الفصل الثالث
وحل صباح الأربعاء ليستيقظ فارس بصداع شديد لم يقوى على اثره رفع رأسه عن الوسادة ، تذكر بتذمر أن حقيبته الطبية مازالت في السيارة منذ ليلة وصوله المشؤوم وأن لا مسكن لوجع الرأس لديه في الغرفة ، طالع ساعة يده ليجدها لم تتجاوز الثامنة صباحا بعد ، نهض متثاقلاً نحو غرفة والدته ليتناول من أدويتها المسكنة التي تملأ جارور سريرها، سار فارس في الرواق المؤدي إلى حجرتها ولكنه توقف فجأة مذهولا ، ففي بادئ الأمر كان شذى العطر الذي استنشق عبيره في الرواق ليس بغريب عليه ، بل إنه أصابه بألم معوي مفاجئ لا يدري كنهه ، ثم كانت الصدمة التالية عندما لمح ذلك الطيف المتشح بالسواد والذي يوليه ظهره مغادرا حجرة والدته بسرعة بعد أن أغلق الباب ، ذعر فارس ووجد نفسه دون تفكير ينادي عليها :
- إنتظري ، أهذه أنت ؟ سولاف توقفي ؟
ولكن ذلك الخيال تابع مسرعا لينسل بخفة على درجات السرايا الضخمة ولتبتلعه ظلمة السلالم الضخمة ، فاق فارس من صدمته وتقدم مسرعاً ليطرق باب غرفة والدته بحذر ثم فتحه ليجد كل مافيها على حاله ، سرير طبي ضخم وجسد هزيل يتدثر في أغطية دافئة نظيفة ويفوح منها عطر زهور منعشة كأنه سكب فوق تلك الأغطية للتو ، اقترب فارس ليجدها مستيقظة وقد التف شعرها المسرح بعناية في خصلات رمادية ناعمة حول وجهها الصبوح ، أمسك كفها يقبل تلك العروق التي برزت من شدة ماعانت من هزال ومرض .
- صباح الخير يا أم فارس ، كيف حالك اليوم ؟
نظرت إليه بنظرة العتاب التي لا تفارق عينيها :
- صباح النور يا بني، غريب حضورك الباكرإليّ هكذا ؟ !
ارتبك فارس ومسح على شعره وقال :
- في الحقيقة لقد استيقظت بصداع شديد ، جئت لأرى إن كان لديك مسكن يمكنني استخدامه .
- أجل بني لديّ الكثير ، خذ ماتشاء .
تناول فارس قرصين من أول علبة صادفته ثم قال بعد تردد :
- أمي ، أنا لست متأكداً ولكن ، هل من رأيتها الآن تغادر غرفتك كانت ؟ !
- سولاف ؟ أجل انها هي . .
- وما الذي تفعله عندك في هذا الوقت المبكر من الصباح ؟
- لقد جاءت اليوم استثناءا لأنها لن تستطيع المجيء غدا ، كما تعلم فغدا هو يوم زفافها ، إن كن تتذكر يعني ؟
لم يبتسم فارس لمزحة والدته التي لم تزده إلا توترا وقال بامتعاض :
- وما الذي تعنيه بمجيئها اليوم بدلا عن الغد ؟
- لأن الخميس هو في العادة موعدها الأسبوعي لزيارتي .
- ولم تزورك سولاف كل خميس ؟ أعني كنت أظنها لا تأتي إلى هنا مطلقا ، إلى السرايا يعني .
- بلى انها تأتي كل خميس ، تأتي ومنذ أكثر من عامين لم تقطع هذه العادة يوما .
- ولكني لم أرها في حياتي هنا .
بعتاب حنون أجابته :
- ومتى كنت أنت هنا أساساً يا بني ؟ إن كنت تأتي في العام كله مرة أو مرتان وفي كل مرة لا تتجاوز اليومين ، ثم حتى في فترات تواجدك ، هى كانت تأتي في الصباح الباكر و . .
كان فارس يشعر بتشوش كبير جعله يتجاهل ملام والدته ليقاطعها :
- ولكن ، ما السبب ؟ ولماذا في الصباح الباكر بالذات ؟
- لأنها طالبة ، لذا تأتي قبل ذهابها إلى المعهد ، ففي المساء لا يسمح لها عمك أو سعيد بمغادرة المنزل ، ولأن حمامي الصباحي يستغرق وقتاً فهي .
هتف فارس غير مصدق لما يسمع :
- حمام صباحي !
- أجل ، بنيتي جزاها الله خيرا تساعدني في تمارين العلاج الطبيعي الأسبوعية أولا ، ثم في الاستحمام وتغيير أغطيتي وتعطيرها والعناية ب . .
- ماذا، ولكن مهلا ، أذكر جيداً أنني سابقاً قد وظفت ممرضة وخادمة خصيصا لهذا الأمر ، وكنت عندما أسال فاطمة عنهم تجيب بأن . .
- فاطمة كانت تجيبك بأن كل شئ على ما يرام ، دون ذكر تفاصيل ، أليس كذلك ؟
- أجل ، ولكن ما كل هذه الألغاز أمي ؟
- لأن أختك لا تحب أن يعلم أحدا بأن سولاف هي من تعتني بي ، لأنها تخجل أن تتهم بالتقصير إتجاهي ، لست ألومها ، هي ليست مهملة ، ولكنها تخاف ، تقول بأنها تخشى إن إنزلقت من بين يديها أثناء الاستحمام ، أو إن قامت بتمارين ساقي بشكل خاطئ ، فلن تسامح نفسها ، تظن بأنها لا تملك الشجاعة الكافية للعناية بشخص حالته صعبة كحالتي ،
- ولكن أمي ما هذا الهراء ؟ تطلبين مساعدة من طفلة لا خبرة لها وترسلين ممرضة متمرسة الله أعلم إلى أين ،
- أنا لم أرسل أي أحد إلى أي مكان ، الخادمة ما زالت هنا أما تلك الممرضة في مرة ارتكبت خطأً فادحاً حين أوقعتني عن السرير بسبب إنشغالها بهاتفها الجوال ،
- يا إلهي كل ذلك يحدث ولا علم لدي ،
- أراد جدك مهاتفتك وإخبارك ولكنني منعته ، لم أشأ أن تقلق دون داع ،
- وماذا حدث بعد ذلك ؟
- يومها كانت سولاف قد حضرت لزيارتي ، رأت ما حدث وكيف أن جدك طرد تلك الممرضة وحينها توسلت إليه سولاف كثيرا أن تقوم هي بهذه المهمة .
- لماذا لست أفهم ؟ شفقة أم إحسان يعني ؟
- لا هذا ولا ذاك يافارس ما بك متحامل على الفتاة المسكينة ، هي طلبت من جدك ذلك فقط ، فقط لأنها سولاف ،
- بمعنى ! ؟
- بمعنى أنك لو كنت تعرفها مثلنا لفهمت قصدي ، سولاف فتاة من نوع خاص ، لديها إحساس عالٍ بغيرها وقلبها ملئ بحب الخير والعطاء ،
باشمئزاز قال :
- هل هذا فاصل إعلاني لإيقاعي في حبها أمي رجاءاً كفى ؟
- لست أقول سوى الحقيقة التي يعرفها كل من عاشرها ،
- لنعد لموضوعنا رجاءاً ،
- حسناً ، كنت أخبرك بأنها قد توسلت جدك وأخبرته بأنه لا يجب تركي لأيدي الغرباء يعتنون بي بينما هي موجودة ،
- ولكنها مجازفة يا أمي وتهور ، ماذا لو إنزلقتي وأنت معها فهي فتاة ضئيلة الحجم و ، أظن أن فاطمة كانت أكثر حكمة منها في عدم مجازفتها بلعب دور الممرضة ،
نظرت إليه أمه بإبتسامة متفهمة لخوفه ثم قالت :
- سولاف تعرف الكثير من مجال دراستها المقارب لوضعي ، ثم ليتك رأيتها كيف ثابرت مع مدرب العلاج الطبيعي الذي كان يزورني حتى تعلمت منه كل أسرار التمرين ومهارات التدليك ، لو تعلم كم مرة ذهبت إلى مركز العجزة في البلدة لتتعلم أصول العناية بطريحي الفراش ، لا تقلق بني فأنا في أمان معها ،
إزدا غضب فارس أكثر ليقول بحزم :
- ولكن على هذا الأمر أن يتوقف أمي ، نحن لا نحتاج لخدمات من أحد ، ولو كنت علمت بذلك قبلا لكنت وظفت لك عشر خادمات وعشر ممرضات حتى أرجع تلك الطفلة لبيتها ،
نظرت إليه أمه طويلا ثم تمتمت بحزن :
- سولاف ليست طفلة ، كفاك حجج واعذار ، لا ترغب في جميلها حتى لا تشعر بأنك مدين لها بشيئ أليس كذلك ؟ تخاف أن تصبح ممتنا لها فلا تعد قادراً على طردها من حياتك بسهولة ، أليست هذه مخاوفك صغيري ؟
استدار فارس متجها إلى النافذة وهو يفرك عنقه بقوة وبيأس تمتم :
- وهل تركتم لي الخيار يا أمي ؟ هل يمكنني الآن طردها والإستيقاظ من هذا الكابوس والعودة إلى حياتي السابقة ؟ وهل أعطيتم لرجل في الثلاثين من عمره حرية الإختيار ، ألست أنا خروف العيد الذي تجرونه غدا إلى المذبح قرباناً لفاطمة وسعيد وكل فرد في العشيرة ؟ ، فالجميع يستحق هذه التضحية وليحترق فارس وحياة فارس ومستقبله ،
ابتسمت بصبر وتمتمت :
- لن أرد عليك حبيبي ، من الواضح إنك تعاني من ضغوط جعلتك تفكر بهذا الشكل ، لو أنك فقط ترضى بأن الخيرة فيما اختاره الله لك ،
- الخيرة فيما اختاره الله يا أمي ، وليس فيما إختاره جدي ،
- استغفر ربك يا بني ، ما كان جدك إلا وسيلة من عند الله ليجمعك بأجمل أقدارك صدقني ،
- أمي أرجوك ،
تنهدت وتابعت بأمل :
- أتعرف حين سألتها اليوم عن إحساسها بأنها غدا ستزف إليك بماذا أجابتني ؟ لقد قالت لي بخجلها المعتاد أنها لطالما سألت الله في دعاءها أن يختار لها زوجها لا أن يخيّرها ولأنها تراك خيار الله لها فهي راضية به تمام الرضا بل وسعيدة كذلك ،
ورغم أن كلمات سولاف التي جاءت على لسان والدته قد قشعرت جلد فارس رغما عنه إلا أنه صاح معاندا :
- نحن لا نتزوج عندما نرضى عن الشريك يا أمي ، هناك أسباب أكبر وأعمق ، نحن نتزوج عندما نتوافق فكريا وروحياً معه ، عندما نتعلق به بشدة ونبدأ بفهمه بعمق ومن الداخل ، وننجذب إليه بقوة حتى لا نرى غير ذلك الشخص من حولنا ، ثم نحبه بصدق ، وإلى أن نعشقه بجنون ربما حينها فقط نقرر ربط مصيرنا بمصيره إلى الأبد ، هذا ما كنت أظنه عن الزواج حتى يومنا هذا ،
تجاهلت والدته نبرته الساخطة وحادت بنظراتها نحو إطار الصورة المذهب الذي يزين طاولة سريرها الجانبية ، كانت الصورة تضمها هي في المنتصف حيث جلست في يوم ربيعي مشمس على كرسيها المتحرك في حديقة السرايا وبذراعها الأيمن تحتضن فاطمة وبالأيسر تحتضن إبنتها البكر عائشة والتي تكبر فارس بعامين أما عند قدميها فقد افترشت الأرض صغيرة بحجاب أبيض وبشرة شاحبة ووجه لا تكاد ملامحه تظهر في الصورة ، كانت تلك سولاف وفي حضنها أصغر أطفال عائشة التي كانت قد زارتهم زيارة مفاجأة في ذلك اليوم ،
عادت أم فارس ببصرها إلى صغيرها الذي وجدته يحدق في الصورة وكأنه يرغب في تمييز ملامح تلك الطفلة التي ستصبح في الغد زوجة له ، تنهدت بسعادة داخلية ظهرت جلية على محياها :
- يصعب علي أن أقنعك الآن وأنت في هذه الحالة من الإصرار والرغبة في عناد كل من حولك ، ولكن أعدك بني ، أعدك بقلبي الذي لا يريد لك إلا كل الخير بأنك ستحبها بل وستعشقها ، وقريبا جدا كذلك ،
لم يفتح فارس فمه بكلمة بعد ذلك ، فقط خرج من عند والدته بصداع أشد إيلاماً من الذي دخل به إلى الغرفة ،
بحلول الليل بدأت الحركة والضوضاء الصاخبة في حديقة قصر الآغا المجاور لسرايا عائلة فارس ، كان حينها فارس يعتقل نفسه في غرفته ويراقب المشهد من نافذته المظلمة ، كانت التحضيرات لليلة الحناء التقليدية تجري على قدم وساق ، أضواء ملونة تعلق على أعمدة القصر من كل جانب وقدور ضخمة من أطعمة معدة في أرقى مطاعم خطاي تدخل من البوابة الرئيسية لتوزع على الموائد ، وإستعراض تقليدي للخيول من جهة ورقصات محلية لرجال الآغا وأبناء عمومته من جهة أخرى ، كان فارس يطالع ذلك المشهد وكأن الأمر لا يعنيه بصلة وكأن كل تلك الترتيبات والهرج والمرج يعود إلى عريس آخر وليس له هو ، وبينما هو سارح بأفكاره السوداوية سمع صوت رسالة نصية تصل على جواله ، فتحها ليجدها من سعيد وقد كتب فيها :
-، مرحبا يا عريس ، ألن تأتي لنراقبهم وهم يضعون لهن الحناء ؟ أنا أنتظر وصول فاطمة بفارغ الصبر أما عروسك فقد حضرت ، هيا ماذا تنتظر ؟،
تملك فارس في تلك اللحظة ألف إحساس متشابك بآخر ، غضب من الآغا وندم لإنه لم يهرب وخوف من المجهول الذى ينتظره غداً ، تمهل قليلا قبل أن يجيبه برسالة كتب فيها :
-، مبارك يا إبن عمي ، أعذرني ولكني لا أحبذ الزحام ، نلتقي غداً بإذن الله ، ، مرت ثوان قبل أن يأتيه جواب سعيد :
-، أتعني أنك لن تحضر سهرة توديع العزوبية التي أعدها الآغا شخصيا على شرفنا ؟ هيا لا تكن مملا أيها الطبيب ،،
-، للأسف لن أتمكن من حضورها لأنني أنام مبكراً في العادة ، إستمتع أنت يا صديقي .
- ، فارس أنت بخير ؟ هل آت إليك لنتحدث ؟ أهو بخصوص سولاف ؟ هل هناك ما تخفيه عني ؟ حالك لا يعجبني .
- ، أبدا يا أخي ، أختك ستكون أمانة عندي وأنا بخير ، مجرد نعاس شديد ، تصبح على خير .
- ، احلام سعيدة يا صديقي ، ولا تحلم بأختي وإلا أطلقت عليك النار، ومعها العديد من الوجوه الضاحكة ،
- ، إذن أنت أيضا غير مسموح لك بأن تحلم بأختي ، كان فارس يرسل رده مجاملة وهو يتمنى من داخله أن يرمي الجوال من النافذة بدلا عن هذا المزاح المزيف والنفاق ،
- متعادلان يا عريس ، نلتقي .
استبدل فارس ثيابه ودخل فراشه ليضع على أذنيه سماعات ضخمة الحجم ويشغل من جواله موسيقى بتهوفن المفضلة لديه وذلك حتى لا يسمع ما يدور في الأسفل ، بعد حين أضاء جواله حيث جاءته رسالة من فاطمة ، فتحها ليجد فيها صورة لفتاة ترتدي الأحمر الفضفاض المرصع بأبهى الزخارف والتطريز وقد غطوا رأسها ووجهها بخمار أحمر يغمر جسدها الصغير وقد امتدت يداها شديدة البياض مفرودة تغطيها أقراص مستديرة من الحناء مع عملات نقد مذهبة ، ومع الصورة وجد رسالة نصية تقول فيها :
- ، ها هي عروسك تبكي أسفل خمارها لأنها ستفارق أهلها ، ولكني أعلم بأنك منذ الغد ستغنيها بعطفك وقلبك الكبير عن كل أحبتها ، أحبك جدا وأطلب عفوك يا أخي الحبيب ، اعلم أنك غاضب ولكن لاحقاً ستشكرني على ما فعلت .
أقفل فارس جواله بسرعة ورماه على الأرض ثم دفن رأسه أسفل وسادته ونام نوماً متقطعا لا أحلام فيه ولا كوابيس ، وجاء الغد سريعا وبحلول ذلك اليوم المنتظر شعر فارس بنفسه وكأنه أسد مغدور مسجون في قفص لا يقوى على الهجوم ولا حتى الدفاع عن نفسه ،
بعد خروجه من الحمام يلف مرتديا معطف الاستحمام ويجفف شعره بالمنشفة ، وجد أمامه شقيقته عائشة التي لم يرها منذ وقت طويل جدا ، كانت تنتظره في غرفة النوم ممسكة بيدها بذلة رجالية سوداء اللون وفخمة جدا ، فهم فارس مباشرة بأن جده الآغا هو من أرسلها ، ركضت نحوه أخته فعانقته بقوة وباركت له وأخبرته بأن بيت الآغا عامر منذ الصباح الباكر بالضيوف من كل حدب وصوب وأن الآغا يطلب منه أن يحضر نفسه وينزل ليستقبل معه المهنئين ،
- أهذا فقط ما جئت من أجله يا عائشة ؟ أليس لديك ما ترغبين في قوله لي يا شقيقتي ومكمن أسرار طفولتي ؟ أم أنك تآمرتي معهم أنت أيضا ؟
- حبيبي لا تفكر هكذا أرجوك ، أقسم لك بحياة صغاري الأربعة الذين لا أملك في الدنيا أغلى منهم بأنه لو كان الأمر بيدي لما تركتهم يجبرونك على شيئ لا ترغبه ولكنك تعلم ، ما يحل بك الآن قد حل بي قبلك منذ عشر سنوات او أكثر ، ألم يجبروني أنا أيضاً على الزواج بعبدالله إبن عمتك ، فقط لأنني بلغت الثانية والعشرين ولم أتزوج بعد ،
- ولكنك على الأقل كنتي تعرفين بالأمر مسبقاً ، لم يخبرك أحد بأن زفافك بعد يومين ومن شخص لا تعرفيه ،
- أجل كنت أعرفه ولكن هل كنت أرغبه زوجا ؟ وهل تغير الأمر بعد العشرة والتعود ؟ لأبقى صامتة خير لي ولك ، لا أرغب في زيادة حزنك ،
- وهذا ما أنا مرعوبٌ منه أساساً يا عائشة ، إن لم نكن نتزوج عن حب فلا أخال الأمر سيحدث لاحقاً ،
- مطلقا يا حبيبي لا تأخذني وعبدالله كمثل لك ، أنت مختلف عنه إختلاف السماء عن الأرض وسولاف كذلك ، فتاة لطيفة ومتعلمة وتليق بك ،
- لا أرغب في المجازفة ولا أرغب في جرحها لاحقاً ، تظل إبنة عمي رغم كل شيئ ،
تنهدت بحزن وقالت :
- لا فائدة الآن من حوار كهذا يا أخي وقد اتخذت قرارك بأن تضحي وألا تترك سولاف تواجه مصيرها لوحدها ، إنها رجولة وشهامة منك سيؤجرك عليها الله ،
- أنتِ إما أنك لا تفهمين همي أو أنك تدعين عدم الفهم . .
- أنا فقط ، لا أريدك أن تتأخر على ضيوفك يا أخي ، هيا لتتجهز ولن أقول لك سوى شيئ واحد : نحن النساء أبسط مما تظنون بنا ، نحن لا نبحث عن زواج أسطوري ولا زوج من الفضاء الخارجي ، نحن لا نحتاج إلا للشعور بأننا محبوبات ومرغوبات من الشريك ، وبأن هناك من يعنيه أمرنا ومن يبحث عن إسعادنا ولو بوردة أو قطعة من الحلوى ، صدقني يا فارس إن الزوج هو من بيده مفتاح جنته وليس كما يظن الجميع بأن المرأة وحدها هي المسؤولة عن إنجاح العلاقة الزوجية ، بكلمة حنونة أو بمسحة على شعرها يمكنك أن تشعرها بأنها ملكة متوجة على عرشها ، وبإهانة ولو صغيرة أو إهمال يؤذي مشاعرها يمكنك أن تجعلها تتمنى الموت ،
- لو كنت أحبها لجعلتها أسعد إمرأة في الكوم ،
- ما زالت الفرصة أمامك سانحة لذلك ، جرب أن تحبها وتحترمها وعندها ستجدها تهدم جبالا في سبيل إسعادك ،
تنهد فارس ومسح على خدها قائلا بحزن :
- أخبري جدي بأنني آت بعد قليل ،
و برغم كل سعيه الحثيث لأن يحول دونها إلا أنها حانت ، ساعة الصفر تلك التى حاول فارس التهرب منها قدر ما استطاع ولكن القدر كان قد قال كلمته ليتم كل شيء في لحظات ، وكأن أقدامه لم تعد ملكه وكأن خطواته هى التى باتت تسيّره دون إرادته ، وكحلم إن لم يكن ككابوس كان نزوله عن الدرج ومغادرته إلى قصر جده حيث دخل من بابه الخشبي العملاق بهيبة وشموخ ووسامة أذهبت عقول فتيات العائلة اللاتي إصطففن على ضفتي الرواق الضخم لمتابعة اللقاء المنتظر ، وهناك كانت هى حيث إلتقى بها لحظة خروجها الخجول من قاعة السيدات بثوب زفافها الهادئ في جماله والبسيط في تصميمه والذى كان يغطي كامل جسدها في انسيابية تدل على رشاقة الجسد الذى يحتويه ، ولكن جدته كانت تقف أمامها حاجبةً تفاصيلها وهى تسدل معطفاً طويلاً من الحرير الأبيض على رأس سولاف وتعقده ليغطى شعرها وأكتافها مع طيها لطرحة من قماش مخرم تخفى تفاصيل وجهها وقد تزينت يداها بباقة صغيرة من ورود القرنفل البيضاء النقية ، وبمجرد أن مر بها متجنباً النظر إليها وجد جدته تشبك يدها في ذراعه حيث شعر بإرتجافة أناملها واضحة أسفل مرفقه المتشنج ، تقدم فارس بخطى متثاقلةٍ إلى قاعة جانبية تواجد بها كاتب النكاح وجدّه الآغا وعمه فكرى الذي هو والد سولاف ووكيلها ، توجه فارس الذى كان يتجاهل تعلق سولاف بذراعه وحث الخطى غير مراعٍ لضيق ثوبها وليقف حيث طُلب منه وعيونه لا تطيق النظر إلى وجه جده ولا عمه ، وماهى إلا لحظات حتى تبعهما سعيد ، وقد تأبطت ذراعه فاطمة ، التى كانت وبعكس سولاف لا تغطي نفسها إلا بطرحة خفيفة شفافة ، قد أظهرت معظم تفاصيل وجهها المزين بألوان صارخة وشعرها المفرود على طول ظهرها والجزء المكشوف من كتفيها .
- إنتظري ، أهذه أنت ؟ سولاف توقفي ؟
ولكن ذلك الخيال تابع مسرعا لينسل بخفة على درجات السرايا الضخمة ولتبتلعه ظلمة السلالم الضخمة ، فاق فارس من صدمته وتقدم مسرعاً ليطرق باب غرفة والدته بحذر ثم فتحه ليجد كل مافيها على حاله ، سرير طبي ضخم وجسد هزيل يتدثر في أغطية دافئة نظيفة ويفوح منها عطر زهور منعشة كأنه سكب فوق تلك الأغطية للتو ، اقترب فارس ليجدها مستيقظة وقد التف شعرها المسرح بعناية في خصلات رمادية ناعمة حول وجهها الصبوح ، أمسك كفها يقبل تلك العروق التي برزت من شدة ماعانت من هزال ومرض .
- صباح الخير يا أم فارس ، كيف حالك اليوم ؟
نظرت إليه بنظرة العتاب التي لا تفارق عينيها :
- صباح النور يا بني، غريب حضورك الباكرإليّ هكذا ؟ !
ارتبك فارس ومسح على شعره وقال :
- في الحقيقة لقد استيقظت بصداع شديد ، جئت لأرى إن كان لديك مسكن يمكنني استخدامه .
- أجل بني لديّ الكثير ، خذ ماتشاء .
تناول فارس قرصين من أول علبة صادفته ثم قال بعد تردد :
- أمي ، أنا لست متأكداً ولكن ، هل من رأيتها الآن تغادر غرفتك كانت ؟ !
- سولاف ؟ أجل انها هي . .
- وما الذي تفعله عندك في هذا الوقت المبكر من الصباح ؟
- لقد جاءت اليوم استثناءا لأنها لن تستطيع المجيء غدا ، كما تعلم فغدا هو يوم زفافها ، إن كن تتذكر يعني ؟
لم يبتسم فارس لمزحة والدته التي لم تزده إلا توترا وقال بامتعاض :
- وما الذي تعنيه بمجيئها اليوم بدلا عن الغد ؟
- لأن الخميس هو في العادة موعدها الأسبوعي لزيارتي .
- ولم تزورك سولاف كل خميس ؟ أعني كنت أظنها لا تأتي إلى هنا مطلقا ، إلى السرايا يعني .
- بلى انها تأتي كل خميس ، تأتي ومنذ أكثر من عامين لم تقطع هذه العادة يوما .
- ولكني لم أرها في حياتي هنا .
بعتاب حنون أجابته :
- ومتى كنت أنت هنا أساساً يا بني ؟ إن كنت تأتي في العام كله مرة أو مرتان وفي كل مرة لا تتجاوز اليومين ، ثم حتى في فترات تواجدك ، هى كانت تأتي في الصباح الباكر و . .
كان فارس يشعر بتشوش كبير جعله يتجاهل ملام والدته ليقاطعها :
- ولكن ، ما السبب ؟ ولماذا في الصباح الباكر بالذات ؟
- لأنها طالبة ، لذا تأتي قبل ذهابها إلى المعهد ، ففي المساء لا يسمح لها عمك أو سعيد بمغادرة المنزل ، ولأن حمامي الصباحي يستغرق وقتاً فهي .
هتف فارس غير مصدق لما يسمع :
- حمام صباحي !
- أجل ، بنيتي جزاها الله خيرا تساعدني في تمارين العلاج الطبيعي الأسبوعية أولا ، ثم في الاستحمام وتغيير أغطيتي وتعطيرها والعناية ب . .
- ماذا، ولكن مهلا ، أذكر جيداً أنني سابقاً قد وظفت ممرضة وخادمة خصيصا لهذا الأمر ، وكنت عندما أسال فاطمة عنهم تجيب بأن . .
- فاطمة كانت تجيبك بأن كل شئ على ما يرام ، دون ذكر تفاصيل ، أليس كذلك ؟
- أجل ، ولكن ما كل هذه الألغاز أمي ؟
- لأن أختك لا تحب أن يعلم أحدا بأن سولاف هي من تعتني بي ، لأنها تخجل أن تتهم بالتقصير إتجاهي ، لست ألومها ، هي ليست مهملة ، ولكنها تخاف ، تقول بأنها تخشى إن إنزلقت من بين يديها أثناء الاستحمام ، أو إن قامت بتمارين ساقي بشكل خاطئ ، فلن تسامح نفسها ، تظن بأنها لا تملك الشجاعة الكافية للعناية بشخص حالته صعبة كحالتي ،
- ولكن أمي ما هذا الهراء ؟ تطلبين مساعدة من طفلة لا خبرة لها وترسلين ممرضة متمرسة الله أعلم إلى أين ،
- أنا لم أرسل أي أحد إلى أي مكان ، الخادمة ما زالت هنا أما تلك الممرضة في مرة ارتكبت خطأً فادحاً حين أوقعتني عن السرير بسبب إنشغالها بهاتفها الجوال ،
- يا إلهي كل ذلك يحدث ولا علم لدي ،
- أراد جدك مهاتفتك وإخبارك ولكنني منعته ، لم أشأ أن تقلق دون داع ،
- وماذا حدث بعد ذلك ؟
- يومها كانت سولاف قد حضرت لزيارتي ، رأت ما حدث وكيف أن جدك طرد تلك الممرضة وحينها توسلت إليه سولاف كثيرا أن تقوم هي بهذه المهمة .
- لماذا لست أفهم ؟ شفقة أم إحسان يعني ؟
- لا هذا ولا ذاك يافارس ما بك متحامل على الفتاة المسكينة ، هي طلبت من جدك ذلك فقط ، فقط لأنها سولاف ،
- بمعنى ! ؟
- بمعنى أنك لو كنت تعرفها مثلنا لفهمت قصدي ، سولاف فتاة من نوع خاص ، لديها إحساس عالٍ بغيرها وقلبها ملئ بحب الخير والعطاء ،
باشمئزاز قال :
- هل هذا فاصل إعلاني لإيقاعي في حبها أمي رجاءاً كفى ؟
- لست أقول سوى الحقيقة التي يعرفها كل من عاشرها ،
- لنعد لموضوعنا رجاءاً ،
- حسناً ، كنت أخبرك بأنها قد توسلت جدك وأخبرته بأنه لا يجب تركي لأيدي الغرباء يعتنون بي بينما هي موجودة ،
- ولكنها مجازفة يا أمي وتهور ، ماذا لو إنزلقتي وأنت معها فهي فتاة ضئيلة الحجم و ، أظن أن فاطمة كانت أكثر حكمة منها في عدم مجازفتها بلعب دور الممرضة ،
نظرت إليه أمه بإبتسامة متفهمة لخوفه ثم قالت :
- سولاف تعرف الكثير من مجال دراستها المقارب لوضعي ، ثم ليتك رأيتها كيف ثابرت مع مدرب العلاج الطبيعي الذي كان يزورني حتى تعلمت منه كل أسرار التمرين ومهارات التدليك ، لو تعلم كم مرة ذهبت إلى مركز العجزة في البلدة لتتعلم أصول العناية بطريحي الفراش ، لا تقلق بني فأنا في أمان معها ،
إزدا غضب فارس أكثر ليقول بحزم :
- ولكن على هذا الأمر أن يتوقف أمي ، نحن لا نحتاج لخدمات من أحد ، ولو كنت علمت بذلك قبلا لكنت وظفت لك عشر خادمات وعشر ممرضات حتى أرجع تلك الطفلة لبيتها ،
نظرت إليه أمه طويلا ثم تمتمت بحزن :
- سولاف ليست طفلة ، كفاك حجج واعذار ، لا ترغب في جميلها حتى لا تشعر بأنك مدين لها بشيئ أليس كذلك ؟ تخاف أن تصبح ممتنا لها فلا تعد قادراً على طردها من حياتك بسهولة ، أليست هذه مخاوفك صغيري ؟
استدار فارس متجها إلى النافذة وهو يفرك عنقه بقوة وبيأس تمتم :
- وهل تركتم لي الخيار يا أمي ؟ هل يمكنني الآن طردها والإستيقاظ من هذا الكابوس والعودة إلى حياتي السابقة ؟ وهل أعطيتم لرجل في الثلاثين من عمره حرية الإختيار ، ألست أنا خروف العيد الذي تجرونه غدا إلى المذبح قرباناً لفاطمة وسعيد وكل فرد في العشيرة ؟ ، فالجميع يستحق هذه التضحية وليحترق فارس وحياة فارس ومستقبله ،
ابتسمت بصبر وتمتمت :
- لن أرد عليك حبيبي ، من الواضح إنك تعاني من ضغوط جعلتك تفكر بهذا الشكل ، لو أنك فقط ترضى بأن الخيرة فيما اختاره الله لك ،
- الخيرة فيما اختاره الله يا أمي ، وليس فيما إختاره جدي ،
- استغفر ربك يا بني ، ما كان جدك إلا وسيلة من عند الله ليجمعك بأجمل أقدارك صدقني ،
- أمي أرجوك ،
تنهدت وتابعت بأمل :
- أتعرف حين سألتها اليوم عن إحساسها بأنها غدا ستزف إليك بماذا أجابتني ؟ لقد قالت لي بخجلها المعتاد أنها لطالما سألت الله في دعاءها أن يختار لها زوجها لا أن يخيّرها ولأنها تراك خيار الله لها فهي راضية به تمام الرضا بل وسعيدة كذلك ،
ورغم أن كلمات سولاف التي جاءت على لسان والدته قد قشعرت جلد فارس رغما عنه إلا أنه صاح معاندا :
- نحن لا نتزوج عندما نرضى عن الشريك يا أمي ، هناك أسباب أكبر وأعمق ، نحن نتزوج عندما نتوافق فكريا وروحياً معه ، عندما نتعلق به بشدة ونبدأ بفهمه بعمق ومن الداخل ، وننجذب إليه بقوة حتى لا نرى غير ذلك الشخص من حولنا ، ثم نحبه بصدق ، وإلى أن نعشقه بجنون ربما حينها فقط نقرر ربط مصيرنا بمصيره إلى الأبد ، هذا ما كنت أظنه عن الزواج حتى يومنا هذا ،
تجاهلت والدته نبرته الساخطة وحادت بنظراتها نحو إطار الصورة المذهب الذي يزين طاولة سريرها الجانبية ، كانت الصورة تضمها هي في المنتصف حيث جلست في يوم ربيعي مشمس على كرسيها المتحرك في حديقة السرايا وبذراعها الأيمن تحتضن فاطمة وبالأيسر تحتضن إبنتها البكر عائشة والتي تكبر فارس بعامين أما عند قدميها فقد افترشت الأرض صغيرة بحجاب أبيض وبشرة شاحبة ووجه لا تكاد ملامحه تظهر في الصورة ، كانت تلك سولاف وفي حضنها أصغر أطفال عائشة التي كانت قد زارتهم زيارة مفاجأة في ذلك اليوم ،
عادت أم فارس ببصرها إلى صغيرها الذي وجدته يحدق في الصورة وكأنه يرغب في تمييز ملامح تلك الطفلة التي ستصبح في الغد زوجة له ، تنهدت بسعادة داخلية ظهرت جلية على محياها :
- يصعب علي أن أقنعك الآن وأنت في هذه الحالة من الإصرار والرغبة في عناد كل من حولك ، ولكن أعدك بني ، أعدك بقلبي الذي لا يريد لك إلا كل الخير بأنك ستحبها بل وستعشقها ، وقريبا جدا كذلك ،
لم يفتح فارس فمه بكلمة بعد ذلك ، فقط خرج من عند والدته بصداع أشد إيلاماً من الذي دخل به إلى الغرفة ،
بحلول الليل بدأت الحركة والضوضاء الصاخبة في حديقة قصر الآغا المجاور لسرايا عائلة فارس ، كان حينها فارس يعتقل نفسه في غرفته ويراقب المشهد من نافذته المظلمة ، كانت التحضيرات لليلة الحناء التقليدية تجري على قدم وساق ، أضواء ملونة تعلق على أعمدة القصر من كل جانب وقدور ضخمة من أطعمة معدة في أرقى مطاعم خطاي تدخل من البوابة الرئيسية لتوزع على الموائد ، وإستعراض تقليدي للخيول من جهة ورقصات محلية لرجال الآغا وأبناء عمومته من جهة أخرى ، كان فارس يطالع ذلك المشهد وكأن الأمر لا يعنيه بصلة وكأن كل تلك الترتيبات والهرج والمرج يعود إلى عريس آخر وليس له هو ، وبينما هو سارح بأفكاره السوداوية سمع صوت رسالة نصية تصل على جواله ، فتحها ليجدها من سعيد وقد كتب فيها :
-، مرحبا يا عريس ، ألن تأتي لنراقبهم وهم يضعون لهن الحناء ؟ أنا أنتظر وصول فاطمة بفارغ الصبر أما عروسك فقد حضرت ، هيا ماذا تنتظر ؟،
تملك فارس في تلك اللحظة ألف إحساس متشابك بآخر ، غضب من الآغا وندم لإنه لم يهرب وخوف من المجهول الذى ينتظره غداً ، تمهل قليلا قبل أن يجيبه برسالة كتب فيها :
-، مبارك يا إبن عمي ، أعذرني ولكني لا أحبذ الزحام ، نلتقي غداً بإذن الله ، ، مرت ثوان قبل أن يأتيه جواب سعيد :
-، أتعني أنك لن تحضر سهرة توديع العزوبية التي أعدها الآغا شخصيا على شرفنا ؟ هيا لا تكن مملا أيها الطبيب ،،
-، للأسف لن أتمكن من حضورها لأنني أنام مبكراً في العادة ، إستمتع أنت يا صديقي .
- ، فارس أنت بخير ؟ هل آت إليك لنتحدث ؟ أهو بخصوص سولاف ؟ هل هناك ما تخفيه عني ؟ حالك لا يعجبني .
- ، أبدا يا أخي ، أختك ستكون أمانة عندي وأنا بخير ، مجرد نعاس شديد ، تصبح على خير .
- ، احلام سعيدة يا صديقي ، ولا تحلم بأختي وإلا أطلقت عليك النار، ومعها العديد من الوجوه الضاحكة ،
- ، إذن أنت أيضا غير مسموح لك بأن تحلم بأختي ، كان فارس يرسل رده مجاملة وهو يتمنى من داخله أن يرمي الجوال من النافذة بدلا عن هذا المزاح المزيف والنفاق ،
- متعادلان يا عريس ، نلتقي .
استبدل فارس ثيابه ودخل فراشه ليضع على أذنيه سماعات ضخمة الحجم ويشغل من جواله موسيقى بتهوفن المفضلة لديه وذلك حتى لا يسمع ما يدور في الأسفل ، بعد حين أضاء جواله حيث جاءته رسالة من فاطمة ، فتحها ليجد فيها صورة لفتاة ترتدي الأحمر الفضفاض المرصع بأبهى الزخارف والتطريز وقد غطوا رأسها ووجهها بخمار أحمر يغمر جسدها الصغير وقد امتدت يداها شديدة البياض مفرودة تغطيها أقراص مستديرة من الحناء مع عملات نقد مذهبة ، ومع الصورة وجد رسالة نصية تقول فيها :
- ، ها هي عروسك تبكي أسفل خمارها لأنها ستفارق أهلها ، ولكني أعلم بأنك منذ الغد ستغنيها بعطفك وقلبك الكبير عن كل أحبتها ، أحبك جدا وأطلب عفوك يا أخي الحبيب ، اعلم أنك غاضب ولكن لاحقاً ستشكرني على ما فعلت .
أقفل فارس جواله بسرعة ورماه على الأرض ثم دفن رأسه أسفل وسادته ونام نوماً متقطعا لا أحلام فيه ولا كوابيس ، وجاء الغد سريعا وبحلول ذلك اليوم المنتظر شعر فارس بنفسه وكأنه أسد مغدور مسجون في قفص لا يقوى على الهجوم ولا حتى الدفاع عن نفسه ،
بعد خروجه من الحمام يلف مرتديا معطف الاستحمام ويجفف شعره بالمنشفة ، وجد أمامه شقيقته عائشة التي لم يرها منذ وقت طويل جدا ، كانت تنتظره في غرفة النوم ممسكة بيدها بذلة رجالية سوداء اللون وفخمة جدا ، فهم فارس مباشرة بأن جده الآغا هو من أرسلها ، ركضت نحوه أخته فعانقته بقوة وباركت له وأخبرته بأن بيت الآغا عامر منذ الصباح الباكر بالضيوف من كل حدب وصوب وأن الآغا يطلب منه أن يحضر نفسه وينزل ليستقبل معه المهنئين ،
- أهذا فقط ما جئت من أجله يا عائشة ؟ أليس لديك ما ترغبين في قوله لي يا شقيقتي ومكمن أسرار طفولتي ؟ أم أنك تآمرتي معهم أنت أيضا ؟
- حبيبي لا تفكر هكذا أرجوك ، أقسم لك بحياة صغاري الأربعة الذين لا أملك في الدنيا أغلى منهم بأنه لو كان الأمر بيدي لما تركتهم يجبرونك على شيئ لا ترغبه ولكنك تعلم ، ما يحل بك الآن قد حل بي قبلك منذ عشر سنوات او أكثر ، ألم يجبروني أنا أيضاً على الزواج بعبدالله إبن عمتك ، فقط لأنني بلغت الثانية والعشرين ولم أتزوج بعد ،
- ولكنك على الأقل كنتي تعرفين بالأمر مسبقاً ، لم يخبرك أحد بأن زفافك بعد يومين ومن شخص لا تعرفيه ،
- أجل كنت أعرفه ولكن هل كنت أرغبه زوجا ؟ وهل تغير الأمر بعد العشرة والتعود ؟ لأبقى صامتة خير لي ولك ، لا أرغب في زيادة حزنك ،
- وهذا ما أنا مرعوبٌ منه أساساً يا عائشة ، إن لم نكن نتزوج عن حب فلا أخال الأمر سيحدث لاحقاً ،
- مطلقا يا حبيبي لا تأخذني وعبدالله كمثل لك ، أنت مختلف عنه إختلاف السماء عن الأرض وسولاف كذلك ، فتاة لطيفة ومتعلمة وتليق بك ،
- لا أرغب في المجازفة ولا أرغب في جرحها لاحقاً ، تظل إبنة عمي رغم كل شيئ ،
تنهدت بحزن وقالت :
- لا فائدة الآن من حوار كهذا يا أخي وقد اتخذت قرارك بأن تضحي وألا تترك سولاف تواجه مصيرها لوحدها ، إنها رجولة وشهامة منك سيؤجرك عليها الله ،
- أنتِ إما أنك لا تفهمين همي أو أنك تدعين عدم الفهم . .
- أنا فقط ، لا أريدك أن تتأخر على ضيوفك يا أخي ، هيا لتتجهز ولن أقول لك سوى شيئ واحد : نحن النساء أبسط مما تظنون بنا ، نحن لا نبحث عن زواج أسطوري ولا زوج من الفضاء الخارجي ، نحن لا نحتاج إلا للشعور بأننا محبوبات ومرغوبات من الشريك ، وبأن هناك من يعنيه أمرنا ومن يبحث عن إسعادنا ولو بوردة أو قطعة من الحلوى ، صدقني يا فارس إن الزوج هو من بيده مفتاح جنته وليس كما يظن الجميع بأن المرأة وحدها هي المسؤولة عن إنجاح العلاقة الزوجية ، بكلمة حنونة أو بمسحة على شعرها يمكنك أن تشعرها بأنها ملكة متوجة على عرشها ، وبإهانة ولو صغيرة أو إهمال يؤذي مشاعرها يمكنك أن تجعلها تتمنى الموت ،
- لو كنت أحبها لجعلتها أسعد إمرأة في الكوم ،
- ما زالت الفرصة أمامك سانحة لذلك ، جرب أن تحبها وتحترمها وعندها ستجدها تهدم جبالا في سبيل إسعادك ،
تنهد فارس ومسح على خدها قائلا بحزن :
- أخبري جدي بأنني آت بعد قليل ،
و برغم كل سعيه الحثيث لأن يحول دونها إلا أنها حانت ، ساعة الصفر تلك التى حاول فارس التهرب منها قدر ما استطاع ولكن القدر كان قد قال كلمته ليتم كل شيء في لحظات ، وكأن أقدامه لم تعد ملكه وكأن خطواته هى التى باتت تسيّره دون إرادته ، وكحلم إن لم يكن ككابوس كان نزوله عن الدرج ومغادرته إلى قصر جده حيث دخل من بابه الخشبي العملاق بهيبة وشموخ ووسامة أذهبت عقول فتيات العائلة اللاتي إصطففن على ضفتي الرواق الضخم لمتابعة اللقاء المنتظر ، وهناك كانت هى حيث إلتقى بها لحظة خروجها الخجول من قاعة السيدات بثوب زفافها الهادئ في جماله والبسيط في تصميمه والذى كان يغطي كامل جسدها في انسيابية تدل على رشاقة الجسد الذى يحتويه ، ولكن جدته كانت تقف أمامها حاجبةً تفاصيلها وهى تسدل معطفاً طويلاً من الحرير الأبيض على رأس سولاف وتعقده ليغطى شعرها وأكتافها مع طيها لطرحة من قماش مخرم تخفى تفاصيل وجهها وقد تزينت يداها بباقة صغيرة من ورود القرنفل البيضاء النقية ، وبمجرد أن مر بها متجنباً النظر إليها وجد جدته تشبك يدها في ذراعه حيث شعر بإرتجافة أناملها واضحة أسفل مرفقه المتشنج ، تقدم فارس بخطى متثاقلةٍ إلى قاعة جانبية تواجد بها كاتب النكاح وجدّه الآغا وعمه فكرى الذي هو والد سولاف ووكيلها ، توجه فارس الذى كان يتجاهل تعلق سولاف بذراعه وحث الخطى غير مراعٍ لضيق ثوبها وليقف حيث طُلب منه وعيونه لا تطيق النظر إلى وجه جده ولا عمه ، وماهى إلا لحظات حتى تبعهما سعيد ، وقد تأبطت ذراعه فاطمة ، التى كانت وبعكس سولاف لا تغطي نفسها إلا بطرحة خفيفة شفافة ، قد أظهرت معظم تفاصيل وجهها المزين بألوان صارخة وشعرها المفرود على طول ظهرها والجزء المكشوف من كتفيها .