنها في المرة القادمة ألذ وأطيب.

تشابهت قهوتي وأيامي بالذة والمرارة والإدمان، تلك السمراء تأتي جاذبيتها أولا من رائحتها، ثم من مرارتها، ثم من الذكريات التي تصنعها في ذاكرتنا.

وضعت كوب القهوة أمامي وبجانبه قطعة من الحلوى قد صنعتها أمي في الأمس، أعجبت بكثافة وجهها فقررت أن التقط صورة لها في هاتفي، أضعها على حالتي في الواتساب وأكتب تحتها ( استراحة محارب).

نظرة لأجد حنان أول من يشاهد حالتي، دلفت وهي تقول استراحة محارب؟!
من يقرأ كلماتك يا أختي يظن أنك تحملين السيف والترس وتقاتلين على الجبهات كل اليوم، أحضرت فنجان من القهوة وجلست جواري.

ومن قال أن المحارب يحتاج سلاح مثل السيف أو الترس أو حتى الأسلحة النارية يا حنان؟ كل منا محارب في حياته اليومية.

فأنا محاربة في كلية الحقوق، وأنت محاربة في كلية الأداب، وأمي محاربة في تربيتنا، لكل منا حربه الخاصة يا أختي العزيزة.

نظرت لي بنظرة شك وريبة ثم قالت فعلا كل الحق معك والأهم حربي في كلية الأداب تلك، صحيح على ذكر أمي أين هي؟

لقد ذهبت لزيارة أم أحمد، لعلها لن تتأخر بعد قليل ستعود.

_نادرة سمعتي بالرحلة التي ستقام في جامعتنا إلى الغابه الإسبوع القادم؟
_لم أسمع والأمر لا يهمني فأنت تعرفين أن لا طاقة لأمي بتحمل أعباء الرحلات، فراتبها وراتب والدي التقاعدي لا يسدان رقمنا لنهاية الشهر.

_أرجوك يا نادرة أرغب وبشدة الذهاب، أرجوك اقنعي أمي بأن نذهب فقط هذه المرة، فجميع أصدقائي سيذهبون، وهذه السنة الأولى لي في الجامعة، فقد هذه المرة ولن أطلب من أمي شيء بعدها إلى نهاية العام.


فكرت كثيرا حتى أنا لم أذهب ولا مرة في حياتي الجامعية في رحلة، وقد كان أملي كل سنة أن يكون العام القادم أفضل لكي أطلب من أمي الذهاب.

توجهت لحنان بالسؤال، هل معك مال قد أدخرته من مصروفك الجامعي؟

_نعم نصف المبلغ المطلوب للتسجيل في الرحلة.
_وأنا لدي نصف المبلغ أعطيك إياه وتذهبين لوحدك مع أصدقائك.

_لو وددت الذهاب لوحدي لما كنت أخبرتك لكني أريد أن تذهبي معي، فهذه الفرصة لا تعوض أرجوك.
_سنخبر أمي أولا لنرى ردت فعلها ولو رفضت فلن أذهب على بعد ميل واحد.

_أنا موافقة، آمل أن توافق لكنها لم تمانع لو طلبي أنت ذلك، فأنا أعرفها حق المعرفة.

عادت أمي من زيارة أم أحمد فقد كانت على معرفة بها منذ كنا أطفال، فوالدي ووالد أحمد قد درسا سويا في الجامعة وكانا أولاد حي واحد، أم أحمد على قدر من الاحترام لم أراه من غيرها.

الحزن قد أخذ نصيبه من وجه أمي؟ هل الخالة أم أحمد متعبة إلى هذا الحد؟

قالت كان الله في عونها، فالمريض لا يشتهي غير الصحة والصحيح يشتهي كل شيء، صحتها تتراجع إلى الوراء فقد كانت تغسل الكلى كل خمس عشرة يوما أما الآن فهي تغسل يومين في الإسبوع.

اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيها، فذكرها العطر يجعل كل من يسمع بمرضها يدعو لها.

أمي كنت أريدأن أطلب منك أمر مع أنني لاأجده الوقت المناسب، نظمت جامعتنا رحلة إلى الغابة وأنا وحنان نريد أن ننضمن لها.

كما تعرفين هذه السنة الأولى لحنان ولا أرغب بذهابها لوحدها، فهل تسمحين لنا بالذهاب؟

تفاجئت من ردها قولي الصدق هل هذه أفكارك أم أفكار حنان؟ لم تذكري لي رحلة على مر ثلاث سنوات الماضية.

أعترفت إنها فكرت حنان ولا أكذب القول،لكنني أوافقها الرأي هذه المرة، كنت أتمنى أن أذهب دائما ولكن أؤجل الأمر ليتحسن وضعنا ووضع البلد.

أرى الأمر طال أكثر مما كنت أتوقع ومعظم الناس قد تأقلمت على هذا الحال، وأن كان العائق مادي فأنا وحنان قد ادخرنا بعض من المال ونحتاج للقليل منك ، إن كنت لا تمانعين بذهابنا طبعا.

جاء رد أمي إذا كان الأمر كذلك فإني موافقة، أستودعكم عند الله الذي لا تضيع ودائعه.

قفزت حنان من الفرحة، نظرت إليها أمي وقالت ماذا دهاها المجنونة؟

كان أحمد ينتظرنا عند موقف الباص هذه المرة، لقد تأخرنا يا فتيات هيا بسرعة، كل يوم يتكرر سيناريو الفوضى والازدحام والقتال من أجل الحصول على مكان في الباص.

ما إن دلفنا إلى الجامعة وكنا نسير في الممر إلى مدرج المحاضرة حتى سألني أحمد.

هل ستذهبين في الرحلة التي تقام الإسبوع القادم؟ أم أنك لن تذهبين مثل كل سنة؟

أجبته سأذهب فقد تحدثنا مع أمي مساء الأمس وأقنعتها بذهابنا أنا وحنان، وهل ستحضر أنت؟

أخبرني أنه سيحضر وأنه ينتظر هذه الرحلة منذ زمن طويل.

دخلنا إلى مدرج المحاضرة، دلفت إلى المقعد الثاني فأنا أحب أن أجلس في الأمام لأفهم المحاضرة أكثر ودلف أحمد إلى جواري مع أنه يفضل المقاعد الأخيرة.

هو لا ينتبه إلى المحاضرات ودائما ما يبقى شارد الذهن ويرسم في دفتره مع ذلك فهو يحصل على درجات تكون أعلى من درجاتي في بعض الأحيان.

استغرب وجوده في كلية الحقوق، فهو يحب الرسم ويبدع من خطوط صغيرة أجمل اللوحات، كيف لم يدخل معهد الرسم لينمي موهبته ويعمل بمجال يحبه؟

أحمد،

كنت دائما أجلس بجوارها استرق النظر إليها وهي تستمع بكل حواسها للدكتور الذي يلقي المحاضرة، لا ترفع عينيها عنه وعن كتابة الملاحظات.

وددت كثيرا أن أكون مكان الدكتور وألقي أنا المحاضرة لكي تنظر إلي بهذا التمعن.

ففي بعض الأحيان أظنها عمياء، أو أنها تحب التجاهل فلا أذكر أن عينيها التقت بعيني مرة واحدة، كانت على قدر كبير من الحياء وهذا أيضا شيء يميزها بالنسبة لي.

أنا رجل شرقي يغار على أنثاه فهذه سنتها الثالثة ولم أصادفها تتحدث مع زميل واحد في دفعتنا، أنا الوحيد الذي كنت على معرفة وثيقة بها بحكم أننا جيران.

بالمقابل لا أكاد أجزم إنها على معرفة بكل فتيات الدفعة، بل بكل فتيات الجامعة ومن كل التخصصات.

نادرة،

مرالأسبوع على عجل، فقد كنا مشغولين بالتحضيرات للرحلة أحيانا وبالدراسة أحيانا أخرى.

جهزت للرحلة فستان بنفسجي اللون  مع حجاب زهري بلوني المفضل.

مع أنني قليل ما أرتدي الفساتين ذات الأكمام ودائما ما أفضل التي بدون أكمام مع جاكيت قصير فوقها، لكنه هذه المرة لفت انتباهي كان رائع التصميم فهو مزيج بين البساطة والأناقة.

وأما حنان فقد جهزت بنطال جنز ومع جاكيت خفيف مطرز الأكمام.

صحيح أنها لا ترتدي الحجاب لكن لباسها دائما محتشم يوحي لك بمقدار تربيتها الحسنة، هي تقول أنها سترتدي الحجاب لكن بعد أن تكون جاهزة ومقتنعة فيه.

أحمد،

كنت كل اليوم أرتب الكلمات في رأسي كيف سأخبرنادرة بحبي لها.

هل سأطلب منها أن نرتبط إلى مابعد السنة الثالثة أم إلى ما بعد التخرج؟
هل أعترف لها بحبي على مسامع أصدقائنا أم نكون لوحدنا؟

هل يا ترى تحب الأجواء الرومانسية والمفاجئات أم أنها تفضل الحديث السهل المباشر؟

لقد أقلقتني كثرت التفكير وهرب النوم من عيني، ماذا لو رفضت حبي لها؟ كيف سأواجه الصدمة، لا أعرف كيف غفوت بعد أن ظهرت الخطوط الأولى  للفجر.

لن أذهب اليوم للجامعة فأمي لديها موعد لغسل الكلى، أخي مرهف يرفض مرافقتها بحجة أنه يكره المشافي ورائحتها.

سأظل أسعى جاهدا حتى تشفى أو أجد متبرع لكي أريحها من هذا العذاب.

فألمها ينخر في قلبي  يشعرني بعجزي أمامها، ليتني أنا المريض وهي المعافاة فأنا شاب وجسمي يتحمل، أما جسمها النحيل فقد أضناه الألم ووضع المحاليل والحقن.

تذكرت نادرة سأشتاق  لها اليوم، لكنني سأرها في الغد في موعد الرحلة وهذا ما كان يصبرني.

أوقفت سيارة أجرة لكي نصل للبيت بسرعة، يوم غسيل الكلى يكون شاق ومتعب، كانت أمي مثل كل مرة منهكة، أنزلتها من السيارة دفعت الحساب وتوجهت بها إلى البيت.

كان مرهف يقف أمام الباب على غير عادته، تقدم مسرعا ووضع يدها على كتفه لكي تستند عليه.

كانت هناك طرف دمعة لاحت في عينيه، كان هذا غريب بالنسبة لنا لا أذكر أنه تصرف هكذا في حياته، إنها بوادر الخير الذي سيخرج منه.

انطلقنا إلى الداخل ولسان حال أمي يقول اللهم وفق ولداي لما تحب وترضى، اللهم أرضى عنهما أينما توجها.

كنت متعب كثيرا وحالي ليس بالحال الجيد فقد أرهقني السهر وموعد المستشفى.

توجهت إلى غرفتي بعد الإطمئنان على والدتي، أخبرني مرهف أنه لن يتركها وحدها، استلقيت على السرير حتى قبل أن أبدل ملابسي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي