الفصل الثالث

تسللت خيوط الشمس صباحا على إستحياء ، حامية، لاسعة..ما جعلها تخفي وجهها تحت الوسادة بإنزعاج و امتعاض عتيد.. إجتاح رأسها صداع قوي فشدت على الوسادة بإرهاق ثم رمتها أرضا لتستقم ناظرة في أرجاء الغرفة بإستطلاع ، لبثت واقفة ثم حركت خصلات شعرها قائلة  : هل هو في الأسفل ياترى ؟

إحتضن كف يدها  بكرة الباب  ثم فتحته و خرجت بهدوء... بعد لحظات كانت جالسة على الأريكة ممسكة هاتفها ثم رفعته على أذنها منتظرة تلقي الرد من الطرف الآخر بقلة صبر .. و بصوت بدا على مشارف الغضب قالت : أين أنت ؟ هل ذهبت عملك في أول صباحية لنا كزوجين؟!

تنهدت  بغيض بعد رده و أغلقت الهاتف بعصبية ملقية إياه على الأريكة ثم مضت ناحية المطبخ لتملئ الكأس ماء ثم تجرعته بهدوء.. وضعته على الطاولة و قد إستدارت بلهفة حينما  أصغت لصوت السيارة في الخارج ..
دلف بهدوء ثم ألقى بالمفاتيح  على الطاولة متنهدا بإرهاق ثم جلس واضعا يده على الأريكة قائلا : تعالي لنتحدث ...

إنصاعت له و جلست بهدوء في حين باشر هو كلامه قائلا بتعب : كنت عند "ورد" إشتقت إليها فلم أتعود على الغياب عنها لأيام ..أخاف أن تنتكس بمفردها ..

صمت قليلا ثم نظر داخل عيناها قائلا : لما لم يتصل أخاك طوال هذه الفترة ألا يهمه أمركما؟

إبتلعت ريقها بقلق ثم قالت بتردد : أختك .. هل هي بخير الٱن؟ ما أصابها !

بدا غير مهتم البتة بسؤالها فقال مبددا كل محاولاتها في الهروب : إتصلي بأخاك..

فتحت عيناها على وسعهما بصدمة ثم قالت : الآن ؟! ماذا سأخبره؟ لماذا أتواصل معه الٱن؟

ربت على خصلات شعرها بهدوء رزين ثم تمتم: الآن ..يا زوجتي المصون ..الآن..

لوهلة لمحت نظرات تهديد في عيناه لتبتلع ريقها قائلة : حسنا .. لكن هل يمكنك أن تعدني وعدا حر؟

نفى برأسه و قال و قد فهم رجائها الخفي : لا يمكنني أن لا أؤذي أخاك فلا تحاولي.. القصاص يا زوجتي ..

نهض من مكانه ثم سار بصلابة قائلا: ستأتي والدتك مساء ..

رحل تاركا إياها تذرف الدموع بقلق و خوف من ما هو آت.. تنهدت متمتمة بتضرع : يارب اللهم لا تحملني ما لا طاقة لي به و اعفو عني و أغفر لي و ارحمني يارب"

_______________

_ " هي في عيناي يا حماتي لا تقلقي "

تشدق بها هارون ردا على وصاية حماته على إبنتها 
فإبتسمت داعية لهم بالسعادة و الهناء و الذرية الصالحة ..

_ " أمي لما لا تبيتين ليلتك هذه عندي "

قالتها حياة بتسرع و لهفة فإبتسمت لها والدتها قائلة بحب : حبيبتي أنت لازلت عروسا جديدة ثم أنني لا أريد أن أكون الحماة الثقيلة "

ضحكت في آخر كلماتها ليبتسم هارون و قد أرست عيناه يراقب تعابير زوجته التي بدت و كأنها قلقة ثم قال : هذا البيت بيتك يا أمي إن أردتي البقاء عمرا بحاله لن يمنعك أحدا..

إبتسمت بفخر ثم قالت : حفظك الله يا بني و جعله  بيتا عامرا لكما ملؤه الهناء و المودة إن شاء الله يا بني "

______

بعد رحيل والدتها جلس على الأريكة ثم قال بجدية : تعالي إجلسي بجانبي ..

تقدمت منه ثم جلست تفرك يديها بتوتر لاحظه فباشر بالكلام قائلا : مما أنتي قلقة!

رفعت عيناها له و قد فاجئه رؤية دموعها ثم قالت : أنا لا أشعر بالأمان .. أردت أن تبقى والدتي هذه الليلة .. أشعر و كأني طفلة في حاجة للإختباء في حضن والدتها ..

إجتاحه شعور غريب في إحتضانها و تبديد كل مخاوفها و قد هاله أن هذا الخوف هو سببه..

مرر أصابعه الخشنة على خصلات شعرها الرقيقة الناعمة ثم أمسك يدها ووضعها داخل قبضة يديه بإحكام ثم قال : "حياة " أنا أمانك ، أنا ملجأك ووطنك بعد الآن .. أعلم أن خوفك الأكبر هو مني.. لكن صدقينني أخبرتك سابقا لا نية لي بإيذائك ، أنتي زوجتي ، و حبيبتي ..منذ رأيتك و انت تشغلين بالي و فكري..

نظرت له بشرود و ضياع و قد عاد بها تفكيرها إلى أول يوم رأته فيه ..

Flash back

_ " من هذا ؟ "

نظرت لها زميلتها بإبتسامة ثم قالت : السيد هارون تقصدين؟ أوه إنه صاحب الميتم ..لا تعرفينه حقا؟

_ تعلمين لازلت جديدة هنا ..لم أتعرف على أحد هنا عدا الاطفال..

إبتهجت الفتاة على هذه السيرة و قالت : صحيح سمعت انك أصبحتي المرشدة النفسية المحبوبة من قبل الفتيات و الصبيان في الدار .. يقال أنك تقدمين الحلوى لهم كل صباح ..هل لي بواحدة مثلهم؟

ضحكت "حياة " فرحة ثم قالت : سأشتري المزيد من الحلوى إذا ..

إبتسمت الفتاة لكنها صمتت حينما رأت السيد "هارون يقف " أمامهم قائلا  بصرامة : عساه خيرا أرى العاملات منشغلات بالضحك عن العمل ..

إستأذنت الفتاة بأدب ورحلت تاركة حياة بمفردها رفقته لتبتسم بهدوء معتذرة و قبل ذهابها أوقفها قائلا : آنسة " حياة" أليس كذلك ؟

أومئت بهدوء ليبتسم قائلا  : المرشدة النفسية المحبوبة في الميتم ..

إكتست خدودها إحمرارا طفيف قائلة : هذا شرف لي ..

إتسعت إبتسامته ثم تركها فجأة دون التفوه بأي كلمة..

Back

" حيـــــــــاة"

رفعت بصرها بشرود ثم همهمت بإستجابة : أعتذر عن شرودي ..

رفع يدها محتضنا إياها ثم قبلها متمتما : لا تشردي ولا تقلقي أنا هنا.. و صدقينني لا نية لي في إيذائك ..

سحبت يدها بتوتر قائلة : ماذا عن أخي يا هارون ! لا نية لك في إيذائه هو الآخر ؟!

ضحك بقوة حتى إبتسمت عيناه ثم قال : أخاك ! نعم طبعا يا صغيرة لن أؤذي أخاك .. سأقتله دون تعذيب ما رأيك؟

إتسعت عيناها بخوف ثم نهضت واقفة و ركضت لغرفتها .. تبعتها نظراته ثم خطواته ففتح باب الغرفة فوجدها تقف أمام التسريحة ناظرة لنفسها في المرآة بشرود ..إقترب منها و قد هالها رائحة عطره لتغمض عيناها سامحة لدموعها بالتسلل على كلتا خدودها ... شعرت بلمسات أصابعه تتحرك ببطئ على كلتا ذراعيها في لمسات حنونة هادئة ثم أدارها له و قد نظر في كلتا عيناها قائلا : ستنسين موضوع اخاك يا حبيبة قلبي أتركي هذا الموضوع لي فحسب .. لا تروقني حالة التوتر و الخوف التي أنت عليها ..

إقترب منها و قد اغمضت عيناها منتظرة قبلته بحب و مشاعر أغدقت قلبها بدقات سريعة .. لكن و في لحظة كان قد قاطع قبلتهما رنين هاتفها لتفتح عيناها و قد انقبض قلبها و ازدادت  دقاته ...

أدارت رأسها عالتسريحة و ألقت نظرة على هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين و قد قرأت ذلك الإسم بوضوح أرعبها " يحيى " ضغطت على زر إلغاء المكالمة و  إستدارت مسرعة تحتضن هارون بقوة متمتمة برعب : إنها أمي سأعيد الإتصال لاحقا ...

شد على إحتضانها ممتص كل إرتعاشاتها و خوفها و قد ضغط على أسنانه بغضب ناظرا للهاتف متوعدا .. حملها بين يديه ثم جلس على الفراش و هي في حضنه ماسحا على خصلات شعرها بحب قائلا : أخلدي لنوم يا صغيرتي تبدين متعبة .. بإمكانك الإتصال بوالدتك في وقت لاحق ..

أبعدها عن حضنه قليلا قائلا بحنو : حبيبتي لما البكاء ما الأمر ؟

نظرت داخل عيناها قائلة من بين شهقاتها : أنا خائفة .. لم يكن هذا ما حلمت به .. حينما أغمض عيناي في هذا البيت لا أستطيع التفكير إلا في القتل و القصاص و الدماء .. و .. نهايتي ..

مسح دموعها مشفقا ثم احتضنها بقوة متمتما : أنا آسف والله ٱسف لما أقحمتك فيه ..  لكن يا حبيبي لا تشغلي بالك .. إسمعي أنا و اخاك سنتحدث فقط و سنحل الموضوع لا تقلقي حسنا ..

كادت تتكلم لكنه أوقفها قائلا بحزم : هيا حبيبي أخلدي لنوم لا تخافي..

دست وجهها في حضنه بقوة راغبة في الإختباء داخل قلبه فشد على إحتضانها ثم دندن بتهويدة أطفال لتضحك فيبتسم قائلا : نامي..أنا هنا..

بعد دقائق وضعها على الفراش برفق ثم نهض وأمسك هاتفها ناظرا لذلك الرقم بإنتقام ..

خرج من الغرفة ثم إتصل به و قد أتاه صوته البغيض قائلا : حياة كيف حالك ؟ ..

ضغط على الهاتف بقوة ثم أغلق الهاتف بقوة قائلا: أسف لكنني لن أستطيع إخراجكِ من هذه اللعبة

.............

في صباح اليوم التالي نهضت بتثاقل لتجده ينظر ناحيتها مبتسما..  إبتسمت تلقائيا ليقترب مقبلا خدها بحب قائلا : صباح الجمال كيف حال حبيبي اليوم ها ..

_ الحمدلله أنا بخير .. هل صليت الفجر ؟ هل صليت بدوني؟

شعر بتوتر من سؤالها ليمسح على شعره بإرتباك ثم حمحم قائل بصوت منخفض : صليت..

شعرت بإرتباكه لتنهض من مكانها واقفة أمامه ثم قالت : ما بك؟! هارون .. لم تصلي؟ ..لا تصلي؟!

حمحم بصوت متوتر شاعرا بالذنب و كأنه طفل صغير  : لا أنا أصلي لكن "أحيانا" ..

أحاطت وجهه بكلتا يديها قائلة : أحيانا لا تجوز في الصلاة يا حبيبي.. أ يناديك الله و تأتيه فقط أحيانا؟ أيناديك الله و تتجاهل ندائه يا هارون؟

أبعد يديها و قد بدا متضايقا من نفسه و من موقفه  ثم قال : أنا حياتي ليست كما تتخيلينها يا حياة ... حياتي مليئة بالخطايا و الذنوب و المعاصي و المحرمات.. لن يناديني الله ابدا بعد كل ما فعلت ..

إبتسمت بحب ثم قالت : لكنني أرى في عيناك الندم و الحسرة و هي من التوبة و الرغبة في الرجوع إلى الله و قد قال الله تعالى : " إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات  و كان الله غفورا رحيما "

شعر بالفخر من كون هذا الملاك هي زوجته ليبتسم قائلا : أعدك أن أصلح حياتي و أن لا أهمل نداء الله و أن أترك لك نفسي حتى تصلحي ما أفسدته  ..

إحتضنته قائلة بإبتسامة: حسنا إتفقنا يا زوجي الحبيب ..

رن هاتفه لتبتعد مترقبة ثم قالت : من ؟ أختك ؟

أشار ب "لا" ثم خرج من الغرفة إستغربت من الأمر و قد شعرت أن الأمر يخص أخاها..

دلف الغرفة ثم قال فجأة : حياة .. لقد إتصل بك اخاك ليلة أمس .. ستتصلين به لتخبرينه أنك تزوجتي من رجل أعمال ذو شركات كبرى و أنه يغدقك بالمال الكثير و يحقق كل أحلامك .. و ست..

قاطعته صارخة بغضب : هل تظن أنني أطمع في مالك هذا ؟؟؟

حذرها بعيناه ثم قال بحدة : لا تقاطعينني مرة أخرى .. ثم صوتك هذا لا ترفعينه في وجهي ..

رفعت صوتها أكثر قائلة : تبا لغرورك و أنانيتك و غطرستك هذه .. أنا لا أطمع في مالك القذر هذا ..
سأذهب لبيتي و لن ترى وجهي ثانية لقد مللت منك و من اوامرك هذه و حياتك ال..

أمسكها من يدها بقوة قائلا بتحذير و نظرة بدت لها مخيفة لم تراها مسبقا منه : ستبقين و ستنفذين ما أمرك به .. أرجوك ارجوك لا تخرجين الشخص المتوحش الذي بداخلي لمواجهتك "أنت"..

ترك يدها ثم قال بصوت هادئ بعد رؤية خوفها : لقد تحريت عن مكان أخاك .. إنه في برلين كان يواعد فتاة أجنبية يعيش رفقتها في بيت واحد.. يأخذ مالها و يوهمها بالحب .. لكن صغيرنا هذا في فترة صعبة بعد إنفصالها عنه حيث طردته من البيت و البارحة إتصل بك لربما يرغب في أن تدينينه المال ..! لهذا لا تقاطعي كلامي ثانية .. ستخبريه أن زوجك شديد الثراء و أنه لو كان متواجدا هنا لكنت وجدت له عملا محترما مع مرتب خيالي ... و أخبريه أنك تهتمين بحياته و أن والدته إشتاقت له و قد وجدت له عروس شديدة الجمال و فاتنة ... ستتحدثين بحماس  و أنك سعيدة جدا بحياتك هذه .. و ستستغربين في البداية إهتمامه و إتصاله بك ..

مع كل كلمة ينطقها تتسع عيناها مصدومة من كمية المعلومات التي بحوزته ناحية أخاها...
_ كيف علمت بهذا؟!

إبتسم ثم قبل خدها قائلا : هذه فقط البداية .. دعيه فقط يقع تحت يدي ..

خرج من الغرفة لتجلس عالسرير متأففة ثم نهضت لتغير ملابسها ..

_________
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي