الرحلة٢

٢

اتّخَذ سَرمد طَريقًا لهُ بواسطةِ الخريطَة التي استعَارها من أحد الناجِين، انهَا خريطة بدائـية للغَاية، وهُو قد شَعر أنها رُسمت بِخط اليَد.

كَان يُريد الذهَاب نحو بَيت والد صديقه، الذي ظَهرت عندهُ أول حالةٍ من تلك المُسوخ، لَديه أمَل، بسِيط لَكنهُ يحملهُ داخلهُ..أنهُ سيذهب ويَجد صديقه على قَيد الحيَاة..

رأى عدِيدا من النسَاء الكِبار يَفعلون مثل مَا فَعلت العمّة والتي علمَ سرمد أن اسمهَا.(سِيانا)  ،  يَجلسون ويُقسمون الأكل لِوجبات  ،  وهُم يعتمدون في وجَباتهم عَلى الأكل المغذي أكثر من الأكلِ المُشبع  .

كَان يَتمنى أن يَلتقي بصديقه سَليمًا معافًا في إحدى مَلاجئ العامة  ،  لَم يكنّ ديڤاس طُوال عمرهِ غلًّا او حقدًا على أهل مملكة رامسُوديا..بِالعكس لَطالما مدّهم بالمعونة والنقُود  .

على الأقَل ليصفحُوا عنهُ جزاءً لعطفهِ عليهم وقت ضعفهم  ، كَان ذلك أملهُ الوحيد المتشبثَ به  .

مَع تعمقهِ بالمسِير. كَان الخراب يَزيد أكثَر فترةً بعد فترة، رُبما يَموت الوحُوش بعد فتر‌ة. ولَكن كيف صنعوا شيئًا كهذا؟ لمَ تلتهم البشر وكيف تفرق بين المَيّت والحيّ؟.

هل هِي واعية  ،  إذًا هل تُفرق بين صانعيهَا وأعدائها أم أنها تقتُل لهدف القَتل؟  .

انها أسئلة تدُور برأسه كالمِغزل  .

من استنباطهِ وما رآه  ،  الأحصنةُ على قيد الحيَاة..أحصنة الحي بأكملهِ وكلابه وحيواناتهِ بشكلٍ عام لذا هي تستهدف البَشر خاصة  .

لَا تعلمُ هل يَتنفس الشخص أم هو جثة هامدة، تعتمد على الحركَة والدليل أنها لَم تعلم أنه على قَيد الحياة  .

والغريب جدًا أنها لَا تلتهم لَحم البَشر! تقتُل فقط للقَتل...حَتى أنك تحسّ أنها تتغذى على، رائحة الدمّ فقط  .

لَم يَجد جثةً واحدة تدل على قَضم جزء منهَا  ،  كُل الجثث إما مهشمةَ الجمجمة واما مفصُولة الرأس واما قَد دفنَها الدمار  . 

شَرب من قِنينة المياه، ثُم عاد يُحرك الحصان مَرة أخرى.

دَخل ثَلاث مَلاجئ، ولَم يجد بِهم ديڤاس أبدًا، وصَل مَكان بَيتهِ، بالطبع كان مهدمًا مثل البقِيّة، وحولهُ ملاجئ كُثُر، دخلهَا جميعًا، واحدًا تلو الآخر.

وقَد مر يَومان، المَاء على وشك النفاذ، والطعام كَذلك، لم يجد ديڤاس في طريقه أبدًا، كَان يَبحث عنهُ بِالنداء باسمهِ، وبِالسؤال عنهُ وعن مواصفاتهِ ولكنهُ مفقُودٌ تمامًا لذا قرر التعمّق بالغابة، بغَابة أرجوس.

بدأ بالفعل بتخيّل أبشع التخيّلات، لَكنهُ التقَى به، عند النهر..مثل أول لقاء بينهُم، كَان يُريح رأسه وشعرهُ بتطاير..وهو مغلقٌ لعينيهِ.

كان استِيعابُ سَرمد بطيئًا للغايَة، حيثُ لم يَكن متوقعًا أن يجدهُ أصلًا، ركضَ نحوه وهو يشرع في البُكاء وينادِيه كما اعتاد "أخي، أخيرًا وجدتك".

فُزِع ديڤاس في البدَاية، ونظر مطولًا لسرمد الذي ارتمى يَحتضنهُ، فاحتضنهُ بشدة، وبدأ يمسح على رأسهِ ويطلب منهُ الهدوء.

بعد دقائق، جَلس الاثنان قِبالة بعضِهم، وبدأ سَرمد يقصّ على ديڤاس مَا حدث، وأخبَره أنه بحث عنهُ في أماكن كثيرة وفي كُل الملاجئ التي قَابلها.

"لَقد هرّبنِي أبي هُنا، وقد جلستُ منذ يوم الحادثَة هنا علّك تأتِي"  تنهد سرمد، ونظر إلى البُحيرة، تلك البحيرة التي قضى معظم أوقاتهِ قربها، مع ديڤاس.

"مَاذا سنفعلُ إذًا" قال سرمد بحيـرة.

"سنهربُ إلى مملكة النّجم كَي نعيش هُناك".

صمت كلاهُما صمتًا خيّم عليهِ الحُزن الشدِيد، كانت أعيُنُهمَا تصفُ كُل ما لَا يُقال، رَائحة الدمَاء منتشرة ورائحة المَوت تتخلخل دَاخل أنوفِهم.

نَهض ديڤاس ومدد جَسَدهُ متنهَدًا بِصوت، ثُم نظَر حولهُ، وبدأ يتحركُ حول المكان وسَرمد بمكانهِ لم يتحرك فَقط يُناظر الميَاه.

عاد ديڤاس الى النُقطة التي كانوا يَجلسون بهَا..

"كفَاك تَكاسُلًا سَرمد !"
"جَسدي لا يُساعدنِي..".

تمدد على الأعشَاب وعينيهِ شبهُ مغلقة، وتنفسهُ ثقيلٌ، يناظرُ ديڤاس بِأعينٍ دامعة، وهو لا يقوى على التحرك، تنهد مراتٍ متتالية.

"لَم يعد لِي بيت، أو أهل..لم يعد لدَيّ غيرك يا ديڤاس، فقط بليلةٍ واحدة اختفى كل شيء، تحولت حياتي من الطمأنينة إلى الخوف والكآبة".

لم يرد ديڤاس لأنه لم يجد كلماتٍ تعبرُ، لم يجد شيئًا يواسي به صديقه غير أنه يحتاج للمواساة أصلًا، فـلم يَرد وبقى صامتًا..

" أريد تغيير ملابسِي، هل هُدِم بيتك؟ ".

رد عليه وهو يبعثر شعرهُ بعشوائية،  " معرّض للهدم، لكنه لم ينهار تمامًا. "

"حسنًا لنذهب إليه ونستعير بعض الملَابس".

أومئ ديڤاس موافقًا وركِب على بارلي وانتظر إلى أن ركب سَرمد على الحصان الآخر وانطلقَا.

كان الطريق طويلًا وثقيلًا على كلاهما، صامتين يلقيان تركيزهما على الطريق فقط، وبرأس كل واحدٍ منهما ما يخافُ منه ويَحزنُ عليه، لكن كلاهمَا يتفقَان على أنهما خائفَيْن من أن يتفرقا فقط.



وصلَا إلى منزلِ ديڤاس ودخلاهُ بحذرٍ شديد وكانت غرفة ديڤاس بالجزء السليم كما غرفة والدهِ لذا أخذوا كل الملابس الظاهرة لهما.

وقارنوا الحِمل ثُم وضعوا الأكياس بِتوزيعٍ متوافق على كلا الحصانَيْن وركب كلاهما مرةً أخرى عائدين لغابة أرجوس لكي يعبرَا..نحو الجنُوب.

" والدك... "

قاطعه ديڤاس سريعًا، "مات، دفنت جثتهُ في الصباح الذي تلىٰ الحادثة".

أومئ سرمد بصمت، ولم يسأل ديڤاس بالتالي عن عائلة سرمد فالجواب مرئيٌّ لكل شخص، فتابعا طريقهما بصمت.

" هل تعرف الطريق إلى مملكة النجم؟ ".

سأل ديڤاس ليومئ سرمد بالايجَاب ويخرج الخريطة البدائية التي كانت معهُ،  " وجدتُ هذه وسأعتمد عليها".

"هل تعرف أين ذهبت تلك الكائنات تحديدًا؟".

فكر سرمد قليلًا وقال،" أظنهم يتقدمون نحو الغرب".

"دفع أهلُنا ثمن خيانة الملك اللعين".

قال ديڤاس بحقدٍ واضح، ووافقهُ سرمد، وعاد الصمت رفيقهما الثالث...





عَلى الضفّة الأخرى، كانت تُمسك جُولّنار جثة أخِيها المشَوّهة وتتحرك يمينًا وشمالًا بين أشلَاء جيرانِها وهي تُهلوس بكَلام غيرِ مفهوم.

نَادت علّ أن يرد عليها شخص واحد حيّ لكن بلا جدوى، وتعمقَت أكثرَ بالغابة من دون وجهَة، وبيدها تجرّ جثة أخيها التي قاربت أن تتعفّن وهي بَين رائحة الدماء.

توقفت حين رأت النهر وركضت نحوهُ لكن جثة أخيها علقت بأحد الأغصانِ فجُرحت ذراعهُ بشدة، وحين شعرت بذلك، ونظرت نحوهُ أغشيَ عليها وكأنها أخيرًا استوعبت ما يَحدث.

حينما نهضت، نهضت على صوت المطر، غريزٌ جدًا، كانت السماء مغطّاةً بالغيوم، فبدأت بالبكاء عويلًا ، وهي تندُب حظها السيء على بقاءها حيّة.

كانت خائفة وترتعشُ من البردِ، وأصبحت تشعر بالتقزز من الرائحة، فاحتمت في جزع شجرةٍ ضخمة كانت مثقوبةً كَكهفٍ.

ونامت مجددًا.




كانَ المطَرُ خبرًا سيئًا على سَرمد وديڤاس فَهم لا يمتلكُون ما يَحتمُون بهِ، وكذَلك ابتلّت كُل الملَابس التي مَعهُم، لذا بَدءو يبحثُون سريعًا عن حمَىٰ يجلسُون تحتهُ لكن بدون جَدوى.

" لنركضُ حتى نتوغل سريعًا لعلّ كثافة الأشجارِ تقينَا من ذلك الوابل ". قال سَرمد واستمع لهُ ديڤاس وبدآ بالاسراع بالأحصنة.

كانت الرائحة تصبحُ بشعةً أكثرَ فأكثر والجثث تكثُر بشدة، فَعلما على الفور أنها منطقة كانت مُعمّرة بأناسٍ كثر على عكس أول الغَابة.

حاولا قدر الامكان اقفالَ حاسة الشمّ حتى لا يختنقا من هَولِ الرائحة، كما أجبرا عينيهما على عدم النظر.

وحين وصلَا عند النهرِ كانت الأشجار لا تحميهم حتى ولو واحدًا بالمئة لكنهمَا سمعا تحركاتٍ على العشبِ للحظات ثم اختفت.

كانت الجثث مترمّيةً ومتقطعةً بطريقة وحشية، وعند النهرِ توجد جثة وحيدة مشوهة فقط، أخذا حفنةً من الماء وجعلا الأحصنة تشرب وبدآ هما بالتحقق من المكان..

بعد ما يقارب الخمس دقائق وعند الشجرة الضخمة لاحظ ديڤاس الثقب الذي بداخل جذعها وانخفض لينظر، لَقِيَ جولنار، جاحظة عينيها من الخوف وهي ممسكةً بأخد الأغصان الحَادة.....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي