الفصل الثاني

تجاهل عم تلك التساؤلات ، وحاول فارس إيجاد صوته ليقول :
- مرحبا سولاف ، كيف حالك يا إبنة عمي ؟
صمتت قليلاً ثم بخجل همست :
- بخير ، وانت ؟
وكأن صوتها الطفولي الخجول ، زاد من غضبه على جده الذى ينوي تزويجه بطفلة ، فوجد نفسه راغبا في إنهاء هذه المهزلة بأسرع وقت ممكن ،
- بخير ، آسف لأني جئت دون موعد مسبق ، هلا تحدثنا قليلا ؟ لن آخد من قتك الكثير على أية حال ،
وقبل أن ترد ، وجدها تخرج يدها ناصعة البياض من جيب عبائتها لتضعها على خمار وجهها ، وهي تهمس بصوتها الذي بدأ يصيبه بغضب لا يجد له تفسيرا :
على العكس تماما ، لك كل الوقت ، سعدت لحضورك ، سنتحدث بالطبع ، ولكن ، هل ، أزيل خماري أولا ؟
لحظتها وجد فارس نفسه يصرخ دون وعي منه ، وقد حيرته نبرة السعادة في صوتها :
- لااااااا ، حقا لا يهم ، أقصد لا داعٍ ، أعني ليس هذا موضوعنا ،
اجابته بصوت شبه محبط :
- كما تشاء ، انا في العادة لا ألبسه إلا في الأسواق ولكن . . .
- سولاف اسمعيني أرجوكي ، أنت لست مدينة لي بأي تبرير لتصرفاتك ، او لما تلبسين او تخلعين ، انا جئت إلى هنا فقط حتى نناقش هذا الكابوس ، الذي وجدنا نفسنا بداخله ، أعني هذا الأمر الذي فرضوه علينا بقوانينهم الجائرة ،
وكأنه سمع شهقة خافتة تصدر عنها لتتبعها بهمس :
- أتعني ، أتعني تغيير موعد الزفاف ؟ أهذا ما يغضبك ؟
شعر فارس بطنين عال في أذنه ، أوشك أن يصيبه بالصمم فوجد نفسه يهتف :
- تغيير الموعد فقط ،
- أعني معك حق ، تقديم الموعد ليس أمرا سهلا وقد اربكنا جميعا ، وخاصة أنت بحكم عملك في إسطنبول ومشاغلك ، ولكن ، جدي كان ينوي فعلا إقامة العرسين مع إحتفالات ختام موسم الحصاد ، ولكن بسبب السيول المتوقعة و . . .
- سولاف مهلا ، ما الذي تقولينه أنت ، أتعنين أن اعتراضك الوحيد يدور حول تقديم موعد الزفاف فقط ؟
- لم ، لم افهم سؤالك ، أنا لم أعترض على شئ من الأساس ،
شعر فارس لحظتها بتكشف الصورة أمامه بشكل مرعب ، ليجد نفسه الوحيد الذي لم يكن يفهم الأمر بوضوح ، فالكل يعلم بتفاصيل الإرتباط المزعوم ، وبترتيبات الزفاف الذي اقترب ، والكل بما فيهم العروس موافقون وراضون عن قرارات اﻵغا إلا هو ، هو الساذج الوحيد في هذه المسرحية الهزلية ،
حاول فارس التأكد من إنه لا يسئ فهمها فبادر قائلا :
- إذن ، هل أفهم من كلامك هذا ، انك موافقة على الزواج بي بعد ثلاثة أيام من الآن ؟
وعندما ظلت صامتة تماما تابع غاضبا :
- ايعني صمتك هذا استسلاما لأوامر اﻵغا التي لا ترد ؟ تكلمي سولاف ، إعترفي من أجبرك على القبول ؟ من هذا الذي يرغب بكسر أحلامك وسرقة براءتك ؟ لا تخافي انا في صفك وسأحميك دائما ، فقط لا ترضي بالظلم في حياتك مطلقا ، لا تسيري على خطى قريباتك هنا ، أنت فتاة متعلمة وينتظرك مستقبل باهر ، فلا تخضعي لأحد أرجوك ، فمن يرضخ اول مرة يرضخ أبدا صدقيني ،
وهذه المرة كذلك لم ترد ، ولكنه شك بأنه سمع صوت نحيب خافت ، سرعان ما اختفى ، ومن ثم وجدها توليه بظهرها لتقول بحزم وإن كان صوتها مرتجفا :
- ألا تظن بأن الوقت قد تأخر كثيرا على نصيحة كهذه حضرة الطبيب ؟ اتظن الوقت مازال سانحا للتراجع ؟
- بإصرارنا نجعله سانحا ، يكفي أن تضعي يدك بيدي ،
بسخط أجابت وببرود :
- وهل لديك قوة لردع اﻵغا وجبروته ؟ لكسر قوانين العشيرة الصارمة وبعثرة الميراث الذي لن يقسمه اﻵغا إلا اذا تم الزفاف ؟
- كل هذا هراء .
- بل كله واقع ستعيشه قريبا إن استمريت في التفكير بانانية مفرطة ،
- أنا، أناني، أنا الذي يرغب بحمايتك منهم ومنعهم من إغتيال طفولتك أكون انانيا،
- أولا أنا لست طفلة ولا أحتاج لمن يدافع عني ، وثانيا ألا ترى بأن من الانانية هدم زواج سيكون سببا في سعاة سعيد وفاطمة ؟ ألن يمنح هذا العقد كل ابناء العشيرة حقوقهم المعلقة عند اﻵغا الذي اشترط زواجنا لتوزيع الميراث ؟ ألا تفكر بغيرك مطلقاً ؟
- ولماذا نحن من عليه أن يدفع ثمن جنون اﻵغا ؟ لماذا نحن من يجب أن يضحي ؟
شهقت مصدومة :
- الهذه الدرجة إرتباطك بي يمثل لك تضحية عليك أن تدفع ثمنها ؟
- بل أراك ضحية معي ، انا متأكد بأنك مجبرة مثلي ، لنهرب سولاف ، أعدك بأن أخفيك عن أعين اﻵغا وأن اتركك في مكان آمن لتكملي تعليمك ،
- أنا لن أهرب إلى اي مكان ، ولكني لا أجبرك على أمر اخالك تفضل الموت عليه ،
أدار ظهره وهدر ساخطا :
-الأمر ليس كذلك مطلقا ، لا تخلطي الأمور رجاءا .
- لست أخلط شيئا ، فكر كما تشاء، . ولكن الآغا له أبعاد تتخطانا ، جدي لم يرضى يوماً بدخول غريب بيننا ، ظننتك تعرف ، ألم ترى حال بنات عماتنا وأعمامنا ؟ هل من أحد منهم تزوج بغريب مطلقا ؟ عائشة أختك الكبرى وريحان شقيقتي الكبرى ألم يتزوجوا بأقارب ؟
بحنق ويأس اجابها :
- غريب أو قريب ليس هذا مايهم ، ولكن على الأقل معظمهم تزوج عن حب ولو كان سرياً أو عن سابق معرفة على الأقل ، أما نحن ، ألم تكن المرة الأخيرة التي رأينا فيها بعضنا منذ أكثر من ثماني سنوات ؟
لم ترد عليه ، فقط كانت تقذف الحصى بحذائها وكأنها لا تسمعه فتابع :
- أجل أذكر، عنما ذهبت كل العائلة للتخييم على الشاطئ ؟ ألست أنت تلك الطفلة المتهورة التي كادت أن تغرق ؟
صمتت لبرهة ثم وجدها تستدير نحوه لتقول بصوتها الهادئ الرخيم الذي لاحظ أنه لا يعلو مهما بلغت شدة غضبها :
- أجل تلك كانت أنا، فتاة سيقان المعكرونة كما أسميتني حينها ، غريب أنك مازلت تذكر ؟
ورغم غضبه لم يتمالك فارس نفسه فصدرت عنه ضحكة قصيرة وقال محرجا وهو يسترجع الذكرى :
- آسف كنت حينها أمزح فقط ، ربما لأن قامتكِ كانت أطول من قامة طفلة في العاشرة ، وكنتِ كذلك نحيلة جدا ، ولكن ،
- ولكن ماذا ؟
صمت قليلا ثم تابع :
-أذكر بأنه كانت لك عينان ، بلون غروب الشمس ،
بحرج أجابت :
- حقاً ؟ لا أذكر أنك نظرت في وجهي حتى . .
- حسنا ، ربما لأنني كنت مشغولا بإخراج المياه التي ابتلعتِها من جوفكِ ،
أرادها أن تضحك ولكنها تجاهلته قائلة بإقتضاب :
- على أية حال شكرا لإنقاذي وقتها ، آسفة ولكن ، عليّ العودة إلى البيت الآن ، لست بخير ، هذا الجدال أشعرني بالمرض ، فقط أريدك أن تعرف بأنه ،
ولأنها بدأت ترتجف بشدة اقترب منها فارس قائلا بقلق حقيقي :
- سولاف مابكِ ؟ هل حقا تشعرين بالمرض ؟ انذهب للمشفى القريب لفحصك ؟
ولكنها أوقفته بعلامة من يدها المرتعشة :
- شكرا لك ، لا داعي ، سأكون بخير ، فقط لتعلم بأنه ، بأنه في ليلة الخميس القادم ، ستجدني مستعدة وبإنتظارك عند طاولة كاتب النكاح ، وإن قررت عدم المجئ ، فالأمر يعود لك وحدك ، ولكن حينها لتواجه الآغا والعشيرة وحدك ، أنا لن أكون هناك لتحمل المسؤولية معك ،
- ولكن سولاف نحن لم نصل إلى حل وسط بعد ،
- دمت بخير ، وإلى اللقاء ،
صاح يائسا :
- ولكن ، انتظري ، ما هذا حقاً ؟ اوه أنت عنيدة أكثر من الآغا نفسه ،
ولكن لا جواب ، فقط غادرت في هدوء وكبرياء ،
عاد فارس أدراجه بعد منتصف الليل منهكاً من طول ما مشى في الحقول على غير هدى ولم يدر ليلتها متى أسلم جفونه للنوم أخيراً ، لكنه عندما استيقظ صباحا تذكر كل تلك الكوابيس التي راودته ورأى فيها تارةً سولاف وهي تغرق أسفل الشلال بينما يحاول هو انتشالها ولا ينجح في ذلك ، وتارةً أخرى يرى نفسه يجري بجواده بأقصى سرعة مبتعداً عن قصر الآغا بينما يحس بذراعي سولاف النحيلتين تطوقان خصره من الخلف بشدة وكأنها تنوي مرافقته إلى حيثما قرر الرحيل، نهض منزعجاً وخرج من غرفته مسرعاً بحثاً عن فاطمة وعندما لم يجدها غادر سرايا والديه التي لم يعد يسكنها غير والدته السيدة أسماء وهي طريحة الفراش منذ سنوات مع بعض الخدم وفاطمة التي تمضي معظم وقتها في قصر الآغا صحبة جدتها وبنات عماتها حيث يتحججن جميعهن بتعلم الخياطة والأشغال اليدوية من الجدة وخادمات القصر بينما في الخفاء يمضي جلّ وقتهن في مطالعة المسلسلات الرومانسية أو سماع الأغاني وقراءة القصص العاطفية،
دخل قصر جده باحثاً عنها فأخبروه أنها في درس الموسيقى مع بنات عماتها ، انتظرها بنفاد صبر حتى خرجت ضاحكة ولكنها ما إن رأته حتى تجمدت ابتسامتها على شفتيها .
- عمر ، مرحبا أخي ،
- اتبعيني إلى المكتبة حالاً ،
- ماذا هناك عمر ؟ أقلقتني ،
بغضب مكتوم أجابها :
- حقاً ؟ اسألي نفسك فاطمة هانم ، من لا يفعل السوء لا يأتيه السوء يا شقيقتي،
دخلا المكتبة وعندما صفق فارس الباب خلفه ارتعدت أوصال فاطمة التى حاولت التظاهر بالقوة ،
- والآن فاطمة ، هل لديك تفسير مقنع لفعلتك الشنعاء تلك ؟
ارتبكت وردت مسرعة دون تفكير :
- إذاً أنت صرت تعرف الآن ؟
- إن كنتِ تقصدين بعد لقائي بسعيد المخدوع ؟ طبعا عرفت،
- أخي أقسم لك ، لقد فعلت كل ما فعلته لأجلك ،
- بالكذب وتأليف الحوارات يا فاطمة ؟
- أنا لم أكذب ، فقط استبقت الأحداث قليلا ، ،
- أي أحداث ؟
- أنا كنت واثقة بأنك ستقع في غرام سولاف لا محالة ، لذلك استبقت الأمر قليلاً ، وأخبرت سعيد بأنك معجب بها ، لأنك حتما كنت ستفعل ، ومن بداية عشرتكما وسترى ،
ضرب فارس كفيه ببعضهما ومسح بهما على وجهه وعنقه كعادته :
- اللهم امنحني الصبر لاستيعاب هذا الهراء ، فاطمة أمتأكدة أنك بكامل قواكِ العقلية ؟ هل تقررين عني بمن سأعجب وأحب، بل وبمن سأرتبط أيضا ؟
- فارس أنت من تحاول القاء اللوم عليّ دون مبرر ، وتحاول التظاهر بعدم الفهم ، أنت كنت تعلم بأنك يوما ما ستتزوج من عشيرتنا لا محالة ، وعندما باركت حبي لسعيد كنت تعرف بأنه لن يتم هذا الزواج إلا بعرف التبادل السائد بيننا ،
- هناك فرق بين أن أعلم وأن أرضى ، ثم وهل هذا يبرر أكاذيبك في رأيك ؟
- لا بل قصدت أن سولاف هي الآنسة الوحيدة المتبقية في بيت عمي فكري ليتم مبادلتها بي ، يعني سواء أنني أخبرت سعيد وسولاف أم لم أخبرهما ففي كل الأحوال أنت كنت ستتزوج بها وليس بغيرها ،
توقف فارس مذهولاً محاولا فهم جملتها الأخيرة ، ثم صاح بغضب :
- مهلاً مهلاً ، أيتها الشيطانة الصغيرة ، هل أفهم من كلامك هذا أنكِ قد أخبرتي سولاف أيضا أنني متيم بها ؟
ابتعدت عنه خوفا من فقدانه لأعصابه ثم همست بخوف :
-لااا ، يعني ليس تماما ، يعني أنا، ،
- فاطمة تكلمي بسرعة قبل أن أفقد صبري ،
-أعني، أنا فقط جعلتها تظن أنك مهتم أو، أو أنك موافق أو شيئ من هذا القبيل .
-أقسم بأنكم عصابة من المجانين، يعني حتى إن قمتي بشيء غبي وصبياني كهذا ، هي كيف تصدق أن يريدها رجل لا يعرفها حتى ؟
حاولت فاطمة تجنب نظراته الغاضبة وقالت بسرعة :
-وما أدراني أنا ؟ اسألها بعد أن تصبح زوجتك يا أخي ،
نظر إليها بشك وريبة من تصرفاتها وتمتم :
- بعد أن تصبح زوجتي ؟ فاطمة أراك تخفين الكثير عني ، أنت تدفعينني للأسف الشديد لأن أقلب هذا العمل المشين الذي قمت به على رأسك و . .
- أخي أرجوك اسمعني .
- بل أنت من سيسمعنى الآن ، لأنك خذلتني بتصرفاتك الأنانية بما يكفي، هل حقا ما يهمك أن تجتمعي أنت وسعيد تحت سقف واحد ؟ حتى ولو كان الثمن حريتي ؟ حتى ولو تحولت إلى كاذبة ملفقة، وماذا عن براءة تلك الضحية وأحلامها ؟ ألم تفكري بها ؟ سولاف ما تزال صغيرة .
- ليس إلى هذا الحد يعني يا أخي ، ثم إن سولاف تجاوزت الثامنة عشر من عمرها الآن ، ليست طفلة يعني ، وأنت تعلم بأني أكبرها بعامين فقط ، فهل أنا كذلك صغيرة على الزواج برأيك ؟
- الأمر يختلف ، أنت تركتي دراستك منذ سنوات وليس لديك ما يشغلك، أما هي فلديها طموح ومستقبل ينتظرها . .
- سامحك الله يا أخي على هذه الإهانة ، على أية حال كلنا ظنناك تعرف بأنك ستتزوج بها في يوم من الأيام ، بما أنك تعلم بوضعي مع سعيد يعني . .
زادته جرأتها وأنانيتها حنقا فصاح :
- ولكني لم آت إلى هنا منذ سنوات ، وحتى في إجازاتي الصيفية الخاطفة كنت دائما أرفض سماع محاولاتكم لطرح هذه الفكرة السخيفة ، ظننت حينها أن رفضي القاطع كان كافيا ليقنع الآغا بالتخلي عن عادة التبادل المتخلفة تلك .
- جدي لا يتغير ولو تغير كل العالم من حوله .
- هذا شأنه وحده ، لذا إن هربت أنا الآن يا فاطمة ، إن انسحبتُ وعدت إلى اسنطبول حيث حياتي الهادئة وعملي وعلاقاتي فأظن أنه لا يحق لأي منكم أن يحاسبني أو يلوم عليّ ، أنت من خطط وقرر من وراء ظهري فلتتحملوا النتائج وحدكم إذا .
عندها بكت فاطمة وهي تهز رأسها مستنكرة ما يصدر عن أخيها :
-ولكنك لن تفعل بي ذلك ؟ أليس كذلك أخي الحبيب ؟ أرجوك عمر، أنت تعلم بأني أموت من دون سعيد ، وهو كذلك لا حياة له بدوني أرجوك بكل ماهو غالٍ على قلبك ، بحق روح والدنا الطاهرة ، والدنا الذي كان يتمنى زواجك بسولاف قبل وفاته ، وبحق مرض أمي التي لا نريد لصحتها أن تتدهور بسبب صدمة كهذه فهي تحب سولاف كثيرا ، وأيضا ، كرمي لأختك عائشة التي لم تزرنا لأكثر من عامين ، زوجها يمنعها من السفر بسبب كثرة أطفالها ومشقة التنقل ، ولكنه أخيرا وبعد جهد جهيد وافق أن تأتي لحضور عرس شقيقيها الوحيدن ، أتكسر بخاطرها هي الأخرى ،
كانت فاطمة تتوسل بينما فارس ينظر إليها بنفور وتقزز حتى أكملت وعندها زجرها وهو يغادر مكتبة جده :
-أحقا هذا ما يهمك فقط ؟ ظننتك أعقل من ذلك يا فاطمة صدقاً أسفي عليك .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي