4
نظر البرت الى الفراغ ثم تحد: على ذكر سيزار، اين هو؟ الم يأتيك منه شيء يذكر؟
تنهدت رايما ثم اضافت بضيق: اجل، لقد وصلني طيره الزاجل؛ و هو الان على الطريق، و لا اظنه سيحب هذا، سوف يغضب كثيراً.
نظر البرت في وجه رايما و تحدث مباشرة و جدياً: لا يحق لاي منا الاعتراض، لقد حُدد قدر و مصير اولريك بالفعل. و كنت اعلم ذلك منذ ان حملته بين ذراعاي كطفل صغير و هربت به الى هنا.
انهى البرت كلامه وهو يفرد كفي يديه امامه.
اومأت رايما برأسها ثم اضافت: بشأن هذا، انا لدي فضول كبير جداً لمعرفة التفاصيل. اخبرني ارجوك.
زفر البرت الهواء من فمه و اعاد نضاراته الى عينيه، ثم بدأ يتحدث معيداً شريط ذكرياته الى الوراء.
(عودة بالزمن الى الماضي)
حملت امرأة شقراء جميلة الوجه طفلها بين ذراعيها و قبلته ثم تلمست وجهه بخديها و عيناها تذرف الدموع.
قالت دون ان تتظر بوجه الاخر: خذ اولريك يا البرت.
قالت ذلك و هي ترفع جسده نحو الامام
فتقدم البرت و الذي كان يبدو اصغر سناً و شباباً من عمره الحالي، ليأخذ الطفل بين يديه و هو مايزال في مهده.
يغطي بعض من ملامح وجه البرت بقع من الوحل و الخدوش، بينما ذراعه مجروحة و مربوطة بوشاح ابيض تصبغ بلون دمه.
تحدث البرت بحزم و توسل لها لعلها تبدل رأيها: لماذا لا تعودين معي سمانثا؟
ابتسمت سامانثا: حياتي كلها هنا يا صديقي، لقد اخذوا زوجي امام عيناي ، و علي ان ابقى لألهيهم عن ابننا.
وضعت سمانثا يدها فوق رأس طفلها و دموعها لا تتوقف رغم القوة التي تنبعث من كلماتها: ابني الغالي والمحبوب كثيراً !!
البرت: هل هذا قرارك النهائي؟ ارجوك عودي معه و سوف أبقى انا هنا.
هزت سامانثا رأسها نافية: لا استطيع، علي ان اجد كاليد، اما اموت معه و اما نحيا معاً. لا يوجد شيء في الكون يستطيع ان يحنيني عن ارادتي هذه.
حاول البرت اقناعها بالعطف على طفلها: ماذا عن اولريك؟
ابتسمت سامانثا في وجهه و عيناها تبرق في العواطف: لديه انت ، نبيل ابن نبيل في ذلك العالم، و انا هناك مجرد خادمة ابنة خدم لذلك انا لن انفعه. انتَ كنت دائماً الى جانبي، و جئت بي معك الى هنا، و لا يوجد شيء يمكنني تقديمه لك ليكفي شكري و امتناني الذي اشعر به تجاهك. صدقني يا عزيزي.
بكى البرت و اهتاجت مشاعره بسبب كلماتها التي اثرت به كثيراً،ثم تحدث و الدموع تمر على شفتيه: ملكتي، ارجوكِ فلتأتي معي، و تنتظرين ان يكبر، سوف يكون كل شيء جاهز وقتها.
تحدثت مجيبة له: أو تسألني ان اخون شعبًا وثق بي ملكة لهم، و يراجعوني في كل امورهم؟.. لا والله لن افعل. اما الموت و اما النصر، فكما تعلم انت، الأمر ليس كما كان منذ مدة اعوام حيث بدأنا، الان نحن مسؤولون امامهم و امام الله. هناك ايضاً كاليد زوجي و ملكي!! هل نسيت امره؟
توقفت سمانثا على قدميها تجر ثوبها الابيض الذي يشبه القطعة المربوطة على ذراع البرت، و كان فستانها مجزوخاً لكنه كان عريضاً و طويلاً كفايا حتى لا يتم ملاحظته.
سامانثا: انا سمانثا الملكة الوحيدة، زوجة الملك كاليد، أمرك ايها الفارس ان تأخذ هذا الامير و تختفي عن هذا العالم معه.
اغمض البرت عيناه بينما يستمع الى ما تقوله الاخرى.
سامانثا: و ان قدر له العودة في يوماً من الايام، هو سوف يعود.
حنى البرت رأسه تعبيراً عن طاعته لأوامرها، و لم يكن يستطيع الانحناء بجسده اكثر بسبب جراحه المتفرقة، بالاضافة للطفل الذي بين يديه.
البرت: ملكتي.. سمعاً و طاعة.
استدارت سمانثا اليه و ابتسمت بلطف: الى اللقاء يا صديقي العزيز.
امسكت سمانثا القلادة التي تتدلى حول عنقها، ثم قطعتها و رمتها على الحائط، لتنفتح بوابة يظهر فيها تيار يدور بشكل لولبي كما لو كانت دوامة. ثم وقف البرت امام البوابة، لينطق ما في خاطره: انه ليس ابن صديقتي فقط.
ابتسمت الاخرى بطريقة مؤلمة، تنذر انه الوداع، وردت عليه بكل ثقة: اعلم... انه ابن اختك، لطالما عاملتني كأخت لك، و لم تقلل من شأني يوماً و ما زلت لم اوفيك دينك.
مسح البرت دموعه ثم نظر اليها ليحفظ ملامح وجهها لاخر مرة: سوف اعطيه اسمي الاخير، اذا لم يكن لديكِ مانع طبعاً.
سمانثا: هذا يسعدني.
اهتزت شفاه البرت و كان الحزن في قلبه لا يضاهي شيء في الوجود، ثم عبر البوابة التي أنغلقت خلفه بشكل تلقائي.
بينما وقفت سامانثا في مكانها و الدموع تتسابق على خديها. انطلقت عبر الممرات و غيرت ملابسها، لترتدي ثيابً كالفرسان مع عدة حديدة للوقاية من الطعنات.
ثم ربطت شعرها، و حملت سيفها حول خصرها لتكمل سيرها عبر الممرات و الغرف المحترقة، و التي تملئ اراضيها الجثث. ف وقف الى قربها رجلان و امرأة فنطقوا و هم يلحقون بها: ملكتي ..!
تحدثت سامانثا و هي تسير: لوكاس. بيتي، بارام .. انا سأذهب الى مكان ربما لن يكون منه عودة، من يريد حياته فليبقى، فالكتاب بأمان، لن تمتد شرور جيفار اكثر مما فعل. انتهى الامر وخرج من يده.
لوكاس: لا يوجد هناك شرف اعظم من الموت معك.
بيتي: اجل مولاتي.
بارام: مولاتي.. معك، الى الموت او النصر.
توقفت سمانثا و نظرت اليهم، ثم اضافت مع ابتسامتها: فلتنادوني بـ اسمي و لو لمرة واحدة كما كنتم تفعلون في البداية. ارجوكم ..
غرقت عينا بيتي بالدموع و بادلتها الابتسام
بيتي: اجل سامانثا
ثم ظهر صوت بارام ليجعلها تلتفت اليه: الى الموت او النصر سامي.
ضحكت سامانثا و اختلطت مشاعرها بين حزن و فرح، ثم نظرت الى لوكاس: اوه لوك، انت الوحيد الذي لم يتغير شكلك.
لوكاس: لانني إيلف لعين كما يقول بارام الغبي يا .. سامانثا.
انهمرت دموعها من جديد و فتحت ذراعيها لتعانق الثلاثة معاً في ان واحد ، مشكلين دائرة، و يلامسون مقدمة رؤوس بعضهم ببعضها.
سامانثا: هل انتم جاهزون لـ مغامرة اخيرة؟
الثلاثة: اجل في اي وقت.
ابتسمت سامانثا: اذاً هيا بنا.
تفرقوا جميعهم و اكملوا الطريق نحو جيادهم، ليركبوها، منطلقين في مهمتهم التي لا يعلمون إن كانوا سيعيشون بعدها ام لا.
(عودة للحاضر ...)
رايما: كيف علمتَ ما فعلوه؟
حرك البرت رأسه بحسرة: وصلني تخاطر بارام الاخير. ارسل الي صوراً لكن فورا ان انطلقوا قطع اتصاله و ودعني
تنهد البرت و اكمل: لقد كان صديقي الودود و المقرب.
غرقت عينا رايما بالدموع متأثرة بما سمعته: اذاً ، هم ماتوا؟!
البرت: لا اعلم، لكنني اظن ان بارام قد رحل، فالتواصل الذهني، هي ميزة اعطاها اياه حجره.
حاول بولين ان يسأل و هو متوتر : هل ..هل ..؟
لكن توماس قفز بسؤاله: هل حقاً ما تقوله ايها المعلم؟ هل تمزح معنا؟
بولين يؤيد الاخر، كما لو انه قال ما في خاطره: اجل.. هذا ما كنت اريد ان اسأله. كنت اظن ان هناك جن أو شياطين قد التبسته.
فتح البرت يده و بسطها كل البسط، ثم جعل دائرة حمراء تتوهج و تخرج من خلالها، لتستقر الدائرة امام الفتيان و تطوف في مكانها
توماس: اوه يا الهي ، إن هذا حقيقي..
انفلتت ضحكة فاهية من فم توماس ليرفع عينيه الى السقف، ثم يقع على الارض فاقداً للوعي.
بعد قليل فتح توماس عينيه ليجد بولين و رايما ينظران اليه و رؤوسهم فوق وجهه. ثم تحدث: هل انا ميت ؟
رايما: ليس بعد.
ارتسمت ضحكة جانبية على شفتي بولين. بينما يهز رأسه بيأس من حال صديقه. فمد يده ليمسك الاخر بها و يساعده على النهوض
تذكر توماس امر صديقه: ماذا حدث مع اولريك؟
حرك بولين كتفيه: لا نعلم لقد كنا مشغولين فيك.. كما تعلم!
شعر توماس بالاحراج: انه ..
بولين يسخر من الاخر: حسناً دعني احزر.. اهو رهاب الصدمات؟
توماس: اجل ، هذا هو.. أءحم و لكن اين هو المعلم البرت؟
بولين: انه مع اولريك.
اختلس توماس النظر فوجد البرت يمد يديه بأتجاه اولريك و يحيطه بحاجز شفاف لونه قرمزي.
همس توماس: ماذا يفعل ؟
وقفت رايما الى جانبه: يساعده على احتمال الألم.. ان هذا الشاب يعاني. ادعوا له ان يخرج من هذا حياً.
شعر بولين بالانزعاج منها اذ ظنها تتمنى الموت لصديقه: لما عساك تقولين هذا؟
رايما: اولريك هجين، دمه مختلط ما بين العالمين، لن يستطيع التأقلم بسرعة دون ألم. انه يصارع و سوف يعاني حتى يتعود.
بولين: انه قوي، يستطيع فعل ذلك.
رفعت رايما حاجبيها و اضافت نبرة صوتها بحيرة: اتمنى ذلك
شرد توماس بكلامها ف ابتعد عنهما و جلس على كرسي، يتيح له روية اولريك و البرت من بعيد، يمسك ركبتيه بكفيه و يضغط بـ اصابعه عليها بقوة جعلت لون اصابعه تبيض.
عيناه الواستعان بلونهما الاخضر تطلقان توسلاً بينما ينظر الى صديقه المضدجع، و شعره البني يتفرق في اتجاهات فوضوية، بينما بشرته الفاتحة تسمح للعروق الزرقاء تحت جلده بالبروز كلما شعر بالضغط و القلق.
بينما بولين يقف ضد الجدار يتكئ بظهره عليه و هو يلف ذراعيه حول صدره. شعره اسود قصير، عضم وجنتيه مرتفعان و عيناه مستديرة كعينا صقر بنظراتها الحادة. ارتفاعه يصل لل 178 متراً، عريض الكتفين و واسع الصدر مظهره يعطي مشهداً لفارس لا تنقصه سوى خوذة و لباس الحرب، يقف على أُهبة الاستعداد لأي طارئ.
توسعت عينا توماس بسعادة و هو يشاهد اولريك يفتح عيناه، بينما يرفع وجهه و ينظر الى السقف، لينطق فرحاً: لقد استيقظ ...
قال ذلك بسعادة فائقة تهلهل في تقسيمات وجهه، هذا الشعور لن يشعر به و لن يرسمه الا من لديه مشاعر حب حقيقية تجاهك.
ان يكون سعيداً بمجرد ان تفتح عينيك و تكون بخير!، هذا الشخص لن يأتي في حياتك دائماً، بل هو شخص نادر، عائلة لك و صديق و سند لظهرك في الايام الصعبة و الحالكة.
ما اجمل الصداقة المبنية على الصدق و ما اجمل ان تظهر تلك الصداقة بالمواقف.
سمع كلاً من بولين و رايما ما قاله توماس، فركض الاثنان يقتربان منه
، و يقفان الى جانبه، فنظرا الى اولريك الذي حَول شعاع عينيه نحو المعلم البرت، ثم تحدث بصوت محشرج كما لو كان قد نهض من تحت التراب: اين انا؟
'سعال'
ابعد البرت يديه، و ابتسم له و هو يمسح على رأس الاخر مطمئناً له: انتَ الان في غرفتي ، استرخي يا بني
رفع اولريك جذعه العلوي و استند بظهره على ظهر السرير الخشبي خلفه. يضع يديه حوله و يعتصر الملائة بين اصابعه، متحدثاً: رأسي.. يكاد يقتلني من شدة الألم !! لماذا؟
ظهرت ابتسامت البرت اسنانه و شعر بالارتياح ليتنهد قائلاً: الألم يعني اننا لم نخسرك، و هذا شيء اكثر من جيد بالنسبة لي ، اهلاً بك من جديد .. يا اولريك، انت قوي بالفطرة، هنيئاً لك يا بني
شعر اولريك بالحزن الشديد في عيني خاله و معلمه المدعو ب البرت، لقد شعر بعاطفة ابوية تنبعث من عيني الاخر، و الذي اصابه الحرج من نظر اولريك اليه دون انقطاع.
افرغ البرت حلقه ثم عاد اولريك الى الحديث مجدداً: انت كنتَ خائفاً ان تفقدني؟
رد البرت: بالطبع، اذا لم اخف عليك، اذاً على من كنت سأخاف؟
هز اولريك رأسه بهدوء، ثم تحدث مجدداً بينما عيناه على اوسعها: انت حقاً كنت تظن انني سأموت؟
اغلق البرت شفتيه ونظر في عيني اولريك القلقتان ، ثم تحدث معه باطنياً (اجل، كنتُ خائفاً عليك، انت تستطيع الان ان تقرأ افكاري؟ ، تستطيع سماعي !؟)
فتح اولريك عيناه بدهشة ثم تحدث بشفتيه المرتجفة: اجل، لكن الامر يثير الهلع فيني حقاً، مالذي يحدث لي؟.
البرت: لايوجد ما يدعو للخوف في هذا الامر.. لابد وانك جائع الان.
سمع الثلاثة كلام البرت الاخير بينما نهض من مكانه ليتوجه نحوهم: يمكنكم ان تذهبوا اليه، انا سوف احضر له شيئًا
اختفى البرت و اقترب توماس و بولين من السرير الذي يجلس اولريك فوقه، ف غرقت عينا توماس بلمعة من دموع الفرح ثم تحدث: شعرك يبدو اطول من ذي قبل!.
ابتسم اولريك: حقاً ؟ .. هذا غريب!
تقدم بولين: اهلاً بعودتك، لقد كنا قلقين جداً.
اولريك: عودتي؟
ثم تلمس صدره بألم: اه اشعر بألم يحرق صدري.
ظهر صوت رايما التي خرجت من خلف الستار لتقف امامه: انه الوشم
لم ينتبه اولريك الى كلامها الاخير. و رفع بصره ليلتقي بعينيها الحادتان. متعجبًا من وجودها: انت ؟! ..
علق بولين ساخراً، مع نبرته الجادة: انها كونتيسة هاربة
نظرت رايما الى بولين بطرف عينيها: توقف عن قول ذلك.
هي تستطيع ان تفهم تماماً ما يرمي اليه .
فـ شعر اولريك بالصداع يداهم رأسه ف امسك مقدمة جبينه بكلتا يديه ثم تأوه: اه هذا مؤلم، اللعنة.. توقف ، آه.
نظر الثلاثة اليه بتعجب، وكان حدس رايما يخبرها بالخطر، ف حدثت الاثنان: ابتعدا الى الخلف.
تراجع بولين مع توماس كما امرتهما، و لم يكن جديداً عليهما ان يطيعاها فـ الاوامر هي كل ما يتم القائها عليهم منذ ان اجتمعا بها في هذه الغرفة، ثم حاوط جسد اولريك توهج بلمعة فضية لفت انظارهم و كان لا يتجاوز بُعده انشاً واحد عن جسده.
فتحدث اولريك ب انزعاج: اشعر انني سأنفجر.
رفعت رايما نبرة صوتها و تحدثت بحزم: قاتله، عليك ان تفوز
نظر اولريك اليها و ملامح وجهه تتجعد، بينما يصر على اسنانه و يئن كذئب غاضب سينقض على فريسته: انه مؤلم حد الجحيم .
ثم نظرت رايما في عينيه مباشرة لتشدد على كلامها: قاتله.
لم تخف رايما، بل ضلت في مكانها تحدق في عينيه الزرقاء، التي تخللها السواد بينما ينظر اليها و كلماتها التشجيعية تجعل شيء في نفسه غاضباً يود سحقها بين يديه.
اغمضت رايما عينيها لتشعر بخطر كبير قد يندفع ب اي لحظة اليها، ف ارتسمت على جبهتها اشارة بيضاء على شكل دمعة، ثم ارتفع شعرها المموج ببطئ، فأصابت بولين و توماس اللذان يقفان خلفها بالذهول.
ازداد زئير اولريك و كاد يفقد السيطرة، لو لا انه حارب الشعور القوي و المتوحش في داخله، اغمض عينيه يذكر نفسه انه لا يستطيع اذية هذه الفتاة و صديقيه.
بدأت رايما تتمتم بكلمات غير مفهومة لمن حولها، ثم فتحت عيناها و رفعت نبرة صوتها كما لو كانت تعصفها ب وجه اولريك، الذي بدأت تقترب منه ليظهر لون ازرق يحيط بجسدها، و كان هذا اللون حاجزاً سيصد اي ضربة قد تتلقاها من القابع امامها، الذي عيناه تتجادح شرراً نحوها.
زئر اولريك بها مستخدماً خشونة صوته المرعبة: ابتعدي.. !
لم تنصت رايما اليه بل ضلت تقترب و تتمتم بذات اللغة التي يجهلها، ثم مدت يدها نحو رأسه، فشعر اولريك بالخطر ليقوم ب امساك معصم يدها التي اقتربت من جبهته، يعتصره بقوة كبيرة .
تلاحمت انظارهما و كانت ملامح رايما تظهر الألم، لكنها لم تتوقف عن الحديث.. بل استمرت بفعل ذلك و هي تتعمق كثيراً بالنظر في عينيه . كما لو كانت تحاربه معنوياً
ثم انقطعت الكلمات الغريبة التي كانت رايما تتحدث بها: دعني اساعدك.
ف اجابها اولريك بصعوبة بالغة بخشونة صوته الذي لا يستقر على نبرة معينة: قلت لك ابتعدي، سوف يقتلك
رايما: انت تبلي جيداً ، لن تدعه يؤذيني ، حاربه .. عليك ان تستمر .
اولريك: لا اظن انني استطيع الصمود اكثر .
رايما: انا اثفق بك ، و عليك ان تثق بي
بعد ثوانٍ من كلماتها التي جعلته يؤمن حقاً بما قالته .. ابعد اولريك يده و اطلق سراح معصمها لتلتصق كف يدها بجبهته على الفور . ثم تضاخم حجم الحاجز الذي يحيط بجسدها لــ يتوهج و يتلاحم مع الحاجز الاخر الذي يحيط بجسد اولريك،
فـ اختلطت الوان الحاجزان مع بعضهما فظهرا كشعلة من لهب . و بينما صراخ اولريك ملئ الغرفة انفلت الانين من فم رايما والتي حاولت بجهد كبير ان تسيطر على نفسها و على اولريك الذي بدأ الهدوء يظهره عليه بالتدريج
خفض اولريك رأسه للامام، وكاد يهوي الى الامام لولا ان كف رايما يسند جبهته.
بدأت رايما تراقبه بحذر و هي تبتسم لنجاحها ، ف بدأت جفون عيناه العلوية تنغلقان كلما حاول فتحهما ، لكنه في النهاية و على شكل غير متوقع وقع تحت تأثير النوم و اختفى الحاجز المتوهج من حوله اخيراً.
ثم ابعدت رايما يدها عن جبهة اولريك و اختفى الوهج من حولها، فشعرت بوهن في جسدها و ألم شديد داهم رأسها ليجعل كل ما تنظر اليه يهتز كما لو كان العالم يدور من حولها.
كانت تستطيع سماع صوت توماس مع بولين و هما يحدثانها من حيث يقفان ، فتحدث بولين بينما يمد ذراعه ليجعل توماس يقف خلفه مانعاً له من التقدم: انسة رايما، هل نستطيع الاقتراب ؟
تحدث توماس بينما يمسك بذراع بولين ليلتفت الاخر اليه: انها لا تبدو بخير، ماذا نفعل ؟
ارادت ان تنطق و تخبرهما ب نجاحها، لكنها عجزت عن الرد و شعرت بطاقتها تُسحب منها فـ رفعت رأسها للأعلى تنظر الى السقف، تحاول الصمود و التوازن و قبل ان يقترب بولين مع توماس اليها اغمضت رايما عيناها و تهاوت بجسدها نحو الامام لتقع على السرير قرب قدمي اولريك الذي مايزال بوضعيته ، ينام بينما هو جالس و رأسه منخفظًُ للامام.
اقترب بولين فتلاه توماس الذي فتح عيناه على مصراعيها: هل هي ميتة ؟
انزعج بولين من قوله و شعر بالغضب منه: توقف عن النذير بـ الشؤم ، انت كالبومة تماماً.. يا الهي .
اراد توماس ان بتحدث لكنه تراجع بعد ان تذكر المشهد الذي امامه، مع قلق كبير يسيطر على عقله .
توماس يعلم تماماً ان بولين ذو قلب طيب لكنه لا يستطيع ان يخفي ما في قلبه. فما في قلبه على لسانه و العكس صحيح كذلك
اقترب بولين من رايما و تحدث : كونتيسة . . هل انتِ بخير ؟ هل تستطيعين سماعي ؟
مد بولين يده نحو رايما ف اوقفه صوت توماس الذي صرخ: لا تلمسها..
نطر بولين الى توماس بتعجب ، ف اكمل توماس: ليس من اللائق ان تلمس انسة دون اذنها .!.
حرك بولين رأسه و رفع حاجبه الايسر: اوه حقاً ؟ هل هذا الوقت المناسب تماماً ؟.. انها فاقدة للوعي ايها الاحمق ، احتاج ان اتفقدها.
توماس: انا لا اعرف ، انا خائف . . و المعلم البرت لم يأتي بعد .
بولين: انا لا اعرف كذلك ، و انا خائف مثلك تماماً ، و اكثر ما يخيفني ان يستيقظ صديقنا المتوحش الان ، لذلك توقف عن التصرف كـ فتاة صغيرة مرتجفة و ساعدني بنقلها من هنا .. هيا تحرك .
انهى بولين هذا الكلام ليجعل الاخر يتحرك بسرعة فائقة و يقترب منهم ، ثم ثنى ركبتيه و امسك قدميها ، ليرفع نظره نحو الاخر : هيا.
غضب بولين من جديد و تحدث موضحاً تعليماته مرة اخرى للاصغر سنًا: اولاً علينا ان نقلبها.. هل انت احمق ، كيف سنحملها هكذا بحق خالق السماء ايها المغفل؟
ماذا عن توماس؟
الخوف الذي يشعر به توماس لا يجعله يفكر بشكل صحيح، و دائماً ما ينتهي به الامر، اما بموقف مضحك او مخزي كما يعتقد ، لكنه لا يعلم ان لولاه لما ضحك صديقاه يوماً.
هو شديد الحساسية عندما يحدث امراً يرتبط بشخصًا يحبه او معجب به، يشكل كلاً من بولين و اولريك و المعلم البرت على حد سواء عائلة له، و هو شخص متفائل و يرى الجانب المشرق من كل حدث يقع له و من حوله .لا يحب ان يفكر بالماضِ،
بل ينظر الى الامام ولا يدير ظهره له ، ربما لأنه الاصغر سناً بينهم ، يظن انه عالة لذلك هو دائماً يحرص على تدبير اموره و التخفيف عن اصدقاءه و باقي زملائه في الاكاديميا والملجئ.
هو يظن ان هذا قليل ، لكنه كثيراً جداً .. فمالذي قد يحتاجه الانسان. اذا كان هناك شخص مثل توماس بقربه ، يحب ان يشعر الجميع بـ الانتماء و الراحة و لا ينبذ احداً ، كما تم نبذه و القاءه في الشوارع منذ صغره .
توماس لا يعلم من هم اهله و لا يعلم اي احداً من حوله عن هويته شيئاً. فقط اسمه الذي كبر و هم يطلقونه عليه.
تنهدت رايما ثم اضافت بضيق: اجل، لقد وصلني طيره الزاجل؛ و هو الان على الطريق، و لا اظنه سيحب هذا، سوف يغضب كثيراً.
نظر البرت في وجه رايما و تحدث مباشرة و جدياً: لا يحق لاي منا الاعتراض، لقد حُدد قدر و مصير اولريك بالفعل. و كنت اعلم ذلك منذ ان حملته بين ذراعاي كطفل صغير و هربت به الى هنا.
انهى البرت كلامه وهو يفرد كفي يديه امامه.
اومأت رايما برأسها ثم اضافت: بشأن هذا، انا لدي فضول كبير جداً لمعرفة التفاصيل. اخبرني ارجوك.
زفر البرت الهواء من فمه و اعاد نضاراته الى عينيه، ثم بدأ يتحدث معيداً شريط ذكرياته الى الوراء.
(عودة بالزمن الى الماضي)
حملت امرأة شقراء جميلة الوجه طفلها بين ذراعيها و قبلته ثم تلمست وجهه بخديها و عيناها تذرف الدموع.
قالت دون ان تتظر بوجه الاخر: خذ اولريك يا البرت.
قالت ذلك و هي ترفع جسده نحو الامام
فتقدم البرت و الذي كان يبدو اصغر سناً و شباباً من عمره الحالي، ليأخذ الطفل بين يديه و هو مايزال في مهده.
يغطي بعض من ملامح وجه البرت بقع من الوحل و الخدوش، بينما ذراعه مجروحة و مربوطة بوشاح ابيض تصبغ بلون دمه.
تحدث البرت بحزم و توسل لها لعلها تبدل رأيها: لماذا لا تعودين معي سمانثا؟
ابتسمت سامانثا: حياتي كلها هنا يا صديقي، لقد اخذوا زوجي امام عيناي ، و علي ان ابقى لألهيهم عن ابننا.
وضعت سمانثا يدها فوق رأس طفلها و دموعها لا تتوقف رغم القوة التي تنبعث من كلماتها: ابني الغالي والمحبوب كثيراً !!
البرت: هل هذا قرارك النهائي؟ ارجوك عودي معه و سوف أبقى انا هنا.
هزت سامانثا رأسها نافية: لا استطيع، علي ان اجد كاليد، اما اموت معه و اما نحيا معاً. لا يوجد شيء في الكون يستطيع ان يحنيني عن ارادتي هذه.
حاول البرت اقناعها بالعطف على طفلها: ماذا عن اولريك؟
ابتسمت سامانثا في وجهه و عيناها تبرق في العواطف: لديه انت ، نبيل ابن نبيل في ذلك العالم، و انا هناك مجرد خادمة ابنة خدم لذلك انا لن انفعه. انتَ كنت دائماً الى جانبي، و جئت بي معك الى هنا، و لا يوجد شيء يمكنني تقديمه لك ليكفي شكري و امتناني الذي اشعر به تجاهك. صدقني يا عزيزي.
بكى البرت و اهتاجت مشاعره بسبب كلماتها التي اثرت به كثيراً،ثم تحدث و الدموع تمر على شفتيه: ملكتي، ارجوكِ فلتأتي معي، و تنتظرين ان يكبر، سوف يكون كل شيء جاهز وقتها.
تحدثت مجيبة له: أو تسألني ان اخون شعبًا وثق بي ملكة لهم، و يراجعوني في كل امورهم؟.. لا والله لن افعل. اما الموت و اما النصر، فكما تعلم انت، الأمر ليس كما كان منذ مدة اعوام حيث بدأنا، الان نحن مسؤولون امامهم و امام الله. هناك ايضاً كاليد زوجي و ملكي!! هل نسيت امره؟
توقفت سمانثا على قدميها تجر ثوبها الابيض الذي يشبه القطعة المربوطة على ذراع البرت، و كان فستانها مجزوخاً لكنه كان عريضاً و طويلاً كفايا حتى لا يتم ملاحظته.
سامانثا: انا سمانثا الملكة الوحيدة، زوجة الملك كاليد، أمرك ايها الفارس ان تأخذ هذا الامير و تختفي عن هذا العالم معه.
اغمض البرت عيناه بينما يستمع الى ما تقوله الاخرى.
سامانثا: و ان قدر له العودة في يوماً من الايام، هو سوف يعود.
حنى البرت رأسه تعبيراً عن طاعته لأوامرها، و لم يكن يستطيع الانحناء بجسده اكثر بسبب جراحه المتفرقة، بالاضافة للطفل الذي بين يديه.
البرت: ملكتي.. سمعاً و طاعة.
استدارت سمانثا اليه و ابتسمت بلطف: الى اللقاء يا صديقي العزيز.
امسكت سمانثا القلادة التي تتدلى حول عنقها، ثم قطعتها و رمتها على الحائط، لتنفتح بوابة يظهر فيها تيار يدور بشكل لولبي كما لو كانت دوامة. ثم وقف البرت امام البوابة، لينطق ما في خاطره: انه ليس ابن صديقتي فقط.
ابتسمت الاخرى بطريقة مؤلمة، تنذر انه الوداع، وردت عليه بكل ثقة: اعلم... انه ابن اختك، لطالما عاملتني كأخت لك، و لم تقلل من شأني يوماً و ما زلت لم اوفيك دينك.
مسح البرت دموعه ثم نظر اليها ليحفظ ملامح وجهها لاخر مرة: سوف اعطيه اسمي الاخير، اذا لم يكن لديكِ مانع طبعاً.
سمانثا: هذا يسعدني.
اهتزت شفاه البرت و كان الحزن في قلبه لا يضاهي شيء في الوجود، ثم عبر البوابة التي أنغلقت خلفه بشكل تلقائي.
بينما وقفت سامانثا في مكانها و الدموع تتسابق على خديها. انطلقت عبر الممرات و غيرت ملابسها، لترتدي ثيابً كالفرسان مع عدة حديدة للوقاية من الطعنات.
ثم ربطت شعرها، و حملت سيفها حول خصرها لتكمل سيرها عبر الممرات و الغرف المحترقة، و التي تملئ اراضيها الجثث. ف وقف الى قربها رجلان و امرأة فنطقوا و هم يلحقون بها: ملكتي ..!
تحدثت سامانثا و هي تسير: لوكاس. بيتي، بارام .. انا سأذهب الى مكان ربما لن يكون منه عودة، من يريد حياته فليبقى، فالكتاب بأمان، لن تمتد شرور جيفار اكثر مما فعل. انتهى الامر وخرج من يده.
لوكاس: لا يوجد هناك شرف اعظم من الموت معك.
بيتي: اجل مولاتي.
بارام: مولاتي.. معك، الى الموت او النصر.
توقفت سمانثا و نظرت اليهم، ثم اضافت مع ابتسامتها: فلتنادوني بـ اسمي و لو لمرة واحدة كما كنتم تفعلون في البداية. ارجوكم ..
غرقت عينا بيتي بالدموع و بادلتها الابتسام
بيتي: اجل سامانثا
ثم ظهر صوت بارام ليجعلها تلتفت اليه: الى الموت او النصر سامي.
ضحكت سامانثا و اختلطت مشاعرها بين حزن و فرح، ثم نظرت الى لوكاس: اوه لوك، انت الوحيد الذي لم يتغير شكلك.
لوكاس: لانني إيلف لعين كما يقول بارام الغبي يا .. سامانثا.
انهمرت دموعها من جديد و فتحت ذراعيها لتعانق الثلاثة معاً في ان واحد ، مشكلين دائرة، و يلامسون مقدمة رؤوس بعضهم ببعضها.
سامانثا: هل انتم جاهزون لـ مغامرة اخيرة؟
الثلاثة: اجل في اي وقت.
ابتسمت سامانثا: اذاً هيا بنا.
تفرقوا جميعهم و اكملوا الطريق نحو جيادهم، ليركبوها، منطلقين في مهمتهم التي لا يعلمون إن كانوا سيعيشون بعدها ام لا.
(عودة للحاضر ...)
رايما: كيف علمتَ ما فعلوه؟
حرك البرت رأسه بحسرة: وصلني تخاطر بارام الاخير. ارسل الي صوراً لكن فورا ان انطلقوا قطع اتصاله و ودعني
تنهد البرت و اكمل: لقد كان صديقي الودود و المقرب.
غرقت عينا رايما بالدموع متأثرة بما سمعته: اذاً ، هم ماتوا؟!
البرت: لا اعلم، لكنني اظن ان بارام قد رحل، فالتواصل الذهني، هي ميزة اعطاها اياه حجره.
حاول بولين ان يسأل و هو متوتر : هل ..هل ..؟
لكن توماس قفز بسؤاله: هل حقاً ما تقوله ايها المعلم؟ هل تمزح معنا؟
بولين يؤيد الاخر، كما لو انه قال ما في خاطره: اجل.. هذا ما كنت اريد ان اسأله. كنت اظن ان هناك جن أو شياطين قد التبسته.
فتح البرت يده و بسطها كل البسط، ثم جعل دائرة حمراء تتوهج و تخرج من خلالها، لتستقر الدائرة امام الفتيان و تطوف في مكانها
توماس: اوه يا الهي ، إن هذا حقيقي..
انفلتت ضحكة فاهية من فم توماس ليرفع عينيه الى السقف، ثم يقع على الارض فاقداً للوعي.
بعد قليل فتح توماس عينيه ليجد بولين و رايما ينظران اليه و رؤوسهم فوق وجهه. ثم تحدث: هل انا ميت ؟
رايما: ليس بعد.
ارتسمت ضحكة جانبية على شفتي بولين. بينما يهز رأسه بيأس من حال صديقه. فمد يده ليمسك الاخر بها و يساعده على النهوض
تذكر توماس امر صديقه: ماذا حدث مع اولريك؟
حرك بولين كتفيه: لا نعلم لقد كنا مشغولين فيك.. كما تعلم!
شعر توماس بالاحراج: انه ..
بولين يسخر من الاخر: حسناً دعني احزر.. اهو رهاب الصدمات؟
توماس: اجل ، هذا هو.. أءحم و لكن اين هو المعلم البرت؟
بولين: انه مع اولريك.
اختلس توماس النظر فوجد البرت يمد يديه بأتجاه اولريك و يحيطه بحاجز شفاف لونه قرمزي.
همس توماس: ماذا يفعل ؟
وقفت رايما الى جانبه: يساعده على احتمال الألم.. ان هذا الشاب يعاني. ادعوا له ان يخرج من هذا حياً.
شعر بولين بالانزعاج منها اذ ظنها تتمنى الموت لصديقه: لما عساك تقولين هذا؟
رايما: اولريك هجين، دمه مختلط ما بين العالمين، لن يستطيع التأقلم بسرعة دون ألم. انه يصارع و سوف يعاني حتى يتعود.
بولين: انه قوي، يستطيع فعل ذلك.
رفعت رايما حاجبيها و اضافت نبرة صوتها بحيرة: اتمنى ذلك
شرد توماس بكلامها ف ابتعد عنهما و جلس على كرسي، يتيح له روية اولريك و البرت من بعيد، يمسك ركبتيه بكفيه و يضغط بـ اصابعه عليها بقوة جعلت لون اصابعه تبيض.
عيناه الواستعان بلونهما الاخضر تطلقان توسلاً بينما ينظر الى صديقه المضدجع، و شعره البني يتفرق في اتجاهات فوضوية، بينما بشرته الفاتحة تسمح للعروق الزرقاء تحت جلده بالبروز كلما شعر بالضغط و القلق.
بينما بولين يقف ضد الجدار يتكئ بظهره عليه و هو يلف ذراعيه حول صدره. شعره اسود قصير، عضم وجنتيه مرتفعان و عيناه مستديرة كعينا صقر بنظراتها الحادة. ارتفاعه يصل لل 178 متراً، عريض الكتفين و واسع الصدر مظهره يعطي مشهداً لفارس لا تنقصه سوى خوذة و لباس الحرب، يقف على أُهبة الاستعداد لأي طارئ.
توسعت عينا توماس بسعادة و هو يشاهد اولريك يفتح عيناه، بينما يرفع وجهه و ينظر الى السقف، لينطق فرحاً: لقد استيقظ ...
قال ذلك بسعادة فائقة تهلهل في تقسيمات وجهه، هذا الشعور لن يشعر به و لن يرسمه الا من لديه مشاعر حب حقيقية تجاهك.
ان يكون سعيداً بمجرد ان تفتح عينيك و تكون بخير!، هذا الشخص لن يأتي في حياتك دائماً، بل هو شخص نادر، عائلة لك و صديق و سند لظهرك في الايام الصعبة و الحالكة.
ما اجمل الصداقة المبنية على الصدق و ما اجمل ان تظهر تلك الصداقة بالمواقف.
سمع كلاً من بولين و رايما ما قاله توماس، فركض الاثنان يقتربان منه
، و يقفان الى جانبه، فنظرا الى اولريك الذي حَول شعاع عينيه نحو المعلم البرت، ثم تحدث بصوت محشرج كما لو كان قد نهض من تحت التراب: اين انا؟
'سعال'
ابعد البرت يديه، و ابتسم له و هو يمسح على رأس الاخر مطمئناً له: انتَ الان في غرفتي ، استرخي يا بني
رفع اولريك جذعه العلوي و استند بظهره على ظهر السرير الخشبي خلفه. يضع يديه حوله و يعتصر الملائة بين اصابعه، متحدثاً: رأسي.. يكاد يقتلني من شدة الألم !! لماذا؟
ظهرت ابتسامت البرت اسنانه و شعر بالارتياح ليتنهد قائلاً: الألم يعني اننا لم نخسرك، و هذا شيء اكثر من جيد بالنسبة لي ، اهلاً بك من جديد .. يا اولريك، انت قوي بالفطرة، هنيئاً لك يا بني
شعر اولريك بالحزن الشديد في عيني خاله و معلمه المدعو ب البرت، لقد شعر بعاطفة ابوية تنبعث من عيني الاخر، و الذي اصابه الحرج من نظر اولريك اليه دون انقطاع.
افرغ البرت حلقه ثم عاد اولريك الى الحديث مجدداً: انت كنتَ خائفاً ان تفقدني؟
رد البرت: بالطبع، اذا لم اخف عليك، اذاً على من كنت سأخاف؟
هز اولريك رأسه بهدوء، ثم تحدث مجدداً بينما عيناه على اوسعها: انت حقاً كنت تظن انني سأموت؟
اغلق البرت شفتيه ونظر في عيني اولريك القلقتان ، ثم تحدث معه باطنياً (اجل، كنتُ خائفاً عليك، انت تستطيع الان ان تقرأ افكاري؟ ، تستطيع سماعي !؟)
فتح اولريك عيناه بدهشة ثم تحدث بشفتيه المرتجفة: اجل، لكن الامر يثير الهلع فيني حقاً، مالذي يحدث لي؟.
البرت: لايوجد ما يدعو للخوف في هذا الامر.. لابد وانك جائع الان.
سمع الثلاثة كلام البرت الاخير بينما نهض من مكانه ليتوجه نحوهم: يمكنكم ان تذهبوا اليه، انا سوف احضر له شيئًا
اختفى البرت و اقترب توماس و بولين من السرير الذي يجلس اولريك فوقه، ف غرقت عينا توماس بلمعة من دموع الفرح ثم تحدث: شعرك يبدو اطول من ذي قبل!.
ابتسم اولريك: حقاً ؟ .. هذا غريب!
تقدم بولين: اهلاً بعودتك، لقد كنا قلقين جداً.
اولريك: عودتي؟
ثم تلمس صدره بألم: اه اشعر بألم يحرق صدري.
ظهر صوت رايما التي خرجت من خلف الستار لتقف امامه: انه الوشم
لم ينتبه اولريك الى كلامها الاخير. و رفع بصره ليلتقي بعينيها الحادتان. متعجبًا من وجودها: انت ؟! ..
علق بولين ساخراً، مع نبرته الجادة: انها كونتيسة هاربة
نظرت رايما الى بولين بطرف عينيها: توقف عن قول ذلك.
هي تستطيع ان تفهم تماماً ما يرمي اليه .
فـ شعر اولريك بالصداع يداهم رأسه ف امسك مقدمة جبينه بكلتا يديه ثم تأوه: اه هذا مؤلم، اللعنة.. توقف ، آه.
نظر الثلاثة اليه بتعجب، وكان حدس رايما يخبرها بالخطر، ف حدثت الاثنان: ابتعدا الى الخلف.
تراجع بولين مع توماس كما امرتهما، و لم يكن جديداً عليهما ان يطيعاها فـ الاوامر هي كل ما يتم القائها عليهم منذ ان اجتمعا بها في هذه الغرفة، ثم حاوط جسد اولريك توهج بلمعة فضية لفت انظارهم و كان لا يتجاوز بُعده انشاً واحد عن جسده.
فتحدث اولريك ب انزعاج: اشعر انني سأنفجر.
رفعت رايما نبرة صوتها و تحدثت بحزم: قاتله، عليك ان تفوز
نظر اولريك اليها و ملامح وجهه تتجعد، بينما يصر على اسنانه و يئن كذئب غاضب سينقض على فريسته: انه مؤلم حد الجحيم .
ثم نظرت رايما في عينيه مباشرة لتشدد على كلامها: قاتله.
لم تخف رايما، بل ضلت في مكانها تحدق في عينيه الزرقاء، التي تخللها السواد بينما ينظر اليها و كلماتها التشجيعية تجعل شيء في نفسه غاضباً يود سحقها بين يديه.
اغمضت رايما عينيها لتشعر بخطر كبير قد يندفع ب اي لحظة اليها، ف ارتسمت على جبهتها اشارة بيضاء على شكل دمعة، ثم ارتفع شعرها المموج ببطئ، فأصابت بولين و توماس اللذان يقفان خلفها بالذهول.
ازداد زئير اولريك و كاد يفقد السيطرة، لو لا انه حارب الشعور القوي و المتوحش في داخله، اغمض عينيه يذكر نفسه انه لا يستطيع اذية هذه الفتاة و صديقيه.
بدأت رايما تتمتم بكلمات غير مفهومة لمن حولها، ثم فتحت عيناها و رفعت نبرة صوتها كما لو كانت تعصفها ب وجه اولريك، الذي بدأت تقترب منه ليظهر لون ازرق يحيط بجسدها، و كان هذا اللون حاجزاً سيصد اي ضربة قد تتلقاها من القابع امامها، الذي عيناه تتجادح شرراً نحوها.
زئر اولريك بها مستخدماً خشونة صوته المرعبة: ابتعدي.. !
لم تنصت رايما اليه بل ضلت تقترب و تتمتم بذات اللغة التي يجهلها، ثم مدت يدها نحو رأسه، فشعر اولريك بالخطر ليقوم ب امساك معصم يدها التي اقتربت من جبهته، يعتصره بقوة كبيرة .
تلاحمت انظارهما و كانت ملامح رايما تظهر الألم، لكنها لم تتوقف عن الحديث.. بل استمرت بفعل ذلك و هي تتعمق كثيراً بالنظر في عينيه . كما لو كانت تحاربه معنوياً
ثم انقطعت الكلمات الغريبة التي كانت رايما تتحدث بها: دعني اساعدك.
ف اجابها اولريك بصعوبة بالغة بخشونة صوته الذي لا يستقر على نبرة معينة: قلت لك ابتعدي، سوف يقتلك
رايما: انت تبلي جيداً ، لن تدعه يؤذيني ، حاربه .. عليك ان تستمر .
اولريك: لا اظن انني استطيع الصمود اكثر .
رايما: انا اثفق بك ، و عليك ان تثق بي
بعد ثوانٍ من كلماتها التي جعلته يؤمن حقاً بما قالته .. ابعد اولريك يده و اطلق سراح معصمها لتلتصق كف يدها بجبهته على الفور . ثم تضاخم حجم الحاجز الذي يحيط بجسدها لــ يتوهج و يتلاحم مع الحاجز الاخر الذي يحيط بجسد اولريك،
فـ اختلطت الوان الحاجزان مع بعضهما فظهرا كشعلة من لهب . و بينما صراخ اولريك ملئ الغرفة انفلت الانين من فم رايما والتي حاولت بجهد كبير ان تسيطر على نفسها و على اولريك الذي بدأ الهدوء يظهره عليه بالتدريج
خفض اولريك رأسه للامام، وكاد يهوي الى الامام لولا ان كف رايما يسند جبهته.
بدأت رايما تراقبه بحذر و هي تبتسم لنجاحها ، ف بدأت جفون عيناه العلوية تنغلقان كلما حاول فتحهما ، لكنه في النهاية و على شكل غير متوقع وقع تحت تأثير النوم و اختفى الحاجز المتوهج من حوله اخيراً.
ثم ابعدت رايما يدها عن جبهة اولريك و اختفى الوهج من حولها، فشعرت بوهن في جسدها و ألم شديد داهم رأسها ليجعل كل ما تنظر اليه يهتز كما لو كان العالم يدور من حولها.
كانت تستطيع سماع صوت توماس مع بولين و هما يحدثانها من حيث يقفان ، فتحدث بولين بينما يمد ذراعه ليجعل توماس يقف خلفه مانعاً له من التقدم: انسة رايما، هل نستطيع الاقتراب ؟
تحدث توماس بينما يمسك بذراع بولين ليلتفت الاخر اليه: انها لا تبدو بخير، ماذا نفعل ؟
ارادت ان تنطق و تخبرهما ب نجاحها، لكنها عجزت عن الرد و شعرت بطاقتها تُسحب منها فـ رفعت رأسها للأعلى تنظر الى السقف، تحاول الصمود و التوازن و قبل ان يقترب بولين مع توماس اليها اغمضت رايما عيناها و تهاوت بجسدها نحو الامام لتقع على السرير قرب قدمي اولريك الذي مايزال بوضعيته ، ينام بينما هو جالس و رأسه منخفظًُ للامام.
اقترب بولين فتلاه توماس الذي فتح عيناه على مصراعيها: هل هي ميتة ؟
انزعج بولين من قوله و شعر بالغضب منه: توقف عن النذير بـ الشؤم ، انت كالبومة تماماً.. يا الهي .
اراد توماس ان بتحدث لكنه تراجع بعد ان تذكر المشهد الذي امامه، مع قلق كبير يسيطر على عقله .
توماس يعلم تماماً ان بولين ذو قلب طيب لكنه لا يستطيع ان يخفي ما في قلبه. فما في قلبه على لسانه و العكس صحيح كذلك
اقترب بولين من رايما و تحدث : كونتيسة . . هل انتِ بخير ؟ هل تستطيعين سماعي ؟
مد بولين يده نحو رايما ف اوقفه صوت توماس الذي صرخ: لا تلمسها..
نطر بولين الى توماس بتعجب ، ف اكمل توماس: ليس من اللائق ان تلمس انسة دون اذنها .!.
حرك بولين رأسه و رفع حاجبه الايسر: اوه حقاً ؟ هل هذا الوقت المناسب تماماً ؟.. انها فاقدة للوعي ايها الاحمق ، احتاج ان اتفقدها.
توماس: انا لا اعرف ، انا خائف . . و المعلم البرت لم يأتي بعد .
بولين: انا لا اعرف كذلك ، و انا خائف مثلك تماماً ، و اكثر ما يخيفني ان يستيقظ صديقنا المتوحش الان ، لذلك توقف عن التصرف كـ فتاة صغيرة مرتجفة و ساعدني بنقلها من هنا .. هيا تحرك .
انهى بولين هذا الكلام ليجعل الاخر يتحرك بسرعة فائقة و يقترب منهم ، ثم ثنى ركبتيه و امسك قدميها ، ليرفع نظره نحو الاخر : هيا.
غضب بولين من جديد و تحدث موضحاً تعليماته مرة اخرى للاصغر سنًا: اولاً علينا ان نقلبها.. هل انت احمق ، كيف سنحملها هكذا بحق خالق السماء ايها المغفل؟
ماذا عن توماس؟
الخوف الذي يشعر به توماس لا يجعله يفكر بشكل صحيح، و دائماً ما ينتهي به الامر، اما بموقف مضحك او مخزي كما يعتقد ، لكنه لا يعلم ان لولاه لما ضحك صديقاه يوماً.
هو شديد الحساسية عندما يحدث امراً يرتبط بشخصًا يحبه او معجب به، يشكل كلاً من بولين و اولريك و المعلم البرت على حد سواء عائلة له، و هو شخص متفائل و يرى الجانب المشرق من كل حدث يقع له و من حوله .لا يحب ان يفكر بالماضِ،
بل ينظر الى الامام ولا يدير ظهره له ، ربما لأنه الاصغر سناً بينهم ، يظن انه عالة لذلك هو دائماً يحرص على تدبير اموره و التخفيف عن اصدقاءه و باقي زملائه في الاكاديميا والملجئ.
هو يظن ان هذا قليل ، لكنه كثيراً جداً .. فمالذي قد يحتاجه الانسان. اذا كان هناك شخص مثل توماس بقربه ، يحب ان يشعر الجميع بـ الانتماء و الراحة و لا ينبذ احداً ، كما تم نبذه و القاءه في الشوارع منذ صغره .
توماس لا يعلم من هم اهله و لا يعلم اي احداً من حوله عن هويته شيئاً. فقط اسمه الذي كبر و هم يطلقونه عليه.