الفصل الثاني

"فتون"..

زينت ملامحها الفاتنة إبتسامة رضا و هي تتأمل انعكاس صورتها بالمرآة، رغم أن ثيابها لا تناسبها على الإطلاق.. أنها ترتدي دومًا ملابس رجوليه، و كبيرة للغاية عليها تخفي معالم أنوثتها و جمالها، حتى شعرها الحريرية الطويل تعقده بأحكام و تخفيه تمامًا أسفل أيس كاب أسود..

و بعدما تأكدت أنها تركت أنوثتها بغرفتها، و اكتملت هيئتها الذكورة، سارت للخارج متوجهه نحو شقيقها الصغير صاحب الخمس أعوام مرتدية قناع الأب، فور وقوع عينيه عليها ترك كل ما بيده و ركض داخل حضنها..
"صباح الخير يا بابا نون ".. قالها "كارم" و هو بتعلق بعنقها، لتقبله "فتون" بحب شديد متمتمة..
"حبيب قلب بابا نون أنت يا كارم".. قبلته مرة أخرى و تابعت بابتسامة دافئة.. "صباحك هنا يا حبيبي"..

داعبت أرنبة أنفه بانفها وهي تقول..
"ها يا بطل مستعد لفسحة انهاردة "..

تهللت أسارير الصغير و صاح بفرحة غامرة قائلاً..
"أيوه مستعد أوي "..

"طيب أستنى هنا دقايق هنادي لماما من عند خالتو صفية و أرجع أخدك ونمشي على طول"..
.................................................

كانت" صفاء " تجلس برفقة شقيقتها" صفية" يتبادلان أطراف الحديث، مَثلت" صفية" البكاء و هي تقول..
" مكنش العشم يا صفاء يا أختي.. عايزة ترميني أنا و ولادي في الشارع و أرجع اتبهدل في الإيجار تاني!!"..
صمتت لبرهةً و صاحت فجأة بصوتٍ عال للغاية قائلة..
"أما إنك قليلة الأصل صحيح.. بقي يا بت عايزه تطرديني من بيت 200 متر يرمح فيه الخيل عشان تقعدي فيه لوحدك انتي و البت اللي مش عارفين لها نوع إذا كانت بت و لا واد و لا الواد المفعوص الصغير كارم اللي روحتي جبتيه من الشارع و بتقولي عليه ابنك!!.. بدل ما تقوليلي اشطب لكل واحد من ولادي شقة و نبقي حواليكي أنا و هما بدل ما تبقى مقطوعة من غير أهل و لا سند"..

قطعت حديثها، و انتفضت بهلع حين صدح صوت"فتون" فجأة تتحدث بلهجة حادة قائلة..
" هما فين ولادك دول يا خالتي!!! "..

نظرت لها" صفية" نظره يملؤها الخوف، و ردت عليها بتوتر قائلة..
" يا مرحب يا نون.. شوفتي يا فتون أمك عايزة تعمل فيا ايه أنا وولادي"..
بكت بكاءها المزيف، و تابعت بخبث..
"يرضيكي تطردنا من بيتكم و نبقي في الشارع"..

أبتسمت لها" فتون" إبتسامة مخيفة، و تحدث ببرود تام قائلة..
"ما تسيبك من حركاتك دي يا صفصف علشان مبتدخلش ذمتي بقرش واحد"..

كانت تتحدث و هي تسير نحو باب غرفة مغلق، و بلحظة كانت دفعته بقدمها بحركة سريعة فتحته على مصرعيه..

كان بالداخل ثلاث شباب أبناء خالتها ينامون كالجثث، ليقظهم صوت ابنة خالتهم جلعهم يهرولوا مسرعين تجنبًا لغضبها..
" قوم ياض أنت و هو عايزاكم تفضوا الشقة دي خلال ساعة زمن على ما أوصل مشوار و أجي.. فاهمين اللي قولته و لا أعيد كلامي تاني "..

جملتها الأخيرة قالتها و هي تتخذ وضع الإستعداد للقتال معاهم، فركضوا جميعهم من أمامها لعلمهم أنها ستتغلب عليهم..

"فهمنا يا نون و هنفذ كلامك حالاً "..
نطقوا بها الثلاثة" حازم،مازن، مروان" في نفس واحد..

" أنتي هتحرضي ولادي عليا و تخليهم يعصوني و يرموني بره بيتكم".. قالتها "صفية" بصوتٍ أشبه بالصراخ، و بوعيد تابعت..
"قلة أدبك دي ابني الكبير مش هيسكت عليها أبدًا و أنا هستني لما يرجع وهخليه يربيكي من أول و جديد"..

صاحت "صفاء " بغضب عارم قائلة..
"حافظي على كلامك يا صفية.. فتون بنتي متربية أحسن تربية، و لو على إبنك الكبير فهو قالي بنفسه أنه جهز لكم شقة و تقدروا تنقلوا فيها وقت ما تحبوا، وأنا سبتك كل الفترة اللي فاتت دي رغم عمايلك معايا منعت فتون تقربلك، و أنتي عارفة بنتي تقدر تعمل فيكي أيه كويس أوي، بس كنت بقول لنفسي إنك في الأخر أختي و ميرضنيش أبدًا إنك تترمي في الشارع "..

اقتربت" صفية" منها حتى أصبحت تقف أمامها مباشرةً، مالت على أذنها وهمست بصوتٍ يحمل كرهه، و حقد دفين متمتمة..
" بنتك اللي أنتي بتخوفيني بيها دي مبقاش أنا أم الرجاله لو محرقتش قلبك على شبابها يا صفاء"..

كلماتها السامة هذه وصلت لسمع" فتون" فابتسمت إبتسامة تظهر جمال أسنانها ناصعة البياض و هي تقول..
"طيب يا أم الرجاله شوفي هتقدري تعملي أيه و اعمليه أنتي و رجالتك"..

صكت" صفية" على أسنانها بغيظ شديد، تمنت لو تستطيع أن تهجم علي" فتون" و" صفاء " و تلقينهم درسًا قاسيًا، لكنها لا تملك بيدها أي شيء حاليًا سوي حديثها السام..

"خف أيدك أنت و هو عشان عربيات العفش وصلت قدام البيت"..أردفت بها" فتون" قبل أن تغادر الشقة برفقة والدتها تاركة "صفية" تشتعل أكثر و أكثر و تتحدث بذهول قائلة..
"كمان متفقين مع العربيات اللي هتشيل عفشي.. دا أنا طلعت نايمة على وداني"..

رمقت أبناءها بنظرات حارقة لم ينتبهوا لها على الإطلاق، كانوا مشغولين بجمع الأثاث من حولها، يعملون على قدم و ساق غير عابئين لحديث والدتهم، كل همهم تنفيذ أوامر النون،

ضحكت ضحكة مستهزءة وهي تقول بسخرية..
" يا فرحتي بيكم و أنتوا يا رجاله بشنبات كده و بتسمعوا كلام حتة عيله مطلعتش من البيضة.. بتبيعوا أمكم و تشتروا خالتكم و بنتها المدكرة.. اااه يا حظك في ولادك يا صفية.. يا خيبة أملى فيكم يا ولاد سالم.. بس أنا مش هسيبهم.. انا هعرف ازاي أكسرك يا صفاء.. سمعاني يا بنت أبويا.. مش هرتاح إلا لما أشوفك مكسورة يا صفاااااء "..

كانت" صفاء" تستمع لصرخات شقيقتها التي تتوعد لها بملامح حزينة، لا تعلم ماذا أصابها جعل قلبها بكل تلك القسوة عليها ، كيف وصل بها الأمر أن تكون راحتها بكسرة شقيقتها !!!! ..

كان قلب"صفاء" يعتصره الألم من صدمتها في شقيقها، غزت العبرات عينيها لكنها رسمت اللامبالاة على ملامحها كعادتها حتى لا تلاحظ ابنتها..

"ماما يا حبيبتي أوعى تخافي من كلام خالتي.. محدش يقدر يكسرك طول ما أنا فيا نفس يا أم فتون"..
قالتها و هي تميل على وجنتيها و تطبع قبلة عميقة، أرغمت "صفاء" على الابتسامة و خففت عنها عبئ ما تحمله..

"ربنا ميحرمنيش منك أبداً أنتي و أخوكي يا فتون"..
أردفت بها و هي تضمها لحضنها بحب، و بلهفة تابعت..
" يله يا حبيبتي أطلعي عشان تفطري"..

"أنا مليش نفس دلوقتي يا ماما.. أطلعي أنتي و ابعتيلي كارم أنا هروح أنا و هو مشوار سريع كده و لما نرجع نبقي ناكل سوا"..

عقدت " صفاء" حاجبيها بتعجب، و تحدثت بتساؤل قائلة..
"مشوار أيه بدري كده يا حبيبتي!!"..

اجابتها "فتون" و هي تفتح باب غرفة صغيرة أسفل الدرج..
" أنتي نسيتي أني وعدت كارم افسحه يوم اجازتي"..

اندفع من باب الغرفة فور فتحه كلبان حراسة ضخمان للغاية،أشارت لهما "فتون " تجاه والدتها فركضوا نحوها و وقفوا حولها بحماية..
"خلي سيمبا و سمسم معاكي بس متنسيش تاكليهم.. و أوعى تفتحي لأي حد على ما ارجعلك".

نظرت للكلبان و تابعت بأمر..
" سيمبا.. سمسم يله على فوق"..
انصاعوا الكلبان في الحال، و ركضوا للأعلى و خلفهما "صفاء" تصعد الدرج على مهل و هي تقول..
"خلي بالك من نفسك و من أخوكي يا فتون ومتتأخروش عليا يا حبيبتي.. أنا مش هاكل الأ لما ترجعوا"..

قامت" فتون" بإخراج درجاتها البخارية و صعدت على ظهرها بخفة و رشاقة، جلست تنتظر قدوم شقيقها الصغير،

لمحت إحدي أبن خالتها الصغير فنادت عليه قائلة..
"واد يا مروان.. خد ياض"..

ترك" مروان" كل ما بيده على الفور، و ركض نحوها وقف أمامها و تحدث ببشاشة قائلاً..
"أمريني يا نون "..

لم تتحدث "فتون" بحرف واحد، بل غمرت له و هي تضع بجيب كنزته ورقة من النقود..

"فهمتك يا كبيرة.. اطمني لو أي حاجة حصلت هكلمك على الفون على طول"..

"و عينك على خالتك لحد ما أرجع يا مروان، و عايزاك تستعد كده عشان أنا هفتح مشروع قريب و هاخدك تشتغل معايا"..
كانت تتحدثت و هي تحمل شقيقها الذي أتى إليها راكضًا و اجلسته أمامها، و أرتدت الخوذة الخاصة بالدراجة التي أدارت محرها و قادتها بمهارة، و ثقة شديدة بنفسها..

.........................................

" مؤمن"..

يسير بسيارته بطرقات بلا هواده، يتنقل من مكان لأخر لا يعلم إلى أين هو ذاهب، عقله منشغل بتلك الزيجة التي فرضت عليه من قبل والدته، أصرت أن تزوجه لابنة شقيقتها، الفتاة التي دومًا كان يراها سلبية في كل أفعالها أصبحت زوجته، و الأدهي أنه لا يحمل لها بقلبه أي مشاعر سوي الشفقة، يشفق على حالها و تصرفاتها الطائشة،

يفكر في حل حتى ينهي هذا الزواج دون أن يغضب والدته أو يُسبب مشاكل بين عائلته..

لكم المقود بقبضة يده و زاد من السرعة و هو يحدث نفسه قائلاً..
"خوفي على تعبك و زعلك هو اللي منعاني أطلقها لحد دلوقتي يا أمي"..

فرمل السيارة فجأة حتى توقفت السيارة عن السير حين صُدم بدراجة بخارية أمامه مباشرة، ليجد نفسه أنه كان يسير بالطريق المخالف، و لولا ستر الله و مهارة السائق الذي تحكم في دراجته و اوقفها بآخر لحظة، كان اصتدم به بحادث سير مميت..

التقط أنفاسه التي انقطعت و هبط من سيارته تجاه قائد الدراجة البخارية الجالس عليها شاب يخفي وجهه بالخوذة، و يحاول تهدئة الصغير الذي يبكي من الخضة..

"بجد أنا أسف جدًا على اللي حصل!!"..
قالها "مؤمن" و كاد أن يقترب منهما أكثر لكن تحرك قائد الدراجة من أمامه بعدما رمقه بنظره من عينيه الظاهرة من زجاج الخوذة يتطاير منها الشرر،

نظرة ادهشته جعلته يقسم أن تلك العيون لن تكون أعين رجل، مستحيل أن يمتلك رجل أعين بكل هذا الجمال الخلاب الذي جعل كيانه كله يتزلزل من مجرد نظرة!!!

رغم ثياب هذا الشاب الرجولية إلا أنه بعدما رأي عينيه هذه بلونهما الرمادي المميز أصبح على يقين بأنه لا يمت للرجوله بصلة..

وجهه نظرة لرقم الدراجة حفظه بذاكره، و أخرج هاتفه من جيب سرواله طلب إحدي الأرقام و وضعه على أذنه ينتظر الرد و هو يهمس لنفسه..
"مش ممكن يكون راجل أبدًا.. العيون دي متنفعش تكون غير عيون بنت و مش أي بنت كمان"..

"مؤمن باشا.. أوامر معاليك".. كان هذا صوت من أتصل به، ليرد عليه "مؤمن" بعمليه قائلاً..
"هبعتلك رسالة فيها رقم ماكينة.. عايزك تجبلي أسم صاحبها في أسرع وقت ممكن، أو تجبلي صاحبها نفسه عندي في مكتبي "..

" أوامر معاليك"..

أغلق" مؤمن " الهاتف و عاد لسيارته قادها ثانيةً و ذهنه منشغل بصاحبة تلك العيون، تعاد نظراتها بذاكرته مرارًا و تكرارًا..

.............................................

مّر يومان على ما حدث..

كان" مؤمن" يجلس على مقعد مكتبه الفخم، يُعاد بخياله تلك النظرة التي بعثرت كيانه، خاصةً بعدما تأكد أنها فتاة كما ظن هو..

.. فلاش باااااااااااك..

"مؤمن باشا جبتلك الواد صاحب الماكينة اللي بعتلي رقمها جنابك.. إسمه حسام سالم الحلبي عنده 29 سنة من قليوب و بيشتغل على عربيته في السليم ملوش في الشمال"..

انتصب "مؤمن" واقفًا، و تحدث بلهفة نجح في اخفائها قائلاً..
"هاته.. خليه يدخل عايز اشوفه"..


لحظات و دلف شاب وقف أمامه بطوله الفارهه و هيئته التي تدل على أنه ليس قائد الدراجة، ليقترب" مؤمن " من وجهه نظر لعينيه المختلفة كليًا عن تلك العيون العالقة في ذهنه، و تحدث بلهجة حادة قائلاً بتساؤل ..
"مين اللي كان راكب الماكينة بتاعتك أول امبارح يا حسام؟!"..

اجابه "حسام" دون أن يرمش له جفن قائلاً..
"أنا اللي كنت راكبها سيادتك"..

تفهم "مؤمن " أنه خائف يأذي باعترافه من كان يقود الدراجة، فابتسم له و تحدث بلطف قائلاً..
"مش عايزك تقلق و لا تخاف على اللي كان سايق يا حسام.. هو مغلطش في أي حاجة.. أنا اللي غلطت للأسف و دخلت بعربيتي في الطريق المعاكس و لولا ستر ربنا و شطارة اللي كان بيسرق الماكينة بتاعتك كنا عملنا حادثة بشعة.. عشان كده أنا مصمم اعتذرله بنفسي"..

صمت لبرهةً و تابع بفضول و لهفة فشل هذه المرة في اخفائها..
" بس أنت خليك صريح معايا زي ما أنا صريح معاك كده وقولي اللي كان سايق ده راجل!! "..

توتر" حسام" مغمغمًا ..
" أنا كمان هبقي صريح معاك يا باشا و هقولك الحقيقة.. مروان أخويا الصغير هو اللي كان سايق.. كان واخد إبن خالتي الصغير يفسحه شوية و استأذن مني، و أنا وافقت عشان عارف أنه سواق بريموا.. ما أنا معلمه بأيدي سيادتك و لما عرف إن جاي القسم قالي مش هسيبك أبدًا و جه معايا رغم صغر سنه"..

" يا عسكري".. كان هذا صوت" مؤمن " الذي صدح ينادي على الحارس الواقف أمام مكتبه..

" أوامر معاليك يا فندم"..

" هات يا ابني الشاب اللي مستني بره"..


هذه المرة دلف شاب مراهق عينيه تشبه تلك العينين التي أطارت اللُب من عقل" مؤمن "، لكنها ليست بنفس سحر الأخرى بوسعها و كثافة رموشها..

ربت" مؤمن" على كتفه مردفًا بابتسامة..
"أنت بقي اللي كنت سايق؟! "..

اجابه" مروان " بثقة..
"أنا يا باشا حتى بأمارة ما بصيت لسيادتك و جريت بالماكينة بسرعة عشان بصراحة خوفت من سيادتك تزعق فيا اكمني لسه صغير"..

"اممم.. و ماله يا مروان أنت و حسام"..
دمدم بها" مؤمن" و هو يجلس على مقعدة مرة أخرى..
" بس قولي يا حسام. أنتو عندكم أخوات تاني غيرك أنت و مروان؟! "..

" حسام ".. " أيوه عندنا حازم و مازن.. إحنا أربع رجاله سيادتك و معندناش أخوات بنات"..

حرك" مؤمن " رأسه بالإيجاب و تحدث بابتسامة مزيفة قائلاً..
"طيب يا حسام أنت و مروان تقدروا تروحوا.. بس ابقوا بلغوا إعتذاري للي وصف لكم اللي حصل و قالكم أنه بصلي و طلع يجري بالماكينة لحد ما اوصلوا أنا و أعتذر له بنفسي"..

نهاية الفلاااااااش بااااااك..

انتهي الفصل..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي