الفصل الرابع

وكان أن تمت المراسم في سرعة عجيبة ، تصاحبها موافقات مقتضبة ، خرج فيها صوت فارس مختنقاً ، بينما جاء همس سولاف مرتجفاً ، وهي تعلن قبولها برهبةٍ شديدٍة ، وفي لمح البصر وبعد أن قبّلا أيادى الكبار ، خرجا مجدداً إلى الرواق ، حيث استوقفتهما الجدة التي كانت تنظر إليه بعتاب :
- أطلق إبتسامتك يا عريس ، وهيا أنت وعروسك لتقطّعا الكعكة ، أنت وسولاف أولاً ثم سعيد وفاطمة .
نظر إليها فارس بغضب صامت ، وكأنه يتوعّدها بالإنتقام منها لاحقاً ، ثم قال من بين أسنانه :
- ليقطّعها سعيد وفاطمة إذن ، أنا أرغب في الخروج من هنا حالاً يا جدتي .
وبالفعل خلال ثوانٍ ، وجد فارس نفسه يغادر القصر بصحبتها ومن خلفهم أُلقيت الورود والزينة الملونة ، والتبريكات مختلطة بقرع الطبول ، وصوت سلاح الآغا يصم الآذان وهو يفرغ رصاصاته في الهواء ، كناية على الفرحة ، وبعد سيرهما لبرهة في ممرات الحديقة ، وجدا نفسيهما أمام مدخل بيتهما الذى بناه الآغا ، فى فضاء يتوسط قصره وسرايا إبنه المرحوم أحمد والد فارس ، وهو الذى كان نسخة طبق الأصل عن بيت سعيد وعروسه فاطمه .
ما أن أدركا سلالم المدخل ، حيث كانت الجدة وعائشة تحاولان مساعدة سولاف لتصعد الدرج ، ولكنها استوقفت الجميع لتهمس بصوت يكاد لايُسمع ، حتى أن فارس اضطر إلى الانحناء نحوها ليفهم ما كانت تقول :
- مهلاً ، أنا قطعت وعداً علي الوفاء به ، لنذهب إلى السرايا لبعض الوقت من فضلكم .
ذُهل الجميع بينما قالت الجدة بحزم :
- ولكن هذا بيتك ياصغيرة وهذه ليلة زفافك ، إلى أين تنوين الذهاب فى ساعة كهذه ؟
تابعت سولاف بإصرار :
- وعدت أمى أسماء بأنها سترانى بالأبيض .
- ولكن الآن يا إبنتى ؟
- الآن أجل يا جدتي من بعد إذنك ، إن عجزت هى عن حضور الحفل ، فأنا من ستحضر الحفل إليها .
ترقرقت الدموع في مقلتى عائشة تأثراً ، بينما قال فارس دون تفكير وبصوت بارد :
- أتعنين أمى ؟
- أجل أمى أسماء ، والدتك .
لم يرد فارس بينما قالت عائشة مترددة :
- ولكن قد تكون الآن نائمة يا حبيبتي سولاف ، ماذا لو تدخلان الآن لترتاحا ، وتذهبا إلى زيارتها غداً إن شاء الله .
- آسفة ولكنى متأكدة بأنها تنتظرني .
ولم تنتظر سولاف لسماع المزيد ، حيث انحنت لترفع طرف ثوبها ، ثم اندفعت نحو السرايا رغم عدم وضوح الرؤية أمامها بسبب طرحتها وغطاء رأسها ، لم يرد فارس أن يتبعها لأنه كان يخجل ، بأن تلك الصغيرة تذكرت والدته في لحظة كهذه ، بينما هو وفاطمة قد نسياها تماماً ، ولكن تحت إلحاح جدته اضطر لأن يلحق بها مرغماً ، وهو يتابع تعثرها المتواصل على السلالم المؤدية إلى حجرة والدته ، دون أن يبدى أى مبادرةٍ لمساعدتها ، أما سولاف فقد تجاهلته تماماً ، حيث دخلت مسرعة لتجد السيدة أسماء تنتظرها بأذرع مفتوحة لإحتضانها ، وبدموع تملأ وجنتيها وهى تردد :
- عرفت بأنك ستأتى ، كم يليق بك الأبيض يا ملاكى .
- وهل أنسى وعداً قطعته لك يا أمى .
وقف فارس مشدوهاً في طرف الغرفة ، يراقب عناقهما حتى نادته والدته أن يقترب :
- دعوت الله أن أرى يوم زفافك ، أسأل الله أن يجمعكما أبد الدهر على وسادةٍ واحدة ، وأن يغدق عليكما من فضله مودةً ورحمة .
لم يردَّ فارس بينما همست سولاف في خشوع :
- آمين ، ونسأل الله مثله لفاطمة وسعيد .
تنهدت السيدة أسماء بسعادة وأخبرت فارس :
- أريد أن أرى عروسك يا صغيرى ، تعال وأرفع عنها هذا الغطاء والطرحة .
ارتبك فارس بشدة ، وهو ينظر إلى أمه بعتب ، ثم قال بصوت متوتر :
- دعيها على راحتها يا أمي .
ولكنه صُدم عندما سمع سولاف من خلفه تهمس :
- أنا موافقة ، يمكنك نزعه لكي ترانى أمى .
تسمّر فارس فى مكانه للحظات ، ثم وبأصابع متوترة إقترب بعد تردد ليزيح غطاء رأسها ، ويسقطه أرضاً ، وعندها تراءى له شعرها الأحمر اللامع ، الذى جُمع بنعومةٍ على جانب واحد من كتفها ، وبأنفاس مقطوعة رفع طرحتها ببطء شديد ، لتقابله أولاً تلك الشفاه الغضة المكتنزة ، والمصبوغة بلون الزهر الهادئ مع لمعة خفيفة براقة ، ثم أنفها الرقيق المنسدل بنعومة مع تفاصيل وجهها الناعمة ، وبياضها الناصع ورقة ملامحها ، ومن ثم إلتقت عيناه بعيون واسعة كبحيرتين بلون غروب الشمس ، وتحيط بهما غابة من الرموش الطويلة الكثيفة ، عميقة النظرات وخجولة في ذات الوقت ، ومع خصلات شعر حريري ، تغفو بسلام على ذلك الجبين المضئ ، كان فارس ينظر إليها بذهول وصدمة وقلبه يخفق بشدة ، جعلته يسمع نبضاته في أذنيه ، ولسان حاله يردد بقوة وغضب ، بأن تباً لك يا آغا ، ، تباً لك على ما فعلته بتلك الصغيرة الفاتنة ، أليس حرام عليك ، ألا تمنح ملاك كهذه حق إختيار حبيبها وشريك حياتها ، يا إلهى لماذا ، لماذا عليها أن تكون بكل هذا الجمال ، لا هى ليست جميلة ، قطعاً ليست كذلك فقط ، بل إنها آية فى الفتنة والسحر ، إن ما فعلناه كلنا بها الليلة جريمة ولاشك .
ثم صحى على صوت والدته ، وهى تتلو آيات طرد العين والحسد ، ولسانها يهلل بجمال عروس إبنها ثم قالت بسعادة غامرة :
- هيا بنى إنك ترى عروسك للمرة الأولى الليلة .
لم يفهم قصدها ، ولم يحرّك فارس ساكناً فتابعت والدته :
- هيا صغيري ، هيا لتقبّل جبينها ، ثم ضع يدك على ناصيتها ، وأتلو خلفى هذا الدعاء : (اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه ، اللهم بارك لي فيما رزقت ورضّني بما قسمت . )
أراد فارس لحظتها الهروب إلى أى مكان آخر ، إلا أن ينفذ طلب والدته ، ولكن شعوره بإنتظار سولاف ، لأن يلبى ما سمع أربكه وجعله يستسلم ، فاقترب منها ليخطف وبسرعة البرق قبلة من جبينها ، لم تكد فيها شفتاه أن تلمسا جلد جبينها الناعم ، حتى تراجع إلى الخلف ، وردد بعدها ذلك الدعاء في ثانية واحدة ، وبكلمات غير مفهومة تقريباً ، ثم همَّ مغادراً الغرفة ، وهو يتمتم بأنفاسٍ مضطربة :
- أنا سأنتظرك خارجاً ، تصبحين على خير يا أمى .
وخرج راكضاً دون أن يلتفت خلفه ، بينما ضحكت والدته بحب ، وهمست لسولاف مع غمزة بعينها :
- معه حق بنى ، فجمالك الليلة يُذهب العقل ويقطع الأنفاس يا ملاكى ، ماذا فعلتِ بولدى أيتها الساحرة .
ولم تكن السيدة أسماء حينها تدرك ، بأن كنتها الجديدة هي من كانت مقطوعة الأنفاس ، وعلى وشك فقدان الوعى من قربه ذاك ، ومن ملمس شفاهه الساخنة ، على جبينها الذى أصبح مشتعلاً في لحظات .
فنظرت امها اسماء لها قائله ، فليجعل الله حظك وقدرك افضل من شبيهتك يا غالية .
فنظرت لها سولاف قائلة ، فليكتب الله لنا ولها كل الخير امي ، هي أرادت ذلك وسعيدة به .
نظرت لها امها اسماء قائلة وانتي حبيبتي .
نظرت لها في توتر وبدون توضيح ، حتي لا تحزنها في ليله كهذه وقالت وانا ايضا امي .
ارجو فقط أن تدعو لنا وايضا لها سولاف الأخري .
كان يستمع لها ، واستغرب كثيرا لحديثهم ، ولكنه لم يعطي له اهتماما الان وأولي الباب ظهره ، حينما احس باقترابها .
وبعد خروج سولاف من غرفة والدته ، وجدته يوليها بظهره أمام الباب ، فنزلا سوياً وغادرا السرايا متباعدين ، وعلى إثر دخولهما إلى ما يسمى "مجازا" ببيتهما ، دخلتا الجدة وعائشة فوراً إلى المطبخ ، وقامتا بإحضار العشاء المعد مسبقاً إلى مائدة غرفة الطعام ، ثم قامت عائشة بإنارة الشموع لهما ، وانسحبتا كليهما لتغادرا البيت في هدوء تام ، متمنيتان لهما ليلة سعيدة .
ظلت سولاف واقفة في إنتظار أى ردة فعل من فارس ، ولكنه تجاهلها تماماً ، وتقدم لخلع سترته وربطة عنقه ليرميهما على أقرب أريكة قابلته ، ثم جلس يعبث بجهاز التحكم عن بعد ، محاولاً تشغيل جهاز التلفاز بعصبية ملحوظة ، فلم يفلح في ذلك ، إقتربت منه سولاف قائلة بخجل :
- هل ، أساعدك ؟
- كلا أشكرك ، لا أرغب في مشاهدة شئ أساساً .
- هل أنت جائع ؟
- هذا آخر ما يخطر ببالى الآن .
- لماذا ؟ هل تشعر بأنك لست بخير ؟ مريض يعنى ؟
وعندها نفد صبر فارس ، فقال بغضب حاول السيطرة عليه :
- وهل تشعرين أنت بأن هذا الدور يليق بك حقاً ؟
ردت مستغربة :
- ماذا تعنى ؟ أي دور ؟
- دور الزوجة الحنون القلقة ، والمخلصة لوالدتي حتى أكثر مني ومن شقيقتي .
بهدوء تام سألته :
- هل ضايقك أننا زرنا والدتك الليلة ؟
- بلا ، بل متضايق من إظهارك لتلك المثالية الزائدة عن حدها ،
- لم أفكر في إدعاء المثالية ، أنا فقط فعلت ماشعرت به في قلبى ، وأنا وعدتها مسبقاً .
عندها نهض فارس ليفرك عنقه بعنف ، ويشتت خصلات شعره بأصابعه وهو يقول :
- أظنه قد آن الأوان لأن نتحدث بجدية ، يا إبنة عمى ،
- تفضل ، أنا أسمعك ،
- بل أنا من يرغب فى سماعك ، والحصول على تبريرات مقنعة كذلك .
- وماذا علي أن أبرر ؟
صاح مجدداً :
- كفاك إدعاداً لعدم الفهم ، أنا أطالب بتفسير كل شيء ، منذ لحظة هروبك من أمامي عند الشلال ، كل شيء ، صمتك ، هدوءك المستفز ، رضاك عن كل هذا الجنون الذي يحدث ، والأهم من كل ذلك ، موافقتك على الزواج بى دون أدنى إعتراض ، بل ورفضك لفكرة الهرب من هنا ، هناك أمر غامض في كل هذا الهراء .
بكبرياء أجابت :
- وهل ارتكبتُ خطيئة برأيك ، حتى أهرب من أهلي وأشوه سمعتهم وشرفهم أمام العشائر ؟ ألست تقدر عواقب أفعالك في العادة ؟
- أهذا كل ما يخطر في بالك حقاً ؟ أسطوانة السمعة والشرف التى جعلتكم تعيشون لغيركم لا لأنفسكم ، يا إلهي كل مبرراتك تستفزني .
لم ترد عليه وإنما انشغلت بسحب طرحتها ، وإزالتها من فوق رأسها ، لينسدل شعرها كشلال من حرير على كتفيها ، ليزدها جمالاً زاد من سخط فارس ، حيث صاح بعصبية :
- وهذا بالذات ما يستفزني فيك أكثر من غيره ؟
نظرت إليه بحيرة وردت بهدوء :
- ماذا الآن ؟ بما استفزيتك الآن ؟
- بأنك تتصرفين أمامى وكأنك ، وكأنك زوجتي فعلاً ،
بسخرية قالت وببرود :
- أممم ، وهل تُرانى أفعل ذلك لأنني مثلاً ، زوجتك فعلاً ؟
- سولاف لا تفقدينى صبري .
ابتسمت بسخرية وتمتمت بلطف :
- أكل هذا الصياح ولم تفقده بعد ، أخاف أن يطرق جدي بابنا بعد قليل ، لأن صوتك يصله حتى القصر .
- لا أظنه وقت المزاح ، ولا تتهربى من الحوار رجاءاً .
- ولكن هذا ليس حواراً ، إنه تحقيق ، شجار ، نزاع ، أي شيء آخر عدا عن كونه حواراً .
- سمه ما شئت .
تنهدت بعمق :
- ثم ليكن بعلمك ، أنا أكره الحوار بصوت عالٍ ، أنا لست صماء وكما أكلمك بإحترام ، أتمنى منك الشئ ذاته بالمقابل .
- أمرك سيدتي .
- والآن هل تسمح لي بطلب أولاً ؟
- تفضلى ؟
- أرغب باستبدال ثوبى لأنه ثقيل ، وكذلك الحذاء فهو يؤلمنى ، هلاّ أجلنا هذا الحديث قليلاً ؟
انتبه فارس لذلك ، فشعر بحرج من نفسه لأنه يعاملها بهذه القسوة وعدم المراعاة ،وهو الذى عُرف دائما بتهذيبه الشديد في الحوار ، وخاصةً مع السيدات .
- أنا آسف ، معك حق ، خذى وقتك .
مرت من أمامه في هدوء ، لتختفى داخل حجرةٍ مجاورةٍ لبعض الوقت ، فى حين جلس فارس ليلتقط أنفاسه ، ولكنها ما لبثت أن خرجت مسرعة ، بأقدام حافية وعلامات الألم واضحة على وجهها ، أرادت أن تناديه بإسمه ، ولكنها لم تفعل مطلقا من قبل ، ولازالت تجد الأمر محرجاً وحميمياً ، فاكتفت بقولها :
- عذرا ولكن ، آه أنا حقاً أحتاج المساعدة .
نهض فارس ليقترب منها بحذر ، ممزوج بقلق :
- ماذا هناك ؟
- لقد علق شعرى فى أزرار الفستان الخلفية ، لم استطع فتحها ولا تخليص شعري منها ، إنه مؤلم حقاً .
- ولكن ، أنا ، لا أفهم بمثل تلك الأمور .
- لقد أحضرت مقصاً ، يمكنك قطع الأزرار .
تنهد فارس وهو يحاول الرفض ، فقد عرف بأنه لا يرغب قربها ، ولا شم عطرها الذى يصيبه بوجع في معدته ، ولا لمس شعرها الحريري ذاك ، ولكنه وقف خلفها باستسلام ، وفعل كما أمرته ، وبعد قطعه لثلاثة أزرار متتالية تحرر شعرها ، وفي الوقت ذاته تراءى له بوضوح ، بياض ظهرها الأملس ، وقد لامست أنامله نعومته الصارخة ، رغماً عنه مما جعله يتكهرب لا إرادياً .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي