الفصل الثالث

انثي بمذاق القهوة

اكمل الطبيب حمزه باقي نهارة مابين واجبات منزليه تُقضي او اعمال عالقه يجلس امام حاسوبه بين الحيو والآخر لينهيها او بين فكر شارد لبعض الوقت في تخمين ترى مالذي يمكن ان يكون حدث لتلك المسكينه؟

وبينما هو في احدي نوبات شروده رن هاتفه برقم غريب، فاجابه واذا بنفس الصوت يتسلل لمسامعه فتنتبه كل حواسه، نعم انه صوت ام ود التي تحدثت قائله :
الو يادكتور، انا اللي كلمتك الصبح، ام ود اللي قولتلك هكلمك تاني..

فرح حمزه كأنه وجد كنزاً ثميناً وبالاخص حينما لاحظ ان صوتها بدا اكثر ارتياحا واردف في قرارة نفسه قائلا : ههههه بتفكرني بنفسها كأني نسيتها وانا اللي مستني اتصالها من الصبح على احر من الجمررر، قالها ثم تنحنح ورد عليها بهدوء يبعث الطمأنينه فالقلب :

ايوه معاكي يافندم اهلا بحضرتك، الحقيقه انا من بدري منتظر اتصالك دا وكنت بتمني انه يحصل فأسرع وقت عشان مصلحة بنت حضرتك

ردت عليه السيده بتنهيده : انا يابني مستعده اضحي بنفسي عشان بنتي ترجع زي ماكانت وتردلها عافيتها وعقلها، ود يادكتور كانت حاجه تانيه خالص لكن منهم لله ولاد الحرام هما اللي عملوا فيها كده ربنا ينتقم منهم.
لم يشأ الطبيب حمزه مقاطعتها وتمني لو انها تكمل حديثها وتتعمق فالتفاصيل اكثر ولكن هذا لم يحدث فقد اكملت قائله :
هحكيلك كل حاجه بالتفصيل يادكتور بس لما اقابلك فالمكان والميعاد اللي تحدده..

رد عليها الطبيب حمزه على الفور : بكره الساعه ١١ فالمستشفي تقدري تكوني هناك فالميعاد دا؟

السيده بفرحة واضحه : ايوه يادكتور طبعا اقدر .. بس ارجوك بالله عليك تخليني اشوفها، هبص عليها من بعيد واطمن عليها بس واوعدك مش هكلمها ولا اخليها تشوفني.

رد عليها الطبيب متعجبا :
وليه من بعيد وليه تترجيني عشان تشوفيها؟ بالعكس دي حاجه فمصلحتها انها تفضل علي تواصل مع الناس والعالم اللي حواليها وحبايبها دا مش هيحسسها بالوحده او انها منبوزه ومهمله ويساعد كتير فعلاجها!

ردت عليه السيده بتعجب يضاهي تعجبه : ايه دا يعني انتوا مش مانعين عنها الزيارات؟
اجابها حمزه : لا خالص مين قالك كده؟
اردفت متنهده : اللي قال كده هو اللي بيحول كل حاجه فحياة بنتي لكذبه كبيره الهدف منها تدميرها.. القصد ربنا عالظالم يبني، عموما انا هكون هناك قبل الميعاد مستنياك.. ربنا يباركلك ويكون الشفا علي اديك ياقادر ياكريم.

انهت المكالمه معه واغلقت الخط، وابعد الطبيب حمزه الهاتف عن اذنه واعاده في مكانه وابتسم فقد فتح اتصال هذه السيده امامه افاقاً جديده تساعده في علاج مريضته،وغير ذلك ارضاء فضوله تجاه ماحدث لذلك الملاك الصامت..

انهي الطبيب حمزه يومه بروتينه المعتاد وختم امسيته بمكالمه لاخته الوحيده المتزوجه في محافظة اخري تبعد عنه ساعة تقريبا بالسيارة، واطمئن عليها وعلي احوالها واحوال صغارها كعادة يوميه لا يكتمل يوم الاثنين بدونها فهو لها نعم الاخ والاب والصديق منذ ان توفي والدهم من ثلاث سنوات وتركها امانة في عنقه فهي لم يعد لديها في هذا العالم غيره اهل لها.

انهي مكالمته ثم استوي علي فراشه ونزع نظارته واغمض عينيه ناعسا متمنيا ان يأتي الصباح سريعا.

وبالفعل سرعان ماسمع صوت تواشيح الفجر فنهض مستعيذا من الشيطان فتوضأ وصلي فرضه وعاد للنوم مرة اخري وهو يقنع نفسه مثل كل يوم انها ستكون فقط غفوه ويفيق سريعا منها، وهذا مالم يحدث ابدا بشهادة منبهه الذي يصرخ يوميا الي ان يتعب لايقاظه...

استيقظ حمزه اخيرا بعد غفوته مع اول رنه للمنبه وهذا شيئ نادر الحدوث ولو كان المنبه نفسه يتحدث لاعلن عن استغرابه، نهض ودلف الي المطبخ سريعا فقام بصنع معشوقته واستهل يومه بها كالعادة وقامت هي الاخري بدورها في مساعدته علي توازن خلايا عقله وحثهم علي العمل جيدا لباقي اليوم.

انهي حمزه قهوته وتوجه الي الثلاجه فصنع لنفسه بيضه مقليه قام بوضعها علي قطعة من التوست واكلها سريعا قبل ان يدخل حمامه لاخذ حمام دافئ والاستعداد ليومه الحافل..

وصل حمزه الي المشفي اليوم في ميعاده لأول مره منذ وقت طويل مما جعل الدهشه تتسلل لنفس المدير شخصيا وهو يراه امامه في ميعاد الحضور تماما واردف قائلا :

خير يادكتور حمزه فيه حاجه حصلت النهارده معاك ولا ايه؟
اجابه حمزه غير مبالِ بنبرة السخريه في حديثه : ابدا يادكتور محصلش اي حاجه.

المدير : امال جاي فمعادك النهاردة يعني يال العجب.. قالها وهو ينزع مناظيره ويتركها تستقر علي صدره بفضل رباطها، فرد عليه حمزه ممازحا :
ايوه ماهو حضرتك متفتكرش ان دا شيئ ممكن يتكرر فالوقت القريب لان دا حدث نادر زي الخسوف والكسوف كده مبيحصلش غير كل مده من الزمن.

المدير : والله من غير ماتقول انا عارف انك انت والالتزام خطين متوازيين لا يلتقيان.
رد عليه حمزه : احبك وانت قاريني.. صباحك فل ياعم الشباب.

رد عليه مديره ممتعضا : ايه يادكتور الالفاظ السوقيه دي! مين اللي علمك تتكلم كده؟
رد عليه حمزه : العيال وحيد وعمرو دول عيال سيس وبيعلموني الالفاظ دي لو خايف عليا انحرف اكتر ارفدهم..

المدير وهو يعيد نظارته لعينيه مرة اخري : اه ارفد الدكاتره كلهم ونفضل انا وانت بس فيها نشد فشعر بعض.. روح ياحمزه روح شوف اللي وراك. واعمل حسابك النهارده هتستلم الحاله ١٠٦ مكان دكتور جورج وهو هيستلم مكانك حاله ١٠٣.

رفع حمزه عينيه سريعا علي المدير بدهشه وهو يسأله : ليه يعني والقرار دا اتقرر بناء علي ايه بقي؟
المدير : بناء علي ان الحاله ١٠٦ مع جورج بقالها ٦ شهور مفيش فيها اي تقدم او تحسن بالعكس حالة المريض بتسوء وجورج مبقاش عارف يسيطر عليه فأنا اوكلت مهمة اكمال علاجه ليك انت، وكمان جوز الحاله ١٠٣ كلمني امبارح واستشفيت من كلامه ان كون الحاله تخف او لا دي متفرقش معاه ولو اتأخرت مش هيعملنا مشاكل..

حمزه باعتراض شديد : دكتور على فكره مش هينفع اني اتابع كل حالات المستشفي بنفسي وكمان بعد مالدكاتره يكونوا استخدموا معاهم وعليهم طرق بدائيه فالعلاج خلت حالتهم تسوء وتتدهور اكتر وتعالي ياحمزه أصلح ماافسده زملائك وتطلع عين امك مش اشكال ! وكمان مين قال لحضرتك اني هسيب الحاله ١٠٣؟ اسيبها لحد من الزملا المبجلين وهي حالتها متدهوره اصلا ويوصل بيها لمرحلة يستحيل عندها العلاج وتعالا بعد كده يادكتور حمزه بعصايتك السحريه عالجها ازي ملناش فيه.. اسف يادكتور المريضه بتاعتي مش هسيبها حتي لو اهلها مش عايزينها تخف ومش هاخد مرضي حد اتصرفوا بعيد عني.

المدير بحزم : حمزه دا قرار مديرك ولازم تنفذه وتحترمه كمان.

حمزه :محترمه بس مش هنفذه.
المدير : دكتور حمزه!!
حمزه : مفيش حمزه، فيه ان حالتي هكمل علاجها بنفسي غير كده انا هضطر آسفا اني اسيب الشغل فالمستشفي دي وامشي خالص .

المدير بعنف : اتفضل يادكتور حمزه.

حمزه : ايه امشى؟
المدير :لأ اتفضل علي شغلك.. وحاله ١٠٦ تتابع مع دكتور جورج فعلاجها وتوجهه وانا هديله اوامر يسمع كلامك وينفذه وبنفسك تديني تقرير الحاله سامع.
حمزه بابتسامه مكتومه وحده مصطنعه : سامع.. بعد اذن حضرتك
المدير بغيظ : اتفضل.

خرج حمزه من مكتب المدير شاقا طريقه الي تلك التي ظلت تراوده في احلامه طيلة الليل وتطالبه بالقدوم اليها سريعا وها هو اتاها ملبياً

فتح قفل باب الغرفه وفتح الباب بعد عدة طرقات متتاليه تنبه المريضه بقدوم شخص ما اليها، ثم دخل ونظر لها ومد يده يعدل نظارته وهو يراها ممددة علي فراشها بهدوء وعيناها متعلقة بباب الغرفه كمن تنتظر دخول شخص معين وخاب ظنها بدخوله هو، فخفضت عيناها سريعا بخيبة امل..
تقدم منها حمزه ببطئ وجلس علي الكرسي امامها وبدأ في تأملها قليلا وهو يسبح الخالق علي هذا الجمال الكامن في وجه هذه المخلوقه ثم استهل كلامه معها بكلمات بسيطه :

ياتري ود الجميله عامله ايه النهارده؟

صبر لحظات ولم يتلقي اجابة ولكنه اكمل علي اي حال.. طيب مأكلتيش اكلك ليه؟ قالها وهو ينظر الي الطعام الموضوع بجانبها ومن الواضح انها لم تقربه واكمل بدون انتظار لاي اجابة منها...

هو انتي مش عارفه انك لو مأكلتيش هنضطر اننا نديكي الاكل دا علي هيئة محاليل عشان جسمك ميضعفش وتحصلك مشاكل ومضاعفات من قلة الاكل، ومن الواضح انك بقالك كتير مش بتاكلي كويس ودا واضح عليكي جدا وابتدت تظهر عليكي بعض المشكلات فعلا،، زي السواد اللي تحت عنيكي دا مثلا، واللي بيقول ان عندك انيما ١٠٠ ٪

لم تجبه ود ايضا علي كل هذا الكلام ولكنه علم انها تسمعه جيدا حين رفعت يدها تتحسس اسفل عينها اليمني بحسرة واضحة وتنهدت تنهيدة جعلت الطبيب حمزه ابتسم وأكمل حديثه، لكن دا ميمنعش انه مأثرش ابدا علي جمالك وانك لسه زي القمر..
قالها وانتظر ردة فعل ود التي تمثلت في نظرة عابره من عينيها اليه استطاع ان يري من خلالها وجع دفين في اعماق ود يكاد يعادل طوفان، ان تركت له العنان يخرج ويدمر كل شيئ يحيط بها،
الا انها ستكون علي مايرام حينها وهذا هو الاهم فأحيانا كثيره يضطر الانسان في سبيل التعافي من مرض ما، ان يتخلي عن كل مسبباته من عادات او حتي اشخاص مهما كانت ذو اهمية له، فراحته بالتأكيد هي الاهم وشفائه هو الاولي، وتحرير هذا الطوفان الكامن سيكون هو مهمة الطبيب حمزه من اليوم .

استمر بعدها فالتحدث اليها حتي وان لم تجبه، فيكفي انه تيقن انها تستمع جيدا وكلماته تعطي التأثير المطلوب حتي وان كان مفعوله بطيئا فهو افضل من العدم..

جلس معها حوالي الساعة تقريبا وهو يتحدث ويتحدث لا يعلم كم مر عليه من الوقت ولكنه لم يشعر به فهو لاول مره يكون في وضع المتحدث لا المستمع ويجد من يسمعه بانصات دون مقاطعه مثلما يفعل هو، ووجد ان في هذا الشيئ راحة حقيقيه لدرجة انه نسي نفسه وتطرق لحياته الشخصيه يحكي لها متاعبه ..
لكنه تدارك. نفسه اخيرا واردف ضاحكا : والله القعده دي ماكان ناقصها غير فنجانين قهوة مظبوط وكانت الدنيا بقت تمام.. الا قوليلي ياود بتحبي القهوة؟ صمت قليلا امام نظرتها المفاجئه اليه واردف سريعا : سؤال مش المفروض يتسأل صح؟ اصل مفيش حد مبيحبش القهوة فالدنيا دي غير لو كان عنده مشكله ولازم يعالجها بالتأكيد..

قالها ثم هم واقفا وعدل نظارته وامسك حقيبته ونظر لها نظرة اخيره وهمس لها مُطَمئناً : راجعلك تاني كمان شويه
وكمان هجيبلك معايا مفاجأه هتعجبك اوي.. كان يتمني ان يري لهفة الفضول في عينيها ولكنه لم ير بدلا عن ذلك سوي نظرة قاتمة خالية من المشاعر تخبره بان لاشيئ فالعالم الان يستطيع ان يجعلها سعيدة.

خرج حمزه متوجها الي غرفة المريض ١٠٦ ليلقي عليه نظرة عابره ويري مدي سوء حالته التي وجدها مثلما توقع وظل يلعن الطبيب جورج في سرة الاف المرات ثم وضع خطة لعلاجه وقرر ان ينفذها بنفسه مهما كلفه هذا من مشقة وتعب، لأن حياة انسان وعودته الي رشدة تستحق.

خرج بعدها متوجها الي حديقة المشفي وهو يطالع ساعته التي شارفت عقاربها علي الاشارة للساعة الحادية عشر واوشك لقائه قريباً بمن ستكشف له الغاز حالة ود امامه كأوراق التاروت...

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي