٠١ ذكرى

0إحتراق وَجهه0

أكتوبر ألفٌ وتِسعةُ مائة وتِسعٌ وتسعون.

سَماءٌ قد أضحَت حَمراء في لَيلةٍ خَريفية.
وكأن الحُزنَ يحترقُ مع تلك النيران المعتمة! كأنَّ القلب قد أُبتلى في حَربٍ ذات فتِيلٍ حارق! لا يوجَد للنَّجاة أثرٌّ من بركانٍ في حياتِها، تِلك التي تَصرخ لعلَّها تَنجو من النِّيران المشتعلة في ثنايا مكانِها!

النّيران تتصاعد لكن لا يوجد بطلٌ يأتي ويساعِدها من فتيل نيرانها! لا يوجد لأنها تعيش الواقِع لا حكايا الأطفال والخيال الّتي كانَتْ تسمعها قبل النوم من والِدتها!
وعلى ذِكـر والـدتها، هـي تـحتـرق كـذلك في المـكان الذي هـي فيه! لقـد شـاهَدتها بعينيها وهـي تَـحتَـرِق، كـلا والِـداهـا!

طِـفلةٌ هي ذات التِّسعة أعـوام! مـسكينـةٌ حـقًّا وهـي تـشاهد كـلا ملجئيها فـي الحـياة يَحترقان ولا تستطيع فِعل شيء هي سوى اغماض عيناها من فضاعة المشهد وتصرخ مناجيّةً كلاهما!
لعل ما تراه مُجرد حلم!

لعلها إذا استيقظت فقط، فقط يُمكنها أن تستيقظ عندما تنادي والِداها!

لَعلَّها فقط تحلم وإن هذا الكابوس سينتهي وسَيموت وقت استيقـاظها!

الأمرُ مؤلم حقًّا على قَلب تلك الطِّفلة!

أخذت النّيران تتعالى بالفِعل لتلتهمها، بدأت بإلتهام أجزاء جسدها الضعيف، وهي؟!
هي فَقط ذَرفت آخر دَمعة مُستسلمة لذلِكَ النّوم والّذي تعتقد إنَّه النّوم الأبدي!

النّــوم الـذي لا تـودُّ أن تـستـيـقظ مِنه!

خَمدت النّيران في الصَباح مع بقايا حطام والدين الصّغيرة الّتي أنقذت بإعجوبة من سماء نّيران ليلة البارحة.

احتـرقَ نِـصُف وجهها وخسرت ملامح البَرائة اللطيف، هي لم تخسر فقط ملامحها بَل فقدَت مَن هم أملَاها في العيش المُرّ!

والِدها أصبحا في اليوم التالي مُجرد رَمادٍ متناثِر تَحت رثـاء منزلِهم، أما هي سقطت فـي غيبوبة أمـدَّتها لثلاثة أسابيع لتسقط طـريحةً للذاكِرة.
تلاشى صَوت خِيوط حِنجرتها الرَّثَّة فلَم تَستطِع أن تنطق مُجدّدًا ولو بحَرفٍ واحد.

«إنَّها مسكينة.»

أردف ذو المئزر الأبيض واليافِع تمامًا وكأنه أحد المتدربين في السّنة الأولى، وهو يشاهد تلكَ الصَغيرة على السّرير جالسة مِن دون حركة تمامًا... فقط جالسة تنظر لذاكِرتها المُرَّ!

«مذ مَتى وهي هكذا؟»

أردَف الآخر وهو يفعل المثل، يتأمل تلكَ الصغيرة التي ذاقتْ ما لا يَجب أن يذوقه في سِنِّها.

«مذ أن استيقظت، أعتقد إنَّها تمرُّ بحالة صدمة!»

صمتٌ في الأرجاءِ استمرَّ لبرهةٍ حتى تكلم:

«ماذا سيحصل معها؟»

«أعتقدُ إنها ستذهب للميتم، فلا أحدَ تملكه من أجل أخذها.»

«ألا تمتلكُ أقارب؟»

«بحثنا بالفِعل في سجل عائِلتها، والدها وحيدٌ ويتيم أمّا أمها فلا أثر لعائلتها.»

«هذا سيئ حقًّا! كَم هي مِسكينة..»

أخذَ نظرةً سريعة جدًّا وذهبَ لمكانٍ آخر، فَقلبه لَم يعد يَسعفه أبدًا أن ينظر لها أكثر من هذا.

«أبي، ما أزال غير مدركٍ، كيف أنقذتها؟!»

«لقد كانت نيران تتآكلها بالفِعل، لابد إنها في حالة صدمة بالفِعل، فعلى ما يبدو لقد شاهدتْ والِداها يحترقان أمامها.»

أتم جملته لتَسير القشعريرةِ في جسد الآخر... تَخيُّلُ الأمر فَقط مُرهقٌ لقلبه اليافع، كيفَ له أن يذوقَ ما ذاقته تلكَ الكتلة الهادئة والجَّاثمِة تُعاشر مضطجعِ ذكرياتِها في عقلِها، وكيفَ فقدتَ تحت صرخات أحبَّتها وعيَها؟!

«التَّخيل فقط يجعلني أتألم، فكيف هي بِحالها؟»

«جونغ، فلتستقبل أختكَ الجديدة بشكلٍ حسنٍ، حسنًا؟»

قال كلماته للآخر لينصدم مما يسمَعه، حاولَ فِهم كلماته، فأمُّه قَد أخذَها الأجل مُذ زمنٍ وأكلَها التُّراب بالفعل.

«أخت؟! من هذه يـا...أبي؟!»

كانَ سَيلفظ ما لا يعجب والِده للحظة لو لا تداركِ ذاته في اللـحظـةِ الأخـيرة!

«ستفرح كثيرًا عند رؤيتها، صدقني!»

قال وهو يبتسم لِيدرك الآخر إن ما يطمح له والده سيجلب له المتاعب عاجِلًا أم آجلًا!

«تبًّا للحظ!»

نبس بين شفتيه بينما يُشاهِد والدَه يُغادر المـشفى ليعود إلى عملـه.

تِلكَ الطِفلة كانَت كجثَةٍ حيّةٍ وتتنفس لكِنها لا تعي ما يحصل أمامها!
عالُقةٌ هي في دوامة الإحتراق، حاول الكثير من الأطباء استلطافها، حاولوا أن يُعيدوا لَها نطقها... لكن ما حصل ليس بهينٍ!

فَطـفلـة لَم تبلغ سـوى تسعة أعـوام قـد شاهدت والِداها يحتـرقان، كـيف سَتـعيش؟

«أبي، أنتَ تمزح؟ أنتَ لا تعني حقًّا ما قلتَه توًّا؟!»

صـاح بكلماتِه بَعد أنْ أدلَ الآخر بقراره. هو بالفِعل لا يُريد رأيهُ، هو فقط أخبره بما سيفعَله.

«سأجهِزُ أخصائي للطفلة؛ إلىٰ أن تُدرك ما حَولها وتستَعيدُ نطقَها.»

ثَغرة الآخر فاهِه بصدمة، كيفَ يستطيع أن يَتخذ قرارًا كما فعل والِده من دون أخذ رأيهِ بدون اعتبار؟
جَعَّدَ وجهَه بينما يَعضُّ شفاهَه لينقل بصرهُ نحوَ الفتاة، تِلكَ الفتاة لاقت من الألم ما لقته، لا تَنظر لمكانٍ سوى الأرض ولا تُدلي أي حركة قد تُطمئن النّاظر بأنَّها واعية، هي أشبَه بمرحلة ما بينَ الوعي واللا وعي، عالقة في ذكرى أضحت مُجرد رَمادًا حيثُ ليلةٍ كانت زَمهَريرًا على قلبها.

تُطرِّزُ الحياة فينا الجِّراح بشكلٍ مؤلمة ومُحرق، في عضلةٍ في جوفنا نَحنُ نسكن بِينابيع الألم، وبينَ أحزانٍ واوهامٍ نحاول أن نُخرجَ ذاتنا ولكنَّنا نخمدُ على حرقة دموع، نَخمدُ على وسادةٍ من البُكاء ومن الصراخ المكبوت داخلنا.

أمسَكَت تلكَ الكفّ الخشنة تلكَ اليد الصغيرة، بيضاءً وناعمة جدًّا، لكن ملامحها قد ذابت على نيرانِ احتراق، وفي صحراءٍ قاحلة هي تائهة، لا تَعلم بالضَّبط ما يحصل، قادَها إلى بيتٍ يشعُّ دفأً، خطت بِخطوةٍ لا إرادية إلى تلكَ الغرفة أمامها، كانَت غرفة فتاة وردية، وكأنَّ الحياة ما آذتها ولو للحظة، وبينَ أركانِها تُعلّق مرآة بين جدرانها، أقتربت نَحوها ببطئ خائفة من الَّذي ستراه، حيثُ كلَّما بدأت ملامحها بالظِّهور، بدأت تلكَ الذكرى تحتلُّ عقلها.

حالة من الهيستريا والهلع اصابَها، حيثُ بينَ صراخاتٍ مكتومة خرجت من حلقَها، لَم يكن لها صوتٌ أو وجود، تترائ لها ذكرى بين أحطاب عقلها عن صَرخاتٍ مؤلمة، كلماتٍ مُبهمة، كيفَ الموت يكون مُحيطًا بينَ أكناف مَنزِلها، وكيفَ تلكَ النيران تتآكل بِجسدها!

لَم تُشفَ من وجعها بل ووجهها مُغطى بينَ ضِمادٍ ابيضٍ ولا صقات جروحٍ، حتّى جسدها الّذي بينَ أوصالِ ثيابٍ مشوه حاله لا يَختلف عن وجهِها.

هَرعَ لها الأب وابنه يُحاولان تَهدأتها وبالوقت ذاته عدم لمس تلكَ الأماكن المحروقة، كانَت صامتة لكنَّها صاخبة، تَشدُّ بذراعيها المحروقتان شَعرها الَّذي بدا مَعدومًا من الخصلات وهي تُقاتل تلكَ الذّكرى في عقلها، لكنَّها لا تَعلم كيف؟!

_________

الحياة جعلت منّي شخصًا فارغًا، شخصًا لا يَملكُ روحًا ليعيش، فقط جسدٌّ مُشوَّهٌ وتَفاصيل مُعتمة، ظُلمة تَحتلُّني وأنا بكلِّ رحابة صدرٍ أستقبلها، ليسَ استسلامًا منّي، لكنَّني لستُ بقادرة على مجابَهةِ الحياة، فأنا كلّي خائرةُ القوى!

كلَّما مرَّت تلكَ اللحظة الَّتي أغلقُ فيها عينيَّ، أشعر وكأنّي بجنَّةٍ مظلمة تَتشفَّعُ لي بفراغي الممتلأ، حيثُ هوادَة الجرم تُلاحقُ مقلتيَّ وأنا بينَ آفات السُّكوت براضيه، رغم ما ألاقيه من عذابٍ يحرقُ نجواي المتُفحِّم أساسًا، أبقى راضية وكأنّي أعيش في نعيمٍ لا جحيم!

الطُّفولة تم مَحوها من ذاكرتي، لَم أحظَ بطفولة وإنَّما مررتُ بجمرٍ ملتهب أقسم على أكلي وتآكلي إلى أن أُفرغَ من روحي، وأن أبقى بينَ دياجير الصمت مُعلَّقَ بشمَّاعةٍ زَلِقة تُدعى الأمل، وهي غير مَوجودة في الأساس.

حُرقتُ جسدًا وروحًا، دُمرتُ جسدًا وروحًا، رُجمتُ جسدًا وروحًا، قُطِّعت أنفاسي ومُزِّقت أشلائي، لكنّي ما زلتُ على قيد الحياة أصارع فتات الموت، لستُ أنا حتمًا من يرغب بالعيش كهذه الحياة، لكن القدرَ الَّذي فُرضَ عليَّ البقاء بعدما صارَ كلا والِديَّ رمادًا، فقط ليتني كنتُ معها رمادًا، لكانَ أهونُ علي من العيش تحتَ لقب «وحش».

سَكنتُ في أوراق ماضٌ، فَكلَّما أغمضتُ عينيَّ شعرتُ بروحي تَخرجُ مع انبثاق خناجير الذكريات، ومَهما حاولتُ الهروب، آثارها على جسدي بارِزة لا يمكن تَفاديها، لهذا لَم أهرب، لَم أهرب وفي الوقت ذاته لَم أواجه تلكَ الذكرى، بَقيتُ معلَّقة على شمَّاعةٍ وهمية في الحياة، بَقيتُ في وسط الظّلمة فقط أتقبَّلُ ما يجري وأجعلني جوفًا خاليًا.

مضى عامًا مُذ تلكَ الليلة، بَلغت فيها سنةً فَوقَ عمري، وذكرى والديَّ الَّذان لَم يتلاشَ منها سوى وجههما بَعد تلكَ الفاجعة. أوراقٌ من ذكرياتٍ مهما حاولتُ تصفُّحها أجدُها فقط فارغة، كيفَ مضيتُ تلكَ الأعوام وأنا بكلِّ صوابٍ، كيفَ لتلكَ الليلة أن تُغادر وتَتركُ أحمالها علي، وأنا مُجرَّدُ طفلة بعامِها العاشر؟!

«كيم مينِّي، تعالي إلى هنا!».

صدحَ صوتُ أخي جونغ من الأسفل لأركض الخوف يَتسلَّلُ إلى قلبي، لَم أفعل شيء لألقى صوته الغاضب هكذا!

«يا فتاة، ما الَّذي حصل لقميصك هكذا؟!».

ما لا أستطيعُ قوله، أنا أتعرَّضُ لتنَمُّر ممن قبل أطفالٍ معي؛ لأنَّني أخيفهم، شكلي ليسَ كأي طفلٍ يرغب بعيشةٍ راضية. أنا حتّى رُجمتُ عن الكلم فَصِمتُ عنه ولَم يَخرج صوتي يومًا لِيطلق آهاتٍ تُبعثر آلامه. أعلمتُه بلغة اشارة بأنّي وقت وتَمزَّق أثناء وقوعي، بدأ بتوبيخِه لأن أنتبه إلى الطّريق وأحاول أن أكون نَبه أكثر، لكنّي في كل يوم أعودُ إلى المنزل وملابسي رَثَّةٌ.

أوصلني أخي جونغ إلى المدرسة هذه المرَّة، الجَّميع كانَ ينظر لي بنظرة غريبة، شفقة من الآباء، وخوفٌ من الأبناء، كرهٌ وسخطٌ من طرفٍ آخر.

«مينّي، لا تَخافي ولا تَكرهي ذاتك!».

قالها بَعدما شعرَ بي أضغط على يَده لأبتسم له بخفوت، أنا لَم أستعد ذاتي بعد، كلّي تائهةٌ في دوّامةٍ مُظلمة ذاتَ زمهريرٍ قاتم، تَناولتُ مِلعقةٍ من العذاب فأضحيتُ في كلِّ يومٍ أتلقى أضعافًا مُضعَّفة من العذاب وأنا بأطرافٍ صامتة لا تَجرؤ على الحديث أو الانفعال.

«أنتِ ياذات الوَجه المُحترق، لمَ تظهرين هكذا أمام الملأ؟ ألا تعلمين إن وجهك يُخيف الأطفال؟!».

أخي قَد غادَرَ ليبدأ الكلام عنّي بأبشع ما يكون، أبشع من أن تُحاطَ بينَ أطرافك أشوكٌّ وتُغرس بكلِّ كسلٍ داخلك، حيثُ يَثقل جُفنيكَ من الألم وتَودُّ فقط لو تنلم آخذًا فقط ذاته وتاركًا كل الهموم وراءك بدونِ وعٍ أو ادراك، فقط لو يَتركوني وشأني فَيكفي أنقاض الآلام الَّتي رَمتها علي الحياة بدون أيِّ شفقة تِجاهي أو تِجاه عمري!

الكابوس الثاني في حياتي بَعد احتراق والدي هو ذلكَ الفتى الَّذي ينعتُني بالوحش، كوني مُشوَّهةُ الوجه والمحيى وحتّى والابتسامة، لَستُ بانسانَةٍ طبيعية، كلُّ شيءٍ فيَّ يكون قَبيحًا ومخيفًا بالنِّسبة لهم.

«فقط لِمَ عليكِ افسادَ يومنا بوجهكِ المخيف أيَّتها الوحش، عليكَ أن تَموتي فقط!».

نَبست فتاةٌ أخرى كلامها ولا أنكر صُحَّته، عليَّ أن أموت فقط وأريح الجّميع، فموتي راحةً لكلا والدي وأخي، وبالوقت ذاته، لن أضطر لإخافتها سويًّا. أنا أكرهني حقًّا، رُغم إنّي لا أستحقُ هذا الشعور تِجاه نَفسي، وبأنَّ ليس لي ذَنبًا بِمَا أذنبت به الحياة بِحقِّي، إلَّا أنّي أبقى كارِهةٌ لنفسي.

بَعد الفصول الدّراسية الَّتي تكون صامتة، تَبدأ فصول التَّنمر والكلام البذيئ عنّي، أنا عالة، أنا وحشٌ، ذات وجهٍ مُحترق، مَسخ، بكماءٌ محترقة، وَحشٌ مشوَّه، كل هذه الألقاب تَنغرسُ بقلبي بعدما تَخرجُ من أفواهِهم، كائنٌ عليه أن يموت، أن يُعذَّب حَتّى الموت، تلكَ الجُّمل عُلِّقت برأسي لِتصير مثل التَّرنيمة دائمًا أسمعها وأضرب من قبلهم، تَتَّسخُ ملابسي وأنا أدفعُ أرضًا ولكنّي لا أبذرُ صوتًا يَساعدني، ولا حِسًّا حتّى أعبِّرَ عن ألمي.

الصَّمت الَّذي عاشرته كانَ قاحلًا وجافًّا علي، لكنَّه لم يُبخل عليَّ بالحزن والأسى أبدًا، أغرقني بكلِّ أكمامه وجَعلني فاقدة لأكبر رغبة بداخلي وأبسطها.

فارِغة!
فيَّ جوفٌ فارغٌ مَهما حاولتُ ملؤه لا أستطيع، وكأنُّه قد زُنيِّن بالثُّقوب فَما عدتُ قادرة على جَعل ذاتي مُمتلأَة. رُغم الحزن أنَّه ملأني بالفعل إلَّا أن هذا الفراغ قاتلٌ يَفوقُ على الحزن أضعاف!
وحيثُ جوفي الَّذي يكون مَملوءًا بالصرخاتِ المكتومة، إلا إنَّ صَمته أكبر فراغ!

أنا أنهار، أنهارُ في كلِّ ليلةٍ بَعد أزيلُ وُشاحَ الطّفولة عنّي لأبدأ أفكر بالنِّضج، الآلام تَحفرني بدون أي همٍّ. جَلساتُ الطبيب النَّفسي والَّتي هي شبه يومية لمَ تنفع قط، الطبيب صاحبة فِكرة أنَّ عليَّ مُزاولة المدرسة وتكوين صداقاتٍ ولكنّي ما أتلقاه هو مُجرَّدُ كرهٍ أشعُّ وضوحًا من الشمس!

على مائدة الصباح أشرتُ لأخي بلغة الإشارة بأنّي لا أريد الذهاب للمدرسة، إن فعلتُ، فلا أستبعد بأنّي سأفقدُ حياتي اليوم، رُغم أن الموت سَينفعني، سَتخرجُ الرّوح بكلِّ بساطةٍ عن جسدي والفراغ الَّتي أشعر به سينتهي مَع انتهائي، وتلكَ الغيوم الثَّقيلة من الحزن لَربَّما سَتنجلي وسأرتاح أسفل التُّراب مَع والِدي.

بالكادِ أقنَعتُه أن لا أذهب، في المقابل ذَهبتُ إلى الطبيب النَّفسي، لا أنكرُ بأنَّه لطيفٌ معي، لكنّي لا أعلم لِم أكرهه وأشعر بالارتباك منه.

«مينّي، كيفَ الحال صَغيرتي؟».

قابلَني بابتسامةٍ بشوشة ورَدَدتُها بواحدة شِبه منعدمة، تَقدمتُ مع أخي أجلسُ بحضنِه بَعدما جلسَ على الأريكة بينما قابلنا وَجه الطبيب بارك، هو لا يَكفُّ عن الابتسام أبدًا.

«لَم ترضَ على تذهب لِلمدرسة اليوم بِحجة التعب؛ لذا جَلبتُها لَعلَّها تَحظى بوقتٍ لطيف مَع ابنك تشان!».

«حسنًا فعلتَ خيرًا، تشان سَيأتي بَعد نصفِ ساعة؛ لذا يُمكنُها الانتظار هنا.».

أومأ أخي له وغاد‌ر بَعدما تَناولَ حديثًا بسيطًا مع الطبيب عـن حالتي.

«مينّي، لا تُخبئي وَجهكِ بشعركِ هكذا، أنتِ لستِ بقبيحة حتّى تَفعلي!».

أشرتُ بله بِكفيَّ بأنَّني أسوءُ من ذلكَ وبأنَّني مُشوَّه لَكنَّه ردّ‌ة عليَّ بأنَّه ليسَ ذنبي، وعندما أكبر سأكون أحمل امرأة لِتدمع عينيَّ بحزن، ضَمَّني لصدره وراحَ يُربِّتُ على ظهري كوالدي عندما أبكي، حاولَ تهدأتي ولكنّي أنفعلتُ لغة اشارتي وأخبرته عن لقبي بأنّي مَسخٌ وَوحشٌ مشوَّه لِيفتَح عيناه بِوسعٍ من الصدمة، مَهما حاولتُ التَّماسك في هذه الحياة، تَضربني هي الأخرى وتَجعلني أنهار بسهولة.

«هَل تَتعرَّضين لِتَّنمر؟!».

هَزِزتُ رأسي بِهدوء مَع شَهقاتي لِيَندفَع الباب بِقوَّة لُيسقط قَلبي مَعه، ما كانَ سزى الصَّغير تشان الَّذي يَصغرني بِسنتين بِسيطَتين مَع والِدته، صَرخَ لأباه بِصخبٍ بينما أسمعُ قَهقهاتِ والِدته وراءه، وكذلكَ الطبيب بارك الَّذي فَردَ ذراعيه مُهيِّئًا حضنه لصغيره، ابتسَمتُ بهدوءٍ لهذا المنظر، ما إن لَمحني تشان جالِسة حتّى انتَفضَ من حضن والِده لِحضني أنا الصَّغيرة، عانَقني بِحبٍّ بينما ينطقُ اسمي بِفرحٍ، هذا الكائن، هو الوحيد الَّذي تَقبَّلني على ما أنا عليه.

أخَذني تشان لِنلعب بينما والِده عادَ إلى عمله، رافقتنا والِدته وكان لا يَتوقَّف عن الحديث أبدًا عن كيفيَّةِ أمضاء يَومه مَع أصدقائه، أمّا أنا فقط أومأ له وأستمعُ بكلِّ حرصٍ على أن لا يَفوتني شيئًا، فإن ضَحك أضحكُ معَه بِصمتٍّ، وإن تَحدث أبتسمُ بهدوءٍ مستمعة له.

أشعرُ بالامتنان لَه إلى هذه اللحظة، تَمضي الأيام وهو الوحيد الَّذي لا يَخافني، ولا يُلَقُّبني بالوحش أو المسخ، تشان نِعمةٌ حلَّت بدُنياي إلى هذا الوقت، ومَهما حاولتُ أن أردَّ له دينه فلا أستطيع.

بَتلاتُ الليل حَلَّت، ومَعها بدأ تَوبيخ أخي حول اتساخ ملابسي، لا أعلم إلى متّى سأبقى أكذبُ عليه هكذا.

في اليوم الموالي أستَيقظتُ على احتضان أخي لي، بدأ يُحيطُني بِدفئه وبأسفه المتكرِّر لأبتعد أخبره بِلغتي الصَّامتة أنَّه لا بأس، حتمًا لا أعلمَ علامَ يَعتذر ولكنَّه لَم يخطأ ليعتذر حتّى!

على مائدة الافطار والدي يَجلسُ يَحتسي كوبَ قهوته بهدوءٍ وهو يرتدي ملابس عمله، أبي هو بَطلي في هذه الحياة، هو السَّكينة والنَّعيم هنا، وهو كلُّ أملٍ يَنبعثُ داخلي، أحبُّ رؤيته في الصباح وهو يَذهب إلى عمله، فَيُقبِّلَ جبيني مع حضنٍ دافئٍ لا مثيلَ له لو درتُ الكرة الأرضية أجمعها بحثًا عن مثله، وابتسامته وحدها من تجعلني أشعر بالفخر، متناسيَة أكبر آثامي بِحقِّ نفسي.

رَتَّبتُ هندامي لأستعدَّ لذهاب إلى جَحيمي الدّنيَوي، لَم أكن لأكره المدرسة لو كانَت فقط تخلو من المُتنمِّرين الَّذين يَروني فَريسة سهلة لِصمتي، فأنا كلِّيًا جيدة بالحفظ وكذلك الفهم، أمسكَ أخي يَدي يَأخذني بسيّارته كَكلِّ مرة قبل أن يَذهب لعمله في المشفى، لكن هذا اليوم كانَ مُختلف، لَم يُودِّعني عند بوابة المدرسة وإنَّما دخلَ معي إلى أن وصلتُ للصف تَحت نظرات الطلاب المخيفة.

«لِي حديثًا بسيطًا مع المدير عزيزتي؛ لذا أبقي هنا قليلًا حتّى أعود!».

هَمهمتُ له بِصمتٍّ أومأ بينمت عيني لا تُغادران جسده، أودُّ لو يبقى معي لِنهاية الفصل، حتّى يَنتهي الدّوام ويأخذني للمنزل، لكنَّه بالفعل لديه عمل وحياته الخاصة، وما أنا إلَّا دخيلة.

مَضت الحِصَّة الأولى ولَم يأتِ، اعتَقدتُ بأنَّه قد غادرَ؛ لذا جَهزتُ نفسي لشَّتائم والسُّخرية الَّتي سأتلقاها كوني بَكماءٌ مُشوَّه.

في النِّهاية عليَّ الصبر، الصبر الَّذي لا بد أن يَنتهي لكن في عالمي لَن يفعل، عليَّ أن أتجَهَّز بِمخازن الصبر إلى أمدٍ طويل لَن ينتَهِ بسهولة ولو بَعد حين.

«هَل عدتِ مجدَّدًا أيَّتها المسخ؟!».

أطلقتُ تَنهيدَةٍ صمّاء لكنَّها صاخبة بداخلي، أودُّ أن أصرخ وأن أوقِفَ هذه المهزلة، لكنّي فقط مُطأطأَةٌ الرأس وخائبة المعنى.

شعرتُ بكفٍّ على كتفي لأرفِعَ نظري الجَّميع كانَ خائفًا من الأستاذ الَّذي ظَهرَ من العدم مَع أخي، ولكم كنتُ سعيدة عندما عانَقني.

«هل صَدقت الآن أنَّها تتعرَّض إلى التَّنمر بِسبب شكلها؟!
أقسم بأنَّ لا أحدًا آذاه سَيفلت بِفعلته!».

انتَفضَ أخي بِغضبٍ جعلني أجفلُ بمكاني، هذه المرَّة الأولى الَّتي أراه هكذا يَغضب ويصرخ رُغم أنَّه كان دائمًا ما يصرخ عليَّ بسبب ثيابي، لكنَّه لم يكن هكذا!

سَحبني إلى الخارج مُمسكًا يدي، ما إن ببثنا أمام سيَّارته لِيعانقني، سمعتُ شهقةً منه قد خرج، هو يَبكي!

«أنا آسفٌ مينّي، حقًّا آسف؛ لأنَّني لَم أكن لك أخًا جيد!».

عانَقتُ رَقبته بِذراعيَّ الصغيرتين مُخفِّفةً عنه، أنتَ أفضل أخٍ قد حظيتُ به على الإطلاق صدقني!
ابتَعدتُ عنه بِهدوءٍ لأخبره بلغتي البكماء أنّي أحبه ليبتسم لي، أعتذر لأنَّني جعلتُك أخي، ولم أكن قوَّية وقتها حتّى أقاوم عن ذاته، ولأنَّني لم أخبركَ عن أمر تَنمرهم علي!

واقِفةٌ على جنبٍ بعيدَةٌ عن الأطفال الَّذين تنمر علي، مُعظمهم أكبر منّي، بعيدًا عنَّا يجلس أولياء الأمور لتلكَ الأطفال وأخي والمعلم في صفّي مَع نائب المدير .

«... ألا يَكفي بأنَّ الحياة أحرقتها بقسوَتها وأذاقتها أكواب العذاب وهي لم تَتجاوز حتّى سنها العاشر، لِتأتم أنتم وأطفالكم لِتزيدو العذاب فَوق عذابها، صدقًا لو لَم تكونوا ذا اخلاقٍ لما تَنمَّر أحدًا عليّها!».

تَكابَر الجَّميع بِوجهِه،الجَّميع هنا من طبقةِ الأغنياء،ملابسهم تَصرفاتهم وغرورهم توحي ذلك بعبارات الصّرح!

«إنَّهم مجرد أطفال لِمَ تأخذ الأمر هكذا؟!».

تَحدّ‌ثت أحدى النساء بِغرور لِينتفض أخي بِوجهها لِيرد الرجل بِجانِبها قائلًا:

«وَهل كذبوا في الأساس؟ أنظر لشكلها، بالتأكدين سَيرونها مسخًا بوجهها المحترق هذا، وكأنَّها حيوانًا يُغطى قذارته خلف شعره!».

شَعرتُ وكأنّي أقعُ في هاويةٍ عميقة أكبر ظلمة ممَّا أنا فيها!
رُبَّما لم يَكذبوا حقًّا، أنا مسخٌ في النِّهاية، أمتلكُ أكبر الملامح بَشاعةٍ، نصفُ وجهٍ بل وأغلبه مُحترقٌ، عينٌ لا أرى فيها قد طُمست إلى الأسفل، بينما تُحاول خصلات شعري الغير مُحترقة والَّتي قد نمى بَعضها خلال هذه الفترة بِتغطية قباحتي، لا ألومهم في الواقع، فحتّى أنا أخافُ من النظر لِنفسي في المرآة!

«لا أحدَ مسخًا هنا غيركم أنتم، أنتم هم المشوَّهون هنا، أنتم من تُحاولون تَغطية قباحتكم خلفَ تلكَ البدلات الزِّينة الفاحشة، أما عن تلكَ الطفلة الَّتي تقف هناك، هي أطهرُ منكم وأكثر برائة من أن يُطلق عليها بالمسخ!».

صَرخ أخي بِقوَّة حنجرته بَعدما ضربَ الطاولة بِقوَّة، الجَّميع صُدمَ من كلامه، أحدٌ حاولَ الصراخ معه قائلًا أن يلتزم حدوده ولكنَّه صرخَ مرَّة أخرى:

«أعلم مَع أتكلم بالفعل، سأظهر جميع آثامك إلى العلن يا من تَصنَّعت قلبك باللين والقسوة!».

خَرجَ بسرعةٌ آخذني مَعه بينما نائبُ المدير يُحاول أن يُوقفه، طوال الطريق كانَ ساكِنًا صامتًا، أحاول أن أفَهمه، أحاول أن أكون راحته قبل أن أكون همَّه، لكنّي لَم أستطع قد أن أكون غيرَ الهمِّ والقلق، هو من يَعتني بي بكلِّ شيء رغمَ عمله في المشفى ورُغمَ تعبه إلَّا إنَّه لم يَتذمَّر ولو مرَّة واحد، رغم أنّي لستُ بأخته حقًّا، إلّا إنَّه يتصرف وكأنَّه أخًا حقيقي!

وَقفنا أمام عيادَة الطبيب بارك لأسمع صوت تشان مِن خلفي وهو يُناديني، ابتسمتُ له ورحتُ ألعبُ معه في عيادة والِده مَع لعبته الجديدة، بينما أسمع أخي يَتكلَّم معه.

«لا أستطيع جَعلها تذهب للمدرسة مرَّة أخرى، أعتقدُ بأنَّنا سَنذهب لِمقاطعةٍ أخرى، عسى ألقى من يَكنُّنَ لها بَعض الرِّقة على حالِها!».


«جونغ إن، لا يُمكنك هذا فأنتَ الآن طبيب في المستشفى، فالتَصبر قليلًا وسأجدُ حلًّا للأمر!».

«أتريدُني أن أصبر على تَنمرهم عليها؟!».

«لا ليسَ كذلكَ، لنقم بِعمل جواز سفرٍ لها، سأذهب أنا إلى بريطانيا لإرجاء تجربة حول اعادة النُّطق للذين بِحالتها؛ لذا يُمكنُكما المجيئ معي، وأنتَ ستجد الحياة أجمل بوظيفتك هناك، أفضل من العنصرية الَّتي تحدثُ هنا!».

جَلسَ يشرحُ له عن السَّفر، وما إن ذَكرَ إنَّه سيعودُ نطقي اتسع‌ فوجُ عينيَّ لأركضَ نحوَه تاركِةً نحيب تشان المزيف وأشدُّ له قميصه، نَظر لي لأبتسم باتساعٍ أكلُّمه بلغة الاشارة أنَّني موافقة على الأمر، أريد لِصوتي العودة، هذا أشدُّ ما أرغبه، لا يَهمُّني شِكلي المخيف، ولا عيني المحترقة، ولا الأذى الَّذي حصلتُ عليه أو سَأحصلُ عليه!

كرهتُ الصَّمت الَّذي رافَقني كلُّ هذه المدَّة، حيثُ تَجتاحني رغبة فاجرة بالبوح، البكاء بأعلى صوتٍ لدى حبال حنجرتي، أودَّ الصُّراخ بأنّي أتأبم من تلكَ الكلامات الَّتي تُرمى عليَّ وكأنَّني قمامة!

«حسنًا، سأصبر حتّى موعد سَفرك!».




_______________________________

يا أنقاض ماضٍ، عيدي بناء نَفسكِ لأجل الانتقام!
_______________________________
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي