2

استيقظت نيلسي لتجد أنها تجلس على غصن إحدى الأشجار الضخمة، فتنهدت بضيق شديد وهي تمسح على وجهها مزيلة آثار النعاس:

"هذه هي المرة العاشرة التي أجد نفسي فوق جذوع الأشجار الشاهقة، هل كان ذلك الكاتب يروي قصة عن القردة أم عن البشر؟!"

حركت نيلسي يديها بانفعال فكادت تسقط لكنها تشبثت في إحدى فروع الشجرة، وضعت يدها على فؤادها وتنهدت براحة وهي تقول:

"يا إلهي لقد كدت أحطم رأسي بسبب عادات تلك النيلسي، لم دائما أجد نفسي فجأة إما فوق الأشجار أو تحت مياه البحيرة؟؟!"

ثم وقع نظرها على ذلك قصر الكبير، فقالت ساخرة:

"من يراه من الخارج بلونه الأبيض الزاهي وزخارفه الذهبية يتمنى أن يكون من سكانه، وهم غير مدركين لمدى السواد الذي يسكن أفئدة عُماره."

جلست باعتدال من جديد، لتلاحظ ثيابها فأمسكتها بأطارف أصابعها وهي تقول مستغربة:

"حقاً، هل يمزحون معي أم ماذا؟! لم أنا أرتدي نفس ذات الثياب البيضاء التي تبدو كملابس المتسولين من جديد؟! من يراني لن يصدق أنني أدعي بمعالجة الأسرة الحاكمة، فما بالك بالأميرة المتوجة."

زفرت نيلسي الهواء من رئتيها بضيق، وبينما كانت تتأمل أزهار الربيع لفت انتباهها صوت أنثوي رقيق ينادي من الأسفل:

"سمو الأميرة، أرجو منك أن تنزلي إلى هنا، فلم يتبقى سوى بضع دقائق على موعد وصول سمو الأمير ولي العهد إلى القصر، وعليكِ أن تستقبليه."

مالت قليلاً لتجدها فتاة في مقتبل شبابها ترتدي ثوب أسود عليه مريول أبيض، يبدو أنها خادمة، وهي تشير لـنيلسي بالنزول، في البداية كانت سوف تتجاهلها، لكنها تذكرت أحداث ذلك المشهد من القصة فتمتمت بصوت منخفض:

"كلا لا يمكنني المكوث هنا وتجاهله؛ إذا فعلت ذلك فسوف يظن بأنني أتمرد عليه مثلما فعلت نيلسي بالقصة... _صمتت قليلاً ثم أردفت بخوف_ لا أظن أنه يمكنني تحمل ندبة أخرى كالتي خلفها عنادي منذ أيام على صدري."

قالت آخر كلماتها وهي تتذكر ما حدث في الأسبوع الماضي...

دخلت عليها الخادمة بدون أن تطرق الباب وقالت بينما هي بالكاد تستطيع التقاط أنفاسها:

"سموك إن سمو الأمير يطلب حضورك على عجل."

لم تفكر نيلسي ولو للحظة بل أمسكت بأطراف ثوبها وهرولت إلى غرفته بفزع وهي تفكر:

(هل أصيب فاون مرة أخرى؟ أتمنى أن جرحه ليس بليغاً، أتوسل إليك يا إلهي ألا يكون مصاباً.)

اندفعت نيلسي باتجاهه مباشرةً وأخذت تتفحص جسده بذعر:

"أين أصبت؟ أرني جرحك لأعالجه قبل فوات الأوا..."

"لن تعالجيني أنا، إنما هي."

قالها بصوت بارد بينما ألتفت فاون لتلك الشقراء الممددة على سريره والدماء تسيل على جانبي فمها وهناك شق كبير في صدرها.

فتعرفت عليها نيلسي من الوهلة الأولى التي وقع بصرها عليها، فقالت لنفسها:

(أنها هي، تلك هي نوالا، كلا لا يمكن أن أسمح لها بالنجاة، إذا أنقذتها الآن فسوف يقوم فاون بقطع رقبتي، أنا لا أريد الموت، لا يمكن، لا، لا.)

وهزت رأسها نافية:

"كلا لن أعالجها سموك، سوف أفعل أي شيء تريده عدى أن أداوي جراح تلك البغيضــ..."

أطاحتها صفعة من يده أرضاً، فأمسكت وجهها وهي تنظر له غير مصدقة:

"لما قمت بضربي؟!"

فمال فاون وأمسكها من شعرها بإحكام شديد، ساحباً إياها منه لكي تقف من جديد، مقربا وجهها منه وبيده الأخرى ضغط على فكها بقوة، وقال من بين أسنانه، وعيونه تتحدث بالشرور:

"صدقيني نيلسي لن ينتهي الأمر بمجرد صفعة إذا ماتت نوالا، لهذا لا تجربي حظك معي، هل فهمــ..."

"آآآآآه"

صدح صراخ فاون عندما غرست نيلسي أسنانها في يده التي كانت تغلق فمها، فدفعها عنه بقوة فصدمت رأسها بالأرض.

أمسك الحراس بنيلسي التي أصبحت رؤيتها مشوشة تماما، لكنها كانت تسمع صوت فاون المتألم:

"اللعنة عليك نيلسي، هل تحولتِ إلى كلب أم ماذا؟ أنتم فلتحضروها إلى هنا."

ألتقط فاون الكوب الفارغ من على الطاولة، ثم أستل خنجره من غمده، ونظراته تكاد تمزقها:

"بما أنك لن تستخدمي طاقتك لشفائها، فلا تلومينني على فعلتي تلك."

شق فاون ساعد نيلسي بخنجره، فصرخت:

"كلا أنا أتوسل إليك هذا مؤلم."

ثم أخذ يملئ الكوب بدمائها التي تنبثق حتى أمتلئ متجاهلاً توسلاتها، ألتفت فاون إلى نوالا وحمل رأسها برفق وأخذ يسقيها دماء خطيبته، وسكب بعضه على جرحها.

"آآآآآآآآه!"

دوى صوت صراخ نيلسي في أرجاء القصر، فحدق فاون في وجهها بحدة لتعض على شفتيها محاولة تمالك الألم الذي أجتاح صدرها وأخذت تتقيأ الدماء:

(تباً لكم جميعاً، أقسم أنني سوف أجعلكم تذوقون أضعاف ذلك الألم.)

رمشت نوالا بعيونها وها هي تفتحهما من جديد، فضمها فاون إلى أحضانه متجاهلاً نظرات الحراس والخادمات من حولهم.

"ظننت أنني سوف أفقدك حقاً يا حبيبتي، لمَ قفزتي أمام ذلك القاتل؟"

نظرت نوالا إلى فاون ثم رفعت يدها وأخذت تتحسس وجهه وعلى وجهها ابتسامة مجهدة:

"لقد كنت خائفة ألا أتمكن من رؤيتك من جديد."

وضع فاون يده على يد نوالا وقربها من فمه وطبع عليها قبلة رقيقة:

"لن أتخلى عنك أبداً عزيزتي، أنا أقسم بشرفي."

"عذراً سيدي، لكن ماذا نفعل مع سمو الأميرة؟ أنها تنزف بشدة."

قالها أحد الحراس، فألتفت له فاون وقال بجفاء:

"فلتجد لها طبيب ما ليعالجها، أو أيا كان ما تريد فعله بها لكن فقط تأكد ألا أراها أمام عيني."

همست نيلسي بصوت يشبه التمتمة:

"أنت حقاً تشبهه تماماً... أيها المنحط..."

ذهبت نيلسي في بحر من الظلام الدامس.

صوت أنثوي يهمس ولكن الخوف الواضح في مكنونه لامس آذان نيلسي:

"هل تظنين أنها ماتت؟"

لتجيبها أخرى ببرود:

"لا تقلقي، لن يقتلها هذا القدر من الدماء، هي فقط نائمة بعمق بسبب المخدر الذي وصفه الطبيب، الآن تعالي إلى هنا وهمي لمساعدتي بسرعة قبل أن يأتي أحدهم."

فقالت أخرى بحدة:

"إذا لم تنتهوا من هذا بسرعة أقسم أنني سوف أرحل من هنا، أنا لن أتخلى عن رقبتي لأجلكن، أسرعن."

(شعرت بشيء دافئ يتدفق على ساعدي الأيسر، يبدوا كأنهن يقمن بسرقة الدماء من جسدي مثلما فعل سيدهم.)

(أشعر بألم شديد يمزق صدري، لم أشعر يوماً بهذا القدر من الإرهاق والتعب؟)

فتحت نيلسي عينيها ليلسعها الضوء الساطع المنبعث من الشرفة، فرمشت عدة مرات حتى اعتادت على المكان.

دققت النظر لتجد فتيات يرتدين ثياب سوداء قاتمة، بدت رديئة وعليها ما يشبه المريول.

(هل هن مجرد خادمات؟!)

أصدرت نيلسي أنيناً قوياً، وهي تقول بصوت مجهد وضعيف:

"من أنتن؟ وماذا تظنون أنفسكم بفاعلين يا فتيات؟"

أسقطت الخادمة القارورة الزجاجية التي بيدها، فتحطمت إلى شظايا ولطخت الدماء المكان.

اتكأت نيلسي بذراعها الأيمن على السرير واعتدلت جالسة، مقاومة تلك السكاكين التي تطعنها، ففرت الخادمات اللاتي كن يقفن بعيداً بينما يصرخن:

"أركضن بسرعة قبل أن تتعرف علينا."

ولكنها استطاعت أن تقبض بيدها على الجالسة بجوارها.

قالت الخادمة بخوف وجسدها يرتعش بقوة:

"سمو الأميرة نيلسي أقسم لك أنني لن أكررها، أتوسل إليك أن تعفي عن حياتي سيدتي."

كان الألم يزداد حدة في صدرها، فمدت نيلسي يدها بإرهاق ساحبةً الشريط الذي يغلق رداء نومها، لتحدق في جسدها برعب، وترقرقت الدموع في مقلتيها وصوت صراخها مليء بالقهر:

"هذا مؤلم حقاً، أنه يؤلم، تباً لك فاون أنت وتلك اللعينة، أقسم أنني لن أسامحكم أبداً، اللعنة عليكما."

دفعت نيلسي الخادمة، ثم نهضت من فراشها بخطى مترنحة لتقف أمام المرآة تحدق في ذلك الشق الذي يمتد على طول صدرها:

"كلا، لا يمكن أن يكون هذا حقيقياً، سوف أقتلــ..."

"نيلسي؟!"

يتبع...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي