الفصل الرابع

في هدايتهم نحو الطريق الحق المستقيم.
ابتسمت نور التي لا تعرف سوى الابتسام.،لا يكف المجتمع عن التنمر ضدها، ولا تكف هي عن الابتسام.
أعرف نور منذ اثني عشر عامًا، حين التقينا في ساحة المدرسة. أذكرها طفلة ضئيلة بوجة جميل وقدم ميتة تحييها بعكاز، ما يمنعها من الركض واللعب مع زملائها ، فتجلس في ساحة المدرسة بسلام ، وكانت تمنعني انطوائيتي وحساسيتي الزائدة من مشاركتهم اللعب أيضا، فأجلس بجوارها. من هنا بدأت صداقتنا، وحتى الآن لم نفترق.
أذكر وانا صغيرة، رسمت صليبًا أخضر على يدي أكثر من مرة لأكن مثلها، وكثيرًا ما ذهبت معها إلى الكنيسة، لحضور قداس يوم الأحد، واذكر أن كثيرا ما وضعت هي على شعرها طرحة لتكون مثلي، تحضر معى الأعياد، وتأخذ من أبي عيدية مثلي تماما، بل والى الأن لا تأكل شيئا وهي معى طوال شهر رمضان، حتي عندما كبرنا وبقينا في سكن واحد، كانت لا تاكل وتنتظرنى افطر عند آذان المغرب، وحينما لم أرض بذلك، وعنفتها على بقائها بالجوع كل هذه الفترة، كانت تضيع جوعها بلقيمات صغيرة، تتناولها خفية في المطبخ، وبعيدا عن عيني، ونحن صغار ونحن كبار كنا يشارك بعضا البعض في أغلب طقوس كلا منا الدينية حتى لا يميز الرائي من منا مسلما، ومن منا مسيحيا !
لم ولن يحدث أبدا، أن تأثرت علاقتنا بالأحداث حولنا، فكثيرا ما يقع خلافا كبيرا بين أحد من المسلمين وآخر من المسيحين، يصل إلى إطلاق النار، بل وموت أو إصابة أحد الأطراف، وتقيم الدنيا ولا تقعد، حيث تشتعل الفتنة، وينفخ فيها، وتصير القطيعة، ويعم التهامس، والغمز واللمز، وكل مجموعة من نفس دين يتنزوى على نفسها، متجنبة الأخري المختلفة، بل يكن هناك إتفاق ضمنى صامت وغير معلن على معاداة المجموعة الأخري، كل ذلك لا يؤثر على علاقتنا، وقوتها، حتى وإن أعترص أحدا من أى من المجموعتين، أذكر أنها امتنعت عن الذهاب الى الكنيسة، ونحن في الثانوية العامة، حينما أمرها أحد الأباء هناك بقطع علاقتها بي، أو على الأقل تهميشها مخوفها منى، وعن ما اضمر لها من نوايا سيئة، فقد اكون اخطط لها أن تترك إيمانها، وتطرد من السماء!
وحينما دفعت عنى نور وعن قوة صداقتنا، التى لا تشيبها شائبة، نهرها هذا الأب، وعنف أمها التى لم تحسن التربية!
فما كان من نور إلا أنها أمتنعت عن الذهاب الى الكنيسة لفترة طويلة جدا، حتى لا تلتقي بهذا الأب ثانية، مفضلة صداقتي معها على أي شيء
كذلك انا كنت أتعرض لكثير من هذه المضايقات، فكثير ما يسخر منى أحدا من أقاربي الذين يحقدون على مدى ارتباطي بها في حين عدم قبولهم هم ، فكانوا لا يكفوا عن لومى، بل والتنمر على ، على التصاقي بهذه البنت المسيحية التى لا تضع حجابا، ولا تستر جسدها، بل ولا تعرف شيئا عن عبادة الله ، بل هي وأمها وأبيها كفار ، وأنا أصاحب وأحب الكفار ، لذلك سيعذبنى الله!
ما كان منى أنا أيضا الا البعد عنهم، بل والنفور منهم أكثر من الأول، ولن ولم أتخل عن نور وصداقتنا ابدا، بل لن اخجل من ارتباطنا القوى بعضنا لبعض. .
لم يقتصر مشاركتنا في المدرسة أو الجامعة فقط، بل نامت نور في بيتي، ونمت أنا في بيتها، كثيرا بعد ما كنا ننتهىى من مذاكرتنا متعبين، وحتى بعيدا عن المذاكرة، في المناسبات السعيدة مثل زواج اخي، بقيت نور معى ثلاثة أيام كاملين، كأنها فردا من اسرتي، لا أحدا من أقاربي يجرؤ على مس كرمتها بكلمة، وإن كانوا يضمرون لها غيظا وكراهية شديدة، لكن بمرور الوقت تقبلوها، بل واحبوها، أكلت من أكل نور، وأكلت من أكلي طوال أعوامنا معا. اثنا عشر عامًا وأنا أسير إلى جنب نور، ونور تسير بجانبي، ولم نفترق ولو ليوما واحدا.
نور كانت ولازالت مرآتي الصادقة التي أري فيها صورتي بوضوح، وأنا صديقتها التي تختلف عنها في كل شيء، ومع ذلك تبقي عليها، ولا يمكن أن تستبدل بها أخرى مهما حدث.
حاصرتنى بأسئلتها عن تغييري الكبير السريع المفاجئ، أخبرتها بقصه القاضي كاملة، منذ لقاء المكتبة، وحتى رسائل الفيس بوك، كانت تبتسم لسعادتي، لكن في النهاية حذرتني من آمالي العريضة، وأضغاث أحلامي، فهى تعرفني، وتعرف حماسي، واندفاعي، وتعرف انتكاساتي السريعة الكثيرة ايضا.
ثم شكرتنى على احساسي بالخوف عليها من العذاب والتهلكة، حينما تتبع دينا غير دين الإسلام، وأجابت أنني بالفعل أفضل منها لأنني فكرت في نجاتها وخوفت عليها ، فحين صمتت هى ولم تفكر في ذلك، حيث أنى في دينها الذي تؤمن بيه، انا ايضا مخطئة ومذنبة، وساطرد من الملكوت، ولن ابقى بجوار المسيح، لكنها أكملت أن صمتها كان خوفا على إيذاء مشاعري، أو لمس كرامتى، مما شعرني بالخجل من طلبي، صمت بضيق ، لكنها خففت من وطء ضيقي وخجلى
قائلة: يا شفق لكلا منا معتقده الخاص الذي يؤمن به ويرأه هو الأصح وهو الأدق، وما سواه باطل، يعذب صاحبه ، ولكلا منا أسبابه القوية، والمقنعة، لذلك الحديث والمناقشة في هذه المنطقة لا تجدي نفعا مع أي منا، وأنا لا أريد أن أخسرك لأي سببا كان، فأرجوك ساعديني.
ابتسمت لها وربتت على يدها، وقولت: عندك حق، لكلا منا معتقده الخاص به المقتنع تمام الأقناع بصحته، ثم أن الله يريدنا مختلفين، متنوعين، لندرك قيمة الأشياء، ولتتشابك الأحداث في الحياة، الله لو أردنا جميعا مسلمين، لفعل، وهو عليه هين، ولو أردنا جميعا مسيحيين لفعل أيضا ، لكنها حكمة الله ورحمته، أنا أعتذر لك يا نور عما صدر مني، وأعدك اني لا أعود لحديثي هذا معك ثانية.
قطعتنى نور محتجة، حيث قالت: لا يا شفق انا مش عايزكى تعتذر لى ابدا، أنا عارفة نيتك السليمة في طلبك ده، انك خايفه عليا من الجزاء ده ، وأنك تتمنى وجودى معاكي سوا دنيا أو آخره ، لذلك انا مش زعلانه منك ، ثم أننى عارفه أنا مابزعلش منك أبدا، لكن أنا وضحتلك الموقف عامل ازاى، ثم أنى لو هلوم عليكى في شيء، هلوم على تعلقك بالمستشار الالكترونى ده، وعلى عشمك الزايد فيه، وخصوصا أن الراجل ما وعدتكيش بحاجه ، وكلامه بعيد عن أي مشاعر ناحيتك، فحين أن انتى كل مشاعرك ناحيته ، ومش بتبصيله أنه معلم بتتعلمى منه بس، حتى لو ما صرحتيش بده قدامي، بس أنا عارفه.
تململت، حاولت الهرب من عين نور التى تحاصرنى، وتنتظر مني إجابة صادقة، ثم قولت : صح يا نور ، انا من ناحيتى مشاعر عاطفية ناحية المستشار محمود، كل شيء فيا بيتحرك، لما بتكلم معاه، حتى لو كتابة، وحتى لو كلام عن الكتب والكتاب ، وصح انتى عندك حق، هو مفيش حاجه من ناحيته ، لكن قوليلى اعمل ايه، اتصرف ازاى؟
انسان بتلاقي الراحة والسعادة في قربه، بتحبي الحياة كلها اللى كنتى كرهتيها ، بتتحسنى للأفضل وللأحسن في كل أمور حياتك، كل ده مايستهلش أنك تجازفي، أنك تغامري، ثم أن انا حاسه ان فيه قبول ليا عنده، بيعاملنى بلطف زياده عن الآخرين ، مش ممكن ده مع الوقت يتحول لحب، أو حتى لإعجاب يسمح بوجود علاقة رسمية، ليه لا ، إن كان هو مستشار ناجح ومؤثر، فأنا كاتبه، ومعاه هيكون لى مستقبل كبير، ليه لا يا نور، ليه اتحرم من الفرصة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي