الفصل الثانى

الفصل الثاني

تحبي أساعدك؟
التفت، كان في بذلة رمادية، مهندمة، وسيمًا رغم نحافته، أنيقًا رغم بساطته.
أجبته على استحياء:
-       لو مش هيعطلك، عايزه كتب في الأدب الأندلسي.
هز رأسه نافيًا، للدلالة على عدم عطلته، وابتسم، ليظهر ذلك العِرق الذي توسط جبهته، وتلك الفلالة بين أسنانه، ليزاد وسامة، ويزداد لطفا.
-       قال :عايزة إيه تحديدًا في الأدب الأندلسي؟
تحديدًا هو من لا حدود له في النبل واللطف.
أجبته: مميزات الشعر الأندلسي وخصائصه.
قلب في الكتب، لم تمر ثوانٍ، أخرج مرجعين، كأنه هو من وضعهما بيده.
همهمت قائلة: شكرًا جزيلًا.
ابتسم؛ ثمة ابتسامة تجعلك تأنس صاحبها ، بل كانت ما شجعني على سؤاله ثانية  : ممكنترشيحات كتب لشعراء الأندلس.
أخذ يتحدث ويسرد عن شعراء الأندلس خاصة، وبلاد الأندلس عامة، بل أدهشني بكمية من المعلومات عن الشعراء والأندلس، كأنه عائدا للتو من تلك البلاد.
من يكون هذا الرجل؟
لا يبدو عليه هوج الطلاب، ولا يوحي صغر سنه بأنه أستاذ في الجامعة. تُرى ما هذا النبل الذي تجسد في رجل!
رغم أنه تحدث وأطال في الحديث، إلا أنه لم يعرفني بنفسه، ولم يسألنى من أكون، فقد كان يشرح ويحكي عن الأندلس، وحينما أنتهى من حديثه، أستئذن للانصراف
انتهى لقاؤنا بابتسامة وكثير من كلمات الشكر.
ثلاثة أيام أتردد على المكتبة بنية لقائه، ولم أحظ. ثلاثة أيام امسح بنظري كل ركن في المكتبة، لعلي أجده، وبعدها بحثت كل ركن في الكلية نفسها، ولكني لم أجده أيضا، لا أدري لماذا أفعل!
شيئا في هذا الرجل يسحبني لمعرفته، شيئا ما يجبرني للقرب منه.
وبعد أن يئست من لقائه في المكتبة أو الكلية كلها لجأت إلى الشبكة العنكبوتية، فهو حتمًا متصل بأحد أطرافها. لكن عمن أبحث؟
لا أعرف سوى صورته التي تشبثت بالذاكرة، صورته التي لم تغيب عن رأسي منذ التقيت به، ترى ما اسمه؟ فتحت فيسبوك، وفي خانة البحث كتبت بالعربية، وبشكل عشوائي: "أحمد
بعدها كتبت محمد، ثم كتبت محمود- ...".
لم أعثر على شيء؛ظهرت لي أشخاص كثيرة، هو ليس من بينهم، لم أحبط، ولم أمل، لم أقل لنفسي، يكفي، فقد عاودت الكتابة بالإنجليزية: "Mahmoud"، وقبل إتمام الكلمة ظهر لي على الفور في نفس بذلته الرمادية، اسمه محمود، كان لأبد من أن يكون محمودًا.
ابتسمت ابتسامة المنتصر، بل هللت كما يهلل الأطفال، لم أتوقع أن اخمن اسمه الحقيقي هكذا ، ولم أتوقع أن أعثر عليه بهذه السرعة؛ يبدو أن ما خدمني هو العدد الكبير من الأصدقاء المشتركين بيننا، ممن لهم علاقة بالشعر والأدب، أو الثقافة بشكل عام.
تصفحت حسابه الشخصي، أو بالأحرى فحصته، قرأت كلمة منشورة فيه، كان كما توقعت رجلا مثقفا، متدينا؛ لكن تدينا غير تدين الدفعة المشؤمة تلك، كانت تمتليء صفحته بمعلومات ثقافية ودينية ومقالات لكبار العلماء والأدباء، وبعض من آرائه الشخصية في موضوعات مثيرة.
كان غير المتوقع، بل الصادم بالنسبة إليَّ، هو مهنته.
أرسلت له طلب صداقة، قَبِله على الفور، ما صوَّر لي أنه تعرَّف عليَّ.
أرسلت رسالة نصها:
"السلام عليك.
شكرًا لقبولي في قائمة أصدقائك ، لكن عندي سؤال:
أزاي قاضي وسنك صغير كده؟
ولا دي أمنية بتتمنها، ولا دي مهنة تمويهيه كعادة الفسابكة؟ قولت حملتي الاخيرة، وتبعتها بكتابة ضحكة " هههههه".
جاء رده مقتضبًا قاسيًا كصفعة على خدي، حيث قال:
-       معذرة. صفحتي للتواصل علميًّا فقط، إن لم تلتزمي بذلك سوف ألغي الصداقة.
حاولت تخفيف أثر كلماته القاسية تلك، فأرسلت:
"أنا شفق، اللي قابلت حضرتك في مكتبة كلية الآداب، وكلمتني عن الأندلس وأسباب ضياعه، ظننتك زميلًا لي، وفاجأتني مهنتك: لعلك ممن لم تمر السنين على ملامحهم، أعتذر بشدة عن كلامي.
رد بجفاف واقتضاب أيضًا، قائلا : أهلاً بك".
لا أدري كيف تحول نبله ولطفه وبشاشته، إلى بلاده وبلاهه !
لعلها لعنة الشاشة التي تجبرنا على إساءة الظن بالآخرين، بل وتجردنا من ذوقنا أحيانا، أو لعلها حساسيتي الزائدة تجاه الناس، والموقف لا يستحق كل هذا، المهم أنني غضبت من نفسي، قبل أن أغضب منه، لفعلى المتهور هذا، كان لا شيء يقلل من غضبي، ويهدي من روعي، إلا أن قمت بحذف صداقته من صفحتي غير آسفة.
*****
كنت أركض خلف الأيام، أو تركض خلفي الأيام؛ لا فارق. الفارق أنني لا أفعل شيئًا في هذه الأيام سوي أني أشيخ، ما أنام عليه أستيقظ عليه، وما استيقظ عليه أنام عليه لا جديد في يومي، ولا أفعل شيئًا مفيدًا في الحياة، حتى الجامعة أذهب إليها دون هدف، بل دون رغبة منى، لا جديد في يومي، بل يومي مليئا بالملل والكأبة، هكذا يُدفَن الأحياء!
انتابتني حالة من الرفض، تبعتها حالة من الحنق والضيق. يا ربي، هل خُقلنا لنحيا كل هذا الملل؟
تأففت مستغفرة، قمت للصلاة بحثًا عن الراحة في الحديث مع الله، فلا أحد يعلم شكوتي سواه. يا الله، أنا مفتقرة إليك، يا الله، دلني على من يدلني عليك، يا الله، أجعل لحياتي معني، أجعل لحياتي هدف، أنا تائهة، متخبطة، جريحة.
انتهيت من صلاتي، ولم ينته مللي، مسكت هاتفي، هاتفت أمي، لأطمئن عليها وأطمنها علي، حكيت لها على يومي في الجامعة، وشكوت لها من تعنت أساتذة الجامعة، ومن طالباتهم الكثيرة، نصحتني أمي بالصبر، وبالأجتهاد والمثابرة حتى أنهي دراستي وأنال الشهادة على خير، أوكعادتها لم تنس، أن توصيني بضرورة الإنتباه على حالي، والحفاظ على نفسي، وأن أكون على قدر الثقة التي وضعوها في، وعلى قدر المسؤلية، كان كلام أمي يضايقني ويصيبني بالحنق، حيث كنت أشعر أنها لا تثق في ولا في أخلاقي، ربما كانت تفعل ذلك من باب خوفها الشديد على، لكن مع تكرار كلامها هذا ، كانت تفقدنى ثقتي في نفسي، ورغم أني في السنة الأخيرة في الجامعة، ولازلت أمش على الصراط المستقيم، لم يحدث وأن فعلت اى شيء يدينني، إلا أني بعد كلامها كنت أشك في نفسي وفي سلوكي، ولا يزيدني ذلك إلا اهتزاز واضطرابا، فيجعلنى أنطوائية أكثر وخجول زيادة عن اللازم!
أنهيت مكالمتي، التى ندمت على أني أجريتها،ثم تصفحت تطبيق فيسبوك، فوجئت برسالة منه، لم أصدق عيني، نعم بإمكان العين أن تكذب.
رساله منه، ماذا تحمل يا ترى؟
هل راجع نفسه، فعرف كم كان جافًّا معي، فقرر أن يعتذر؟ هل لاحظ حذفي إياه من قائمة الأصدقاء، فأرسل يعاتبني؟
كان لا هذا ولا تلك، حيث كانت رسالة بأسماء كتب حديثة ترصد ضياع الأندلس.
اللعنة، متي أفيق من خيالاتي الساذجة ؟
متى اتوب عن توقعاتي التى دائما ما تخيب؟
ردَدتُ على رسالته بكلمات شكر قصيرة، كما يفعل معى، بعدها لم أقاوم رغبتي في التعرف عليه، فأخذته في محاولة لاستدراجه للكلام، والتأكد من أنه رجل المكتبة، الذي قبلته فربما لست هو نفس الشخص، لذلك يتعامل بجلافة.
كتبت له:
-       "خمسمئة عام نبكي على ضياع الأندلس. ماذا فعل لنا البكاء؟
المشهد يتكرر، والصمت هو الصمت، ونفس الضعف، نفس الخزي، ولا فائدة تُرجى منا. نحن أقوام آثرنا السلامة القريبة على الخراب البعيد، أنِسْنَا الهزائم، ولم نأنس بعضنا.
تدري، الهزيمة لا تأتي فقط من الأعداء، وإنما من داخلنا، الهزيمة تقبع في صدورنا، قبل بدء المعارك.
نحن أقوام لن تعظنا الدموع يا عزيزي، فخراب ماضينا عاد ليحاضرنا، وحاضرنا المخذل يحدد مستقبلنا، فلماذا البكاء.
بعد مرور دقائق أرسل:
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي