الفصل الثالث

"تدرين، لماذا خراب ماضينا عاد ليحاضرنا؟ لتدنِّي المعرفة وغياب الوعي، نحن شعوب فقدت الوعي، سواء كنا فاعلًا أو مفعول به، استسلمنا لحالة إغماء، ولم نفق إلا إذا رج كلٌّ منا نفسه، فلتبدئي بنفسك الآن، وكفى عن التباكي".
حقيقة، كنت في حاجة لرج نفسي، لكن لمنعي من التفكير في هذا الرجل. شيئا ما فيه يأخذني، التزامه، مركزه، ثقافته، أو لعلها ابتسامته التي تنشر البهجة في الأجواء.
بل كان كل شيء في هذا الرجل مريح،حقيقة، لا أعرف ماذا، فقط أعرف أني مأخوذة به، مجرورة جر نحوه.
أنا لا أضاهيه في شيء أعرف، لكن على أتم الاستعداد أن أكون كل شيء وأنا معه، سأكمل تعليمى بعد الكلية، احصل على الماجستير، ومن ثم الدكتوراة، كى أضاهية في المكانة العلمية، أو أن أبذل قصاري جهدى في الكتابة، حتى أصير كاتبة كبيرة يفخر بها، بإمكاني أن أصبح شخصا افضل في وجوده، حتى على المستوى الدينى، سالتزم بالزى الشرعي، وبصورة الحجاب الصحيحة، بل لم يكن تدينى شكلى فقط مثل دفعتى المنكوبة تلك، بل سينعكس على سلوكي أيضا، تركت نفسي لخيالاتى، لو خدمتنى الأقدار، وجمعتني به .
تحيرت، هل أطلب صداقته ثانية في المربع الأزرق؟ ماذا لو سألني عن سبب حذفي إياه؟
ماذا ولو لم يقبل صداقتى مجددا ؟
لذلك خوفت من المجازفة، ولم أرسل الطلب، وقررت أني سأكتفي بمراسلته، ومتابعه منشوراته.
*****
" يبقي القمر مضيئًا حين لا يهرب من ظلمة الليل".
#ابن الرومي
كان هذا آخر منشور كتبه على صفحته، سألته:
-       هل كان لا بد من الظلمة في حياتنا كي نضيء؟
أجاب قائلا : لولا الظلمة ما أضأنا.
نزلت بعيني إلى ثاني منشور، كان أحد أقوال ابن الرومي أيضًا، يقول:
"ما تبحث عنه يبحث عنك".    
#ابن الرومي
كتبت له أسفل المنشور تعليقا، وقولت: لقد كذب صاحبك هذه المرة.
رد: صاحبي عاشق، والعاشق يأمل وكفى.
كان هذا أول معرفتي أنا بجلال الدين الرومي، وأول معرفتي أيضا بالجرح الذي يتسلل منه النور إلى باطني.
*****
ما عاد يشغلني شاغل سوى متابعة صفحته على الفيس بوك ومراقبتها، كان ذلك أول ما أفعله أول ما أفتح عينى في الصباح، وليال طويلة كنت أقضيها، وأنا أقلب في صفحته، كنت أتتبع الإعجابات، وأصحابها وصفحاتهم، أقرأ التعليقات، وأحللهاأ كلمة كلمة، بل حرفا حرف، وأفتش في أصدقائه، بل في نواياهم نحوه، الأمر الذي وصل بي ان افتش في صفحات أصدقاؤه البنات، وربط ما بينه وبينهن،بل تطور الأمر إلي أني أغضب لرده على إحداهن ردًّا طويلًا نبيلًا، ولو كان علميًّا.
لكن طبعا أحتفظ بغضبي لنفسي. المهم أنني أصبحت "سريقة صفحته.
بإمكان صفحة إلكترونية أن تسرقك، بل بإمكان صفحة الإلكترونية أن تسجنك طوال اليوم أمامها، لا تفعل شيئا سوى أنك تنغمس فيها.
كنت لا أكتفي بمرقبته فقط، بل قررت أن ألفت نظره إليا بكافة الطرق، فذات صباح وفي محاولة مني للحديث معه، أرسلت إليه بعضًا مما أكتب من قصص وشعر، وطلبت رأيه، عاد إلى اقتضابه المؤلم وروده البارده، قائلًا: جميل.
فهمت أن كلماتي لم ترُق له. آلمني ذلك، فسألته في محاوله لإطالة فترة الحوار: بماذا تنصحني؟
رد بكلمة وحيدة باردة، قائلا: بالقراءة.
لن أتركه، من باب أنني أريد أن أستفيد من جانب، ومن رغبتى في إطالة الحديث معه من جانب آخر، لذلك سألته: أقرأ لمن؟
أجاب:- للجميع، ليتكون أسلوبك الخاص.
شعرت بأنه لا يريد التحدث معي، لُمت نفسي على تطفلي عليه، وفرض حديثي عليه عنوة، خصوصا أنه يبدو عليه، أنه لا يحب الثرثرة، والكلام دون دافع قوىوأخذت عهدًا بألا أبدأ حديثًا معه أبدًا، بل سأحذفه من صفحتي، وينتهي الأمر.
تذكرت أني حذفته من قبل، فقط عليَّ أن أحذفه من رأسي، أنا أكف عن مطارداته في العالم الالكتروني، أن أعود لرشدى، ولن ولم أتحدث إليه بحجج واهية ثانية.
لم تنته نفسي اللوامة من عملها حتى جاءت رسالة منه، كتب فيها.
-       معذرة. كنت مشغولًا بكتابة بعض الأوراق، سأجيبك ردا مفصلا.
تهللت أساريري، وكأن شيئًا لم يكن، وكأني لم أقطع علي نفسي وعودا كثيرة منذ دقائق، وعدت إلى ثرثرتي من جديد!
تحدثنا، تكرر حديثنا واستمر عدة أيام، لكنه لم يخرج عن سيرة الكتب والكتاب، والثقافة والمثقفون، لم تعد إجابته مقتضبة بارده كالسابق ، بل كثيرا ما يبدأ هو بالكلام، وإن كان كلام يخص الثقافة، لا بأس، يكفى أنه يتكلم ويبدأ بكلامه معي .
على المستوى الشخصي، أنا ممتنة له على ما أحدثه في نفسيتي، التى كانت تغرق في مستنقعات الكأبة والضجر ، وحولنى لشخص هادئ مبتسم، يتصالح على الحياة القاسية الجافة، بل ومحبة لها.
يومى صار أجمل بوجوده، صار أفضل، حياتى كلها صار لها معنى، اما على المستوي الأدبي، فأنا مدينة له بالكثير أيضا، حيث ارشدنى إلى طريق المعرفة الصحيح، ووفر عليا وقتا طويل، حيث عرَّفني بباقة رائعة من أدب التراث، بل وتابع معي قراءتها على مر الأيام ، وأخذ يسألنى عن مدى استفادتي منها، ويناقشني في تفاصيلها، ويقابل جهلي بتواضع وأدب جم، وعلمنى كيف أقرأ للمتعة وكيف أقرأ بعقل ناقد يرفض التسليم لكل ما يقرأوه، بل يفنط وينقد ويفهم.
أجزم أنه آخر الرجال القارئين الخجولين، المرفوعين من الله لتواضعهم.
هذا الرجل أثر في، وفي كتاباتي، جعلها أكثر ثقل وأكثر قيمة، بل وفي شخصيتي كلها، حيث عرَّفني بالرافعي وأسلوبه، وعرفني بالمازني وسخريته، وأحمد حسن الزيات وأهم أعماله، وبقصص تيمور وعلي الجارم و"بوسطجي" يحي حقي، ولم يفته أن يحدثني عن ابن القيم ممليًا على أسماء كتبه، والإمام الغزالي وفكره، والحلاج ومأساته، كل ذلك كنا نتحدث فيه لمدة ساعات طويلة دون ملل أو كلل، أو إنشغال، رغم حديثنا الطويل الذي لا ينقطع هذا، لم يذكر لي شيئًا عن نفسه قط، ولا عن حياته الشخصية سواء من قريب أو من بعيد،ولم أسأل عنا بعد أحراجه لى في أول رسالة تعارف بيننا، بلولم أذكر له عن نفسيسوي أنني طالبة في كلية الآداب قسم اللغة العربية فيالفرقة الرابعة، من محافظة المنيا، وأقيم في القاهرة بغرض الدراسة، وفوق كل ذلك انا أتحسس طريقي الأدبي، وأتبعه مغمضة العينين، وبدون تفكير، كأني كفيف يمسك يد مبصرا، ويتبع خطواته خطوة بخطوة.
*****وجدت الله عنده، عند ذلك الشاب العشريني الذي يستحضر معية الخالق في كل شيء، ذلك الشاب الذي يملك نفسه حين يرغب، ويملك نفسه حين يرهب، وحين يغضب. هذا الشاب يعبد الله كأنه يراه، لذلك يخافه في كل كبيرة وفي كل صغيرة، وأنا كلما اقتربت منه اقتربت من الله، وعرفت أمور دينى أكثر فأكثر، هذا الشاب غير كل شباب الوقت الحالي، حيث كان شابا ملتزما بكل ما هو أخلاقي وبكل ما هو ديني، إضافة أنه شهم مقدام جدع.
وجدت نفسي أقرأ وأتفكر مثله، بل وأراقب أعمالي وأحاسب نفسي، ولم أعد اقصر في صلاتي، أو أوجلها، كما كنت أفعل من قبل، لاحظت "نور" صديقة عمري، التغيرات التى طرأت عليّ، سواء حجابي الجديد الطويل الذي يغطي جسدى كله ، ولبسي الواسع الفضفاص، الذي يشبه حجاب ولباس دفعتى المكتئبة المعقدة التى شكوت لها منهم كثيرا، ترأني وتستغرب من تبدل حالي وتغيير قناعاتى هكذا، بل كنت أتكلم بكلام الله ورسوله، في كل كبيرة وصغيرة كما يفعل هو، وهذا أمر جديد على ايضا، خاصة معها، ففي كل أيام صداقتى معها لم نتحدث عن الأديان ، لا أنا ولا هي ، كلا منا يحترم ويقدر معتقد الأخر ولا يناقشه فيه، لذلك فتحت فمها مندهشة، حينما طلبت منها ذات مساء، وفي جلسة صفاء بيننا كعادتنا، أن تدخل في الدين الإسلامى، وتترك المسيحية كى تنجو من عذاب الله، وعليها أن تشهد أن الله واحدا أحد لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، استغربتنى نور، فهى تعرفني أكثر من نفسي، . سألتني عن التغيير المفاجئ الذي حدث لي على كافة المستويات، وإن كانت تعرف السبب، لكنى أخبرتها عن الرجل "القوة، الذي أخرجني من ظلمات اليأس إلى قوة الأمل"، الرجل المعلم الناصح لا لشيء، سوى لوجه الله، بل لست أنا الوحيدة التي تعلمت وتغيرت على يده، فكثيرًا ما قرأت تعليقات الشكر والامتنان لشخصه الناصح القدوة سواء من بنات أو أولاد، صفحته ممتلئة بكلمات الشكر والإمتنان من كافة الأشخاص، بل كان منارة يهتدى بها طلابه، نعم فقد عمل سيادة المستشار محمود في هيئة تدريس الجامعة، قبل أن يعمل في القضاء، وكان معلما بحق وحقيق، وأسوة يتأسى به اغلب طلابه، فالجميع يشهد له بطيب الخلق ودماثته، فهو لين القلب بسيط في المعاملة، مرن التفكير، هكذا كان طلابه يصفونه في التعليقات، ولم يكفون عن شكره أنه كان سببا واضحا في هدايتهم نحو الطريق الحق المستقيم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي