الفصل الثالث

عندها ارتبك عبد الرحمن وأخذ يفكر أين يخبئ ورقة الوردة تلك، يخشى أن تقع في أيدي رجال عتمان، ولم يعطي الرجل فرصة له كي يفكر كيف يخبئها قبل تفتيشه.

أخذه على غرفة داخلية، و قام أحد رجال عتمان بتفتيش عبد الرحمن، ووجد ورقة الوردة تلك معهُ وأخرجها من جيبهِ وأمسكها بيدهِ و تعجب منها وبدأ يسأل عبد الرحمن عنها.

أخرج الرجل ما في حقيبة عبد الرحمن بأكملها وألقي بها على الأرض، كان يحمل أداة تشبه الفأس الصغير يحفر بها لزرع البذور في الأراضي الزراعية فهذا جزء من عملهِ، كان يحمل أيضًا مقص كبير يستخدمهُ في قص الأوراق والنباتات بعد أن تنبت، يحمل بطاقتهُ الشخصية وليس لديهِ أي نقود ليصرف منها، ما كان يبحث عنه الرجل هو أن يكون عبد الرحمن قد خبأ بعض البذور لنفسه أو قد سرق بعض الثمار في الحقيبة الخاصة به، كان هذا هو الهدف من التفتيش سواء هدف الرجل أو هدف عتمان شخصيًا.

لم يتوقع أحد منهم أن هذه الورقة التي يحملها عبد الرحمن قد تكون أهم ألف مرة من ما يبحثون عنه معه، أخذ عبد الرحمن يفكر في الأمر، ويفكر أين يخبئها سريعًا لكنه قال لنفسه إن خبأها وعثر عليها الرجل سوف يشعر بقيمتها أو يتعجب من أن عبد الرحمن قد خبأ ورقة شجر! ويتأكد أن تلك الورقة ذات قيمة كبيرة وقتها، لذلك تراجع عبد الرحمن عن قرارهُ سريعًا وترك أمرهُ كله لله.

لم يتمكن عبد الرحمن أن يخبئها، كانت تلك الورقة مازالت في جيبهِ، بعد أن انتهى الرجل من تفتيش كل الحقيبة، ثم توجهه نحو عبد الرحمن وفتش ملابسهُ وكل الجيوب الموجودة في ثيابهِ، عبد الرحمن كان يتصبب عرقًا من شدة توترهُ، يتمنى أن يستطيع الطيران في هذا الوقت لكي يخرج من موقفهُ هذا بأقل الخسائر، لم يجد أمامهُ سوى الدعاء للمولى عز وجل أن ينقذهُ ولا يكشف أمرهُ أمام هذا الرجل، لعل جهلهُ يكون سبب إنقاذهُ من ذلك المأزق الكبير الذي وضع نفسه فيه.

بدأ الرجل بتفتيش عبد الرحمن إلى أن وضع يده في جيبه ثم سمع الباب يطرق، أوقف الرجل التفتيش وأتجه نحو الباب، وفتحه كان الطارق شخص آخر يعمل لدى عتمان، يسأله عن إذا كان قد أنهى تفتيش عبد الرحمن أم لا، ويخبره أن عتمان يستعجلهُ ويسأل ويريد أن يطمئن هل وجد شئ مع عبد الرحمن؟

أخبرهُ الشخص القائم بالتفتيش أنه حتى الآن لم يجد أي شئ ضروري ولا ذات قيمة، وأن كلها أشياء يستخدمها عبْد الرحمن عادة في عمله بحكم تواجدهُ في الأراضي الزراعية لمدة طويلة،

ثم أخبرهُ أنه عندما ينتهي من تفتيشه سوف يأتي إلى عتّمان ومعه عبد الرحمن ويخبرهُ ويطمئنه، بعد ذلك طلب من أن يتعجل في تفتيشه وخرج الرجل وقام بإغلاق الباب خلفهُ، كأن عبده قد جاء ما ينقذه في ذلك الموقف وكان قد أخذ أنفاس عميقه، لكنه سريعاً ما عاد لقلقه، سريعًا بمجرد أن أغلق الباب وعاد الرجل لتفتيشهِ مرة أخرى، هنا نظر عبد الرحمن في ساعة يدهِ ثم عاد النظر للرجل مرة أُخرى.

في تلك الغرفة المجاورة لغرفة عتمان تحمل بطشهِ وشدتهِ وظلمهِ، كان عبد الرحمن يتم تفتيشهُ بواسطة أحد رجال عتمان، كان عبد الرحمن واقف مستسلم إلى هذا الرجل، الذي يعمل عند عتمان، و قد أمرهُ عتمان بتفتيش عبد الرحمن لأنه ظن أن عبد الرحمن قد خبأ بعض البذور معهُ أو بعض الثمار، لأن هذا اليوم كان يوم الحرث، بعدها أثناء تفتيشهُ لعبد الرحمن وجد معه ورقة الوردة العجيبة التي قد قطفها عبد الرحمن في هذه الأراضي المجهولة! أمسكها الرجل وتعجب منها وكاد أن يرميها وتحدث مع عبد الرحمن بسخرية شديدة منه.

أحد رجال عتمان:
-ما هذه الورقة يا رجل؟ هل أنتم تأكلون أوراق الورود لهذا خبأتها عنا؟
عبد الرحمن قال له:
-لا لقد أعجبني منظر تلك الوردة، ولدي فتاة في الخامس عشر من عمرها تدعى مليكة، إنها تحب الورود كثيرًا، ولا تستطيع الخروج من المنزل إلا في أضيق الحدود كما تعلم حال القرية هنا، وأنا أقلق عليها وأمنعها من النزول من المنزل بدون سبب جدّ ومهم !
أحد رجال عتمان:
-معك حق يا رجل، تفضل هذه الورقة، أعطيها إياها، أنا كنت أتمني أن يكون لي صديقة حنونة عليَ أيضًا، أجلب لها الورود و ما تشاء، ولكن عملي هنا مع عتّمان قد أخذ كل وقتِ معه، للأسف لا أستطيع أن أخرج من دائرة رجالهِ، كلما حاولت ذلك مرارا و تكرارً لا أستطيع.

كان هذا الرجل رجل صالح قليلا، ليس مثل باقي الرجال الذي يعملون مع عتمان، فقد كان الخير بداخله ولا يوجد فرصة له للتعبير عن حسن خلقهِ، عتمان إن شعر بلين قلب أحد رجاله ، فقد عذبهُ و جعلهُ يكره حياته هكذا، كان يجعله عبرة لكل باقي الرجال الآخرين.

أما عبد الرحمن فقد شعر بهذا الخير الذي بداخل هذا الرجل، وقال لنفسه؛ إن استطاع أن يجعل هذا الرجل في صفهم فسوف يستفيد منه كثيرًا في مساعدتهم في القضاء على عتمان وباقي رجاله، فبدأ عبد الرحمن أن يتناقش مع ذلك الرجل بنطاق أوسع. عبد الرحمن قال له:
-أنت تبدو عليك الخير كله يا رجل، لم تخبرني باسمك حتى الآن، أنا اسمي عبد الرحمن ولدي ثلاث أولاد، معي ولدين ومعي فتاة هي أصغرهم تدعى مليكة.
أحد رجال عتمان رد عليه قائلاً:
-أنا هشام، اسمي هو هشام، من فترة طويلة لم أتعرف على أصدقاء جدد ليِ، عمري عشرون عاماً، منذ طفولتي وأنا أخدم عتمان، فقد علمني الفتوة والمروءة، وعلمني كيف أخذ حقي من الناس.

أجابه عبد الرحمن وقال له:
-لكن يا هشام هذا ليس حقكم، أنتم من جئتم إلى هذه الأراضي غرباء عنها، ولم تأتوا طالبين مساعدة أو عمل، أنتم أتيتم لكي تأخذوا الخير كله لكم بأكمله ، ولا تعطون لأهل القرية أبسط حقوقهم.
هشام قال له:
-أنا أعلم ما تقوله يا أستاذ عبد الرحمن، ولكن ما باليد حيلة، للأسف أنا لا أستطيع أن أغير أي حال عليه القرية الآن، إن عتمان لم يسكت إن تكلمت وسوف يكون حالي مثل باقي الذين عارضوهُ إما الموت أو النفي أو الذل!
عبد الرحمن رد عليه:
-لا لا، لا تعارضهُ الآن لا تظهر له حتى غضبك من ما يفعله معنا، أنت فقط عندما تُتيح لك الفرصة للتحدث معي تعالى إليَ وأخبرني، أريد أن أعرف أشياء كثيرة عن عتّمان، أين يذهب بكل هذا المحصول كل ربيع؟ من أين يأتي بهذه الأسلحة والمعدات كلها؟ هل هناك رجل آخر يساعده خارج القرية أم أنه يعمل لصالح نفسه فقط؟ يا هشام أنا أسكن في الشارع الخلفي مباشرة في منزل رقم خمسة بالتحديد في الطابق الثالث، إن أستطعت أن تحدثني وتساعد أهل القرية، فقط تعالى وتحدث معي، الغد هو إجازتي من العمل، وسوف أكون في منزلي طوال اليوم تقريبا، إن كان هناك وقت فراغ لديك في أي وقت، فسوف أكون أنا في إنتظارك.
هشام قال بتعجب من طلبه:
-حسناً يا أستاذ عبد الرحمن، أنا سوف آتي إليك إن أستطعت إن شاء الله.

خرج عبد الرحمن ومعه هشام من تلك الغرفة بعد أن أنتهي من تفتيشه، وعند خروجهم من غرفة التفتيش سأل عتمان:
-هل وجدت معه شئ يا هشام مع هذا الرجل؟
هشام أجابه وهو يشير بيدهِ بالنفي:
-لا يا عتمان لم أجد معه أي شئ، يبدو عليه أنه رجل مسكين.

اطلق عتمان سراح عبد الرحمن وأخذ حصته اليومية من الطعام، رغيف الخبز وطبق الحساء مثل عادة كل يوم، وعاد إلى بيته، وأول أن دخل بيته دخل مسرعاً إلى غرفته وضع تلك الورقة في إناء به مادة كيميائية لكي يحافظ على نضارتها ولا تذبل، إلى حين أن يستريح عبد الرحمن من مشقة اليوم ويأكل مع أولاده، وبعدها يبدأ بفحص تلك الوردة.

وأثناء تغطيها بي المادة الكيميائية دخلت عليه غدير زوجته وتعجبت من تصرف عبد الرحمن هذا، فهو معتاد على أن يسلم عليها أولاً والسؤال عنها، لكنه في هذا اليوم دخل سريعًا إلى غرفة نومه دون أن يُسلم على أحد.

لذلك تعجبت غدير وقالت له:
-ما بك يا عبد الرحمن؟ لقد دخلت سريعا إلى الغرفة، هل معك شئ تخبأه عنا؟ ما هذا الموجود خلفك؟
أجابها عبد الرحمن وقال لها:
-لا يا غدير، إنها ورقة من وردة غريبة الشكل وقد أعجبني شكلها ورائحتها، وقررت أن اجلبها معي وافحصها فهي نادرة الوجود بشكلها ورائحتها والوانها، لفتت نظري وشعرت أن بداخلي شئ يجذبني نحو تلك الورود ولابد من فحصها، أنا لم أرى مثل هذه الورقة من قبل!
غدير بتعجب شديد من تصرف زوجها ويبدو على ملامحها التعجب ردت عليه:
-يا عبد الرحمن، إنها ورقة وردة! في هذا الوضع الذي نحن عليه، وأنت ذاهب لكي تحضر ورقة وردة! هيا الأولاد ينتظرونك لكي تتناول معهم الغدا.

عبد الرحمن قام من مكانهِ وتحرك في إتجاه مكتبهُ و قال لها بنظرة عمق تملأه:
-أنا أشعر في داخلي أنها مميزه، ليست ورقة وردة عادية، حسناً، أنا قادم خلفك مباشرة، سوف أدخل أغسل يدي وآتي إليكم.
وضع عبد الرحمن الإناء في مكان مرتفع قليلاً، خوفا عليه من أن يصل إلى أيدي أولاده قبل أن يفحصها ويظنون أنها شئ لا قيمة له ويفسدها، ثم دخل إلى المرحاض وغسل يديه ووجهه وذهب إلى أولاده كانوا ينتظرونه على مائدة الطعام.

جلسوا جميعاً على مائدة الطعام وبدأ عبد الرحمن يسألهم عن أحوالهم:
-كيف حالكم يا اولاد؟ اليوم كان يوم مرهق في العمل، وعتمان هذا لا يعطي سوى الخبز و طبق الحساء، لا يفرق بين يومٌ شاق و يوم أقل تعب منه!
مليكة أجابت قائلة:
-أدعوا الله أن يخلصنا من هذا الرجل يا أبي، أتمنى لو أني أستطيع فعل أي شئ أساعد أهل القرية وأُساعدك به.

عبد الرحمن كان يتحدث مع أولاده على مائدة الطعام، و قد كان خبأ تلك الورقة في غرفته بعد أن وضعها في مادة كيميائية حفاظا عليها، عبد الرحمن قال لهم :
- تعلمون، اليوم قد تعرفت علي رجل من رجال عتمان، وتحدثت معه كثيرًا.
مليكة أجابت بخوف على ابيها ولهفة في حديثها:
-لماذا يا أبي؟ إنهم جميعهم رجال لا يعرفون الرحمة، أقطع علاقتك تواً بأي رجل منهم، ولا تختلط بهم نهائي، سوف يحزن الجيران منك، ويظنون أنك أصبحت معهم يا أبي! أصبحت مع عتمان هذا.

عبد الرحمن بسخرية من حديث ابنته قال لها:
-يا مليكة، سوف أُعلمك درسًا اليوم، وأنتم أيضا يا أولاد، لا تغلق الباب في أي صداقة يمكن أن تكون لك نافعة فيما بعد، ولا تفتح بابك مطلقا إليها أيضا، دائما أجعلوا تلك العلاقات مثل الأبواب شبه المفتوحة وشبه المغلقة، ألم يفكر فيكم أحد، أنه يمكن في يوم من الأيام أن ينفعنا هذا الرجل، ألم يفكر أحد فيكم لعلي احتجت أن أعرف في ماذا يخطط عتمان، لكي نتصدى له جميعا مع أهل القرية، هذا الرجل قد أظهر طيبة ما بداخله، وأنه مرغم على العمل مع عتمان، و يتمني أن يتركه ولكنه يخشى رد فعل عتمان ويخشى أن يقتل أو يذل منه، لقد تعرفت عليه وعرضتْ عليه مساعدتنا في التخلص من حكم عتمان هذا، وهو لم يمتنع بل رحب بهذا.

مليكة ردت عليه:
-لعله يخدعك يا أبي، لعل هذا كله فخ من أفخاخ عتمان لك، لعله يوقع بك في مكيدة يا أبي!
عبد الرحمن قال لها:
-لا يا مليكة، أنا عندي نظرة و رؤية لمن يقف أمامي، وأنا أشعر أن هذا الرجل صادق في كلامه معي، ولننتظر غدا ماذا سوف يحدث عندما يأتي إلينا.
أدهم أنهى طعامه وترك ملعقتهُ من يده وبتعجب شديد يظهر على ملامح وجهه نظر إلى عبد الرحمن وقال له:
-يأتي إلى أين يا أبي، تقصد في بيتنا ؟

أجابه عبد الرحمن وهو ينظر إليه وقد علم أن أدهم لا يعجبه خبر قدوم ذلك الرجل إلى بيته، فقد اتضح هذا من كلامه ومن نظراته ومن رفضهِ لإستكمال الطعام معهم ثم أجابه عبد الرحمن قائلا:
-نعم يا أدهم، أنا انتظر زيارته في البيت غداً إن شاء الله، لقد وصفت له العنوان بالتفصيل، وإن استطاع أن يختفي عن أنظار باقي رجال عتمان سوف يأتي إلينا في الغد، أُريدكم جميعا أن تصفوا ذهنكم غدا و نواياكم، لكي نجلس سويا و نتفق ماذا سوف نفعل معه؟

لم يعجب كلام عبد الرحمن باقي أفراد أسرته، حتى غدير كانت طوال فترة جلوسها معهم وهي متعجبه من كلام عبد الرحمن زوجها و لم تنطق بأي كلمة، إلى أن انتهوا من تناول الطعام و ساعدت مليكة أمها غدير في ترتيب المائدة كما كانت، وذهب أدهم وآثر لإكمال دراستهم، ومليكة وغدير في المطبخ لترتيبه أيضا، أما عبد الرحمن فقد دخل إلى غرفته وأخرج الإناء من المكان الذي خبأهُ فيه، ونظر عليه وفتح عيناهُ جداً عندما رأه.

كان عبد الرحمن قد رأى أن ورقة الوردة عندما تم وضعُها في مادة الحفظ هذه لمدة ساعتين حين أن يستريح ويتناول الغداء، وعاد إليها مرة أخرى، وجدها قد تحولت إلى وردة كاملة، لا يعرف عبد الرحمن كيف تحقق هذا، ولكنه بدأ يتأكد أكثر وأكثر من ظنونهِ حول تلك الوردة، وقرر أن يفحصها قبل أن تتحول أو يحدث لها شئ اخر، جهَز جهاز الميكروسكوب الخاص به، ووضع عينه منها على الميكروسكوب، وذهل أكثر وأكثر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي