ورد.. وشوك بقلم: أحمد مكي

الزوج التائب`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-03-11ضع على الرف
  • 11K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

لملمت أشتات نفسي حزينا منكسرا، وركبت سيارتي مطلقا لها العنان، تتلوى على الطريق كما يتلوى الألم بين ضلوعي، وأنا أقطع دربا قطع كثيرا من عمري، لكن وقع اجتيازه هذه المرة كان له شعور من نوع مختلف، اقتطف من عيني أكثر من دمعة ومن القلب غصة تتلوها غصة، عندما أطلقت العنان للذاكرة تصول وتجول في حطام ما تبقى من مشاعر أجهد النفس كي أبرر إنسانيتها.
كنت أقود سيارتي وبالكاد أرى أمامي في تلك الليلة، ليس لأن المطر ينهمر بغزارة، وليس لأنني لا أعرف الطريق، بل لأن دموعي هي ما كان ينسدل من مقلتيّ حاجبا عني الرؤية إلى حد كبير، لم أكن أرى أن أمامي مجرد اسفلت يتلوى كما أتلوى، ولا مجرد أشجار تتمايل على حافتي خط سيري، ولا كون القمر كان مستترا تحت الغيوم، بل لأنني كنت أرى نفسي، ماضيّ، ذكرياتي، التي كانت تسبح متسارعة في لجّة أحزاني، فيما البال مشغول بأمور كثيرة.
كانت التساؤلات تنهال على الفكر ولا أعرف من أين أبدأ الإجابة عنها، هل أهدرت جزءا كبيرا من عمري هباء دون أن أحسب حسابا لهذه اللحظة، هل تسرّعت في اتخاذ الكثير من القرارات التي أدفع اليوم ثمنها، هل كان زواجي من امرأة ثانية مجرد غلطة، وأي غلطة، والأهم من ذلك، هل ستقبل حبّ حياتي توبتي وتصفح عني، هل ستفتح أمامي أكمام الحب الأول.. والأخير؟
كيف لامرأة أن تسامح من كان حبيبها، وربما لا يزال هو الحبيب نفسه، وقد طعنها يوما في صميم أنوثتها، عندما قرر أن يتزوج من أخرى من أجل إنجاب الأبناء، استغل ضعفها، حنانها وعاطفتها، عدم معارضتها بل وربما تشجيعه ضمنا على أن يتزوج بعد أن صارحته بأنها نصف امرأة والنصف الفارغ من الكوب، على الرغم من أنها وجهت رسالة مبطّنة، بأنها امرأة لا تستطيع أن تعيش في ظل امرأة أخرى.
هل أخطأت في تفسير الرسالة، أم ركبتُ موجة انكسارها في لحظة ضعف؟ هل كانت تستحق مني كل ما فعلت عندما حطمت كبرياءها، وهل هناك أثمن من كبرياء امرأة تصارع الوجع، ألم أن تكون صحراء مجدبة لا تنجب، ترنو إلى الحبيب أن ينقذها من هواجسها، أن يصرخ في وجهها أن كفى، أنت أو لا أحد؟
وعدت من سلاسل تساؤلاتي أدغدغ الذاكرة، أدلّكها على الرغم من أنني لم أكن في حاجة إلى ذلك، كانت كل حياتي الماضية ماثلة أمامي بوضوح في تلك اللحظات.
كنت أسير القلب، كسير الفؤاد، حبيس أخطائي، وأنا أتساءل.. هل ما كان بيننا انكسر، أم أنه انحنى ولم ينكسر؟
كنت أسعى إلى إجابة، أراهن على الحب، أضع عمري كله في كفّته، أتمنى أن ترجح، أن تُعيدني إلى الزمن الذي عشقته لكنني أسأت إليه، قتلته، طعنته، لم أترفق بالقارورة التي كانت جلّ عمري، بل حتى أنني هشّمتها بملء إرادتي.
وانسكب سيل من الذكريات وتمنيت أن يطول بي الطريق حتى لا أنسى نقطة أو فاصلة.
في أحد أيام شهر يونيو من سنة بعيدة توارت وراء أكثر من ثلاثين عاما، هي عمر زواجي الأول، كنت أقطع هذا الطريق وكاد الصبح أن يتنفّس، تغمرني الفرحة والسعادة وأنا جالس في المقعد الخلفي لسيارة يقودها أحد الأصدقاء وإلى جانبي حبيبة العمر وقتها.. زوجتي، ونحن نمني النفس ببداية مشوار حياة طيبة نبدأها سويا.. وبالرفاء والبنين.
في فجر ذلك اليوم.. وفي فرح طفولي تجلله براءة الأزواج حديثي العهد بنعمة "القفص الذهبي"، كنت أختلس النظر إلى محبوبتي، فتختلط نظراتها "المتلبسة" بنظراتي، يبتسم كلانا، والبسمة أعمق من الكلام، تحاكي القلب والعين، كيف لا وقد عاهدنا النفس على الإخلاص في الحب والسعادة والشقاء، بمعنى أشمل في السراء والضراء. إنها بداية الحياة الزوجية و"الشعارات" ضرورية لتتويج سعادتها. هكذا كنت أشعر باعتقاد فطري، وهكذا أسطر قصتي باعتقاد رسخه الواقع.. آه كم أعاني في الواقع.
أكاد أغرق في حلم عمره ثلاثون سنة، وربما أغرق نفسي فيه بمحض إرادتي.
كيف لا وقد أثمر هذا الحلم أبناء أفاخر بهم الدنيا وسنوات عمري الماضية وأيامي الآتية. لقد كانوا ثمرة حلم غرسته في حنايا نفسي ورويته بكل ما أملك من طاقة وصبر على العمل لأوفر لهم سبل العيش الكريم والمرفه في كنفي، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي غرس خنجره في قلبي، ناعيا لي ابني البكر، فأرداني قتيلا حيا أتقلب على مواجع الذكريات التي لن تعيد لي من فقدت.
ربما كنت أحاول الهروب من الواقع الذي سيداهمني بعد قليل مهما طالت مسافة الطريق، على الرغم من أنها ليست طويلة، وربما أيضا كنت أحاول أن أجد لنفسي بعض العذر حتى في هذه اللحظة الحاسمة، الفاصلة، أن أقدم بعض البراهين على أنني لم أخطئ كثيرا، وأن ما فعلته قد يفعله الكثيرون من الأزواج استجابة لنداء الأبوة.
هل كنت صادقا؟
أشك في ذلك، لن أستطيع منح نفسي صك براءة، لأنك عندما تكون أنت.. أنت، تحاور ذاتك، روحك، ضميرك لا ينبغي لك أن تكون غير صادق.
العذاب يعتصر قلبي وأنا أتقلب بين الذكريات، وهي تتقلب أمام ناظري، وعلى الرغم من أنني لم أسمح لنفسي أن تفسر سبب هذا العذاب، هل هو عذاب الضمير أم عذاب الألم بصحوة حياة جديدة أتمنى أن أحياها بعد أن أنكرتها متعمدا ومع سبق الترصد والإصرار، غير أنه كان عذابا شعرت بدفئه يسري في أرجاء جسدي، عذاب من نوع لم يألفه إلا من مر بمثل حالتي، لذلك أطلقت له العنان وأفسحت له المجال ليعبث بي كما يريد، مستسلما لحلم أود أن ينتظرني في نهاية الطريق.
لم أدر كيف وصلت إلى الحي الذي زغردت نساؤه في ليلة صيفية عمرها ثلاثون سنة، وأنا أترجل من السيارة متأبطا ذراع عروستي، زغردن بعفوية ومن دون سابق معرفة، في كرنفال فرح لف الجميع بحكم العادة، أو لنقل بحكم الانسانية المتآلفة، وكم أنا الآن في حاجة إلى مثل هذا الفرح يفتح لي الدرب ويعينني على استعادة رباطة جأشي، وأنا أعود إلى المواجهة من جديد، مواجهة أناس أحببتهم وأحبوني وصنعنا معا يوما حياة حلوة على الرغم مما اعتراها من مرارة.. هي لزوم الحياة الزوجية.
وأخيرا وصلت..
أطفأت محرك السيارة وترجلت لأستيقظ من أحلامي، توجهت نحو منزلي القديم.. الجديد وأنا أحمل في يدي كل ما أستطيع حمله من حب لأقدمه ثمنا للصفح والغفران.
وكأنني كنت أحاول أن أولد من جديد. ولادة من القلب هذه المرة، حيث لا يصرخ المولود وهو آت إلى دنياه الجديدة، لقد سبق له أن أطلق صرخته الأولى، هو يريد أن يفرح، أن يُطلق صرخة سعادة، غابت عن دنياه لفترة طويلة وإن كان يتجمّل أحيانا ويدّعي السعادة التي افتقدها كثيرا.. كثيرا.
بخطى لا أنكر أنها كانت متعثرة تقدمت ناحية الباب، بيد مرتجفة طرقته، وانتظرت لحظات خلتها دهرا. خلف الباب سمعت وقع خطوات أعرف دبيبها، إنها هي.. زوجتي الأولى أتت لتفتح الباب. رأتني طبعا من "العين السحرية"، أدركت دون أن أراها ما يجول في خاطرها، تسمّرت أمام الباب، سمعت صوت المفتاح يدور.. وبدأ اللقاء.. المواجهة.
كنت أدري ماذا كانت ستقول، كما أنها تدري سبب حضوري، في مثل هذا الوقت المتقدم من الليل وقد أوشك الفجر أن ينبلج.
تفضل بالدخول.. إنه بيتك أيضا.
هكذا فاجأتني بصوت ناعم يذيب الحديد والحجر الصوان، أعاد إلى قلبي أحاسيس وأشجان الأيام الخوالي.
لم أنتظر كثيرا. دخلت بسرعة إلى غرفة ابنتي التي مضى عليّ شهران دون أن أراها. كيف؟ لا أدري، بل ربما كنت أدري.
أمام الباب أحسست بأن عاطفة العالم كله تجسدت في قبضة باب، وأنا أداريها متجنبا أن تُحدث صريرا يزعج من كانت ولا تزال ملاكي الذي أحببت، وودعتها قبل أيام خلت عروسا بفستانها الأبيض ومعها ودعت رصيدا كبيرا من عمري، على الرغم من أنني أعرف مسبقا أنها لم تعد صغيرة بل أصبحت عروسا.. وأنها ليست في غرفتها.. هي في مكان آخر تبني مستقبلها مع شريك العمر الذي اختارته.
أخيرا وجدت نفسي في محراب الحب.. الفردوس الذي أضعته طائعا مختارا في يوم من الأيام. تهت بين الأغراض التي خلفتها ابنتي حبيبتي وراءها تذكارا لي ولأمها، كي لا ننسى أنها كانت هنا يوما وربما تعود لقضاء أيام في مربع طفولتها وصباها وشبابها.
حتى أغراضها حاذرت أن أوقظها من أحلامها، تأملت مليّا في بضع من الفساتين المعلقة بترتيب أنيق على حمّالة الملابس، كدت أشم عطرها فيها وعليها، ولكل فستان قصة تعيدني إلى زمن مضى، ذكرى حُفرت في الذاكرة.
وكعادتها وعهدي بها أنقذتني من الموقف، تماما كما كانت تفعل في الأيام الفائتة، تمد يد العون والمساعدة لي في كل وقت أحتاج فيه إلى المساعدة.. إنها زوجتي الأولى.. حبي الأول.. والأخير.
هي تدرك مدى تعلقي بابنتنا، التي كانت نور أعيننا، ربما خشيت عليّ أن أضيع بين دروب الذكريات فرغبت في أن تمد يد المساعدة، وربما لتستعجل أيضا الأسباب التي حدت بي إلى أن أحضر في هذا الوقت ولم أنتظر حتى الصباح.
فتحتُ نافذة الصالون وأنا أراقب الفجر الآتي من وراء الجبل، وكم كانت لي معه ذكريات، ومع قدومه أتمنى أن يضيء مستقبل أيامي فجر جديد.
نسيم الصباح بدأ يتسلل إلى الداخل، أستنشقه وكأنني أحاول أن أطهّر رئتيّ من أدران الماضي الذي عشته بعيدا عن هذا البيت.
على الطاولة كانت القهوة جاهزة، كما عهدتها دوما، وإلى جانبها علبة سجائر، ربما كانت من بقاياي التي تحتفظ بها طازجة في الثلاجة كما عوّدتها.
جلستْ إلى جانبي، ناولتني فنجان القهوة، وأشعلت لي سيجارة، وكأنها تريدني أن أغرق أكثر مما أنا غارق في خجلي الذي منعني من النظر إلى وجهها، إلى عينيها، جعلني أحني الرأس وأنا أنفث دخان سيجارتي، أرمقه كيف يتطاير، يتضاءل، هكذا كنت أتضاءل أمام نفسي وأنا أستعيد الذكرى.. ذكرى مفاجأتها بزواجي الثاني في أحد الأيام قبل سنين طويلة.
غريبة هي، على الرغم من أنني طعنتها في الصميم، وبالرغم من إهانتي لكرامتها كأنثى، غير أنها أبت أن أتضاءل، أبت أن تطعنني في كرامتي، أبت إلا أن تصون هذه الكرامة وتحافظ على ما تبقى من سعادة في بيت الزوجية، فارتضت أن تستمر الحياة بيننا منفصلين عن بعضنا مكانيا بالطبع، فاستمرار الحياة كان يعني بالنسبة لها.. ارتباطها الذي لا ينفصم بحبنا وابنتنا.
سحبت من سيجارتي نفسا عميقا أردفته برشفة من فنجان القهوة، أحسست بنظراتها الحارة ترمقني، تخترق حواجز قلبي، لتستقر في أعماق روحي وجوارحي وكأنها تحيطني بسياج من العطف والشفقة، رفعت رأسي نحوها، التقت نظراتنا، اصطدمت مكنونات نفسينا، اختلط عتابها الصامت مع إشارات ذنبي واعتذاري، أفسحت في المجال لأبدأ رحلة من عذاب الضمير.. سكتّ.. وبدأت الحديث.
استرخيت مستريحا على الأريكة وكل حواسي مشدودة لسماع خواطر حواسها أو بالأحرى أحاسيسها، وإن كنت لا أنكر أنني ضعت في تلك اللحظة بين تعريفي للحواس والأحاسيس، لأنني شعرت حينها بأن كل نبضة في خلايا جسدي المسترخي بارتعاش تنصت لأحاسيس كلامها المرتعش بهدوء، خصوصا وأن أنفاسها المتلاحقة كانت تلهب كل ذرة في وجداني الصاحي على أنغام التوبة.
سنون مرت، بدأت حديثها، دون أن أطلب منك تبريرا لما فعلت، على الرغم من أنني ما زلت على ذمتك، رضيت بأن أكون زوجة الظل، سلكت طريق الصمت لأحافظ على بيتي وحبي.
سنون مرت دون أن أرغم ظنوني على الجنوح بعيدا، لقد قيّدتها بكل ما أوتيت من قوة بحبال الواقع حفاظا على أسرة تعاهدنا معا يوما أن نكون لها السند، أن نبني ولا نهدم، أن نكون صنوا لها، لقد فعلت أنا وتخاذلت أنت.
سنون من عمري مرت وأنا أجهد النفس على الاقتناع بأن حظي العاثر ليس وقفا عليّ وحدي، فهناك غيري الكثيرات ممن مررن ويمررن بالتجربة نفسها، وإن كنت وإياهن نمني النفس أن تجنح بنا السعادة إلى أرقى ذرواتها، فلا تهوي بنا الأيام إلى ما هوت إليه.
سنون مرت ربما أذهلتك خلالها قوة صبري وجلدي فتماديت في ما ذهبت إليه واقترفته يداك، حتى نسيت أنني زوجة الظل وأن لي حقوقا عليك، دون أن تنسى واجبك تجاه ما يحافظ على شرعية بيتنا الذي هدمته دون أن تدري في يوم من الأيام، فهل أتيت الآن لتختبر مدى قوتي أم لتزيل القناع عن ضعفي، ضعفي كزوجة وأم؟ واليوم حق لي أن أسألك.. لماذا حطمت أحلامنا التي بنيناها معا؟ لماذا كسرت شراع سفينة حبنا وقد رفعته أنت في يوم من الأيام عاليا تتحدى كل الأمواج العاتية التي تترصد بكل سفينة في البحر. كنت قوي الإرادة، ماضي العزيمة، وكنت معك أقف من خلفك أنطق بكلمات الحب التي كانت تشد أزرك، وقد نجحنا في مواجهة أعاصير كثيرة يزخر بها معترك الحياة، ونحن كنا نخوض معا معترك الحياة.
هل كان حبي لك نقطة ضعف نفذت منها إلى ما تريد، دون أن تجشم نفسك عناء السؤال عن أحاسيسي ومشاعري، وأنت الذي خبرتها على مدى مئات الأيام.
هل كان إخلاصي لك صمام أمان تتستر في ظله من خوف من ضمير قد يصحو يوما على الحقيقة.
هل كان إيماني بمبادئك التي علمتني أنت إياها حصانا امتطيته ليجمح بك في طريق معاكس لما علمتني.. وقد فعلت؟
كنت أعتقد أن الحب يصنع المعجزات، وأن المحب يخلص لحبيبته. ألم تعلمني ذلك أنت عندما كنت تتلو على مسامعي أشعار الحب والغزل مغلفة بمبادئ حبك الزائف، وكأنك كنت تطير فوق سنوات عمرنا لتحط بك الحقيقة فوق رحال ما وصلت إليه اليوم؟
أيها العائد إلى بيتك.. الذي هجرته أخيرا، هل لك بالله عليك أن تشرح لي سببا واحدا مقنعا يبرر فعلتك، على الرغم من أنني حاولت جاهدة أن أجد لك الأعذار، خصوصا بعد رحيل ابنك البكر، فتماديت في نكراني وحتى عدم الاتصال بي.
كنت أدرك المصيبة التي ألمت بك وحتى بي، فمن فقدت هو ابنك من زوجتك الثانية ولكنني كنت أيضا أعتبره ابني، أليس هو قطعة منك وأنت قطعة مني، ألم أحمله يوما على صدري وأنا العاقر التي لم تنجب حينها، هل تدرك حقيقة أن تحمل زوجة ابن ضرتها، ربما تجاهلت تلك الأحاسيس.
هل نسيت يوم طرقت باب بيتك الثاني، لم أكن متخفية وراء خمار حتى لا تعرفني، فتفتح لي الباب، لأنك ربما لا تفعل لو عرفت حقيقة من الطارق.
هل تغافلت كيف التقت أعيننا في تلك اللحظة، أنت الأب المحتفل بأبوته، السعيد بطفله، وأنا الزوجة التي تكسّرت أشرعة سفينتها في بحر هائج، المرأة العاقر التي عجزت عن أن تحمي بيتها بطفل، مجرد طفل، يكون بالنسبة لها عنوان النجاة.
أيها العائد كيف طاوعك قلبك أن تنقطع عني لأشهر وأنا من حاولت جاهدة أن أبلسم جرح وجعك بفقدان ابنك.
ألم تسأل نفسك ماذا أفعل بعيدة عنك، وأنت العارف بأنني المُتيّمة بك على الرغم من كل ما فعلت، لأنك كنت يوما عنواني ولم أشأ أن أُضيّع العنوان أو يضيع مني، لذا حفظته بين جوارحي بالرغم من جروحي التي تسببت بها.
أيها الرجل، هل نسيت كم تألمت عندما تزوجت امرأة أخرى على أمل أن تنجب لك بنينا وبناتا عندما كنت أنا عاجزة عن أن أنجب.. لا أنكر أنني قد أكون دفعتك وقتها ربما عن غير قصد كي ترتبط بأخرى، وأنا الزوجة الضعيفة المقهورة المنكسرة المتألمة، فأخذت كلامي على محمل الجد، وبكل بساطة فاجأتني بعد أيام بنبأ زواجك، لتقتل في نفسي كل رغبة في الحياة والاستمرار معك، لكنني تحاملت على الجرح، وصبرت وثابرت على محاولة إقناع نفسي بأن ما فعلته أنت كان جديرا بأن تفعله، بل كان واجبا أن تفعله من أجل إنجاب الأبناء.


أيها الرجل، أنا لا أنكأ جراح الماضي فقد عشناه سويا بكل تفاصيله، أنا لا أدخل ساحة مواجهتك الآن من باب جرحك الكبير بفقدان ابنك، ولا لتسوية الحساب مع زوجتك الثانية، وهي التي فقدت فلذة كبدها، وهي التي تبكيني كل يوم على الحال الذي وصلت إليه. أنا أرثي لوضعها ومتعاطفة معها، هي ليست عدوتي وإن كانت ضرتي، وكم كنت أتمنى لو بقيت أنت معها وهجرتني، فربما تستحقك الآن أكثر مني.
بالله عليك أيها الرجل، إنني أسألك كيف طاوعك قلبك على أن تتركها وحيدة في مثل ظروفها.. وقد انكسر قلبها على رحيل فلذة كبدها.. طبعا أنت ربما لا تعرف حب الأم لأبنائها.. كنت أظن أنك تدرك معنى الأمومة لكن أنّى لك ذلك وأنت لم تختبرها.. نعم اختبرت التجربة كأب فقد ابنه.. لكن على الرغم من جرحك الكبير فإن جرح أمه أكبر.. نزيفها أكبر.. دموعها أغزر.. حنينها إلى الموت لترقد إلى جوار من فقدت أقوى من صلابتك التي تحاول أن توهم نفسك بأنك تمتلك ناصيتها.. هي أقوى منك على الرغم من ضعفها وقوتك.. أتعرف لماذا.. لأنها أم.
أيها المرتدي قناع التوبة الزائفة، هل لك أن ترشدني إلى طريق سلكته أنا خطأ في ماضي أيامي معك، لأتفحص خطئي، ربما أكون قد أخطأت.
أيها العائد إلى عهد مضى، ألم تقرأ يوما سيَرَ الحب وأنت المتباهي بالحب، المُدّعي أنك تعرف فنونه وفصوله، هل تعتقد أنك ستجد عندي اليوم ما تريد، ألم تقرأ في قصص الحب أوجاعا وآلاما، وأن في بعضها سرابا، وفي بعضها الآخر أعمارا تضيع، تتبخّر كما تتبخّر الأيام، تنسلّ من بين الضلوع، تتهاوى كبيت من الرمل أمام موجة تتكسر على الشاطئ..
أيها العائد.. هل بنيت بيتك على رمل، على صخر؟
هذا غيض من فيض ما عندي، وإن أردت فلديّ المزيد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي