الفصل الرابع

الفصل ٤
عندما تضيق الدنيا على الإنسان ويتعرض للقسوة والظلم وكسرة النفس وقلة الحيلة ويشعر بضعفه في مواجهة الدنيا، فإنه يفقد الرغبة في المواجهة، يفقد الرغبة في الكلام ويهرب من دنياه بالطريقة التي تلائمه.
كانت تدور في رأسها عشرات الأسئلة وهي تمسك ملف الحالة الجديدة التي كلفت بعلاجها، شعرت بالضيق، فهي لم تكن تريد تحمل مسئولية حالات أخرى، يكفيها كم الحالات التي تقوم بعلاجهم في الوقت الحالي.
الإسم تقى ماهر قرأت الاسم حتى الأن مرات لا تحصى، تأملت صورتها الموضوعة في الملف، ملامح ملائكية رقيقة، من يراها يستحيل عليه تصديق أنها قتلت روح بشرية.
ظلت نهى تراجع الملف لمدة نصف ساعة، ثم أغتصبت شهيق عميق قبل أن تحرك قدميها وتنهض واقفة، وخرجت من مكتبها متجهة إلى غرفتها وعندما أقتربت من الباب أشارت للممرضة بفتح الباب لها.
بمجرد أن دلفت إلى الداخل، حملقت باندهاش إلى جسد الفتاة الصغير المكبل القدمين واليدين، بأساور حديدية في الكرسي الجالسة عليه تمنعها تماما من الحركة.
بعد دلوفها مباشرة خرجت الممرضة مغلقة الباب خلفها، جلست نهى في الكرسي المقابل، منذ قليل شعرت بالقلق وأخذت تتأمل مريضتها الجديدة، كانت صغيرة الحجم مقارنة بالكرسي المقيدة فيه، كانت هادئة هدوء يوتر الأعصاب، تنظر لقيودها تارة وإليها تارة أخرى، بدا من الواضح انها تنتظرها ببدء الحديث.
أطالت نهى التحديق إليها، كانت فتاة جميلة وبالأحرى شديدة الجمال، بوجهها الذي يشبه القلب وبشرة كالحليب الصافي وشفتين مكتنزتين كشفتي انجلينا جولي وعينين كالزمرد.
وضعت نهى الملف من بين يديها فوق الطاولة وابتسمت قائلة:
- معرفش مين الغبي اللي ربطك في الكرسي، بعد كده مفيش قيود عشان انا الدكتورة المسئولة عن حالتك من يوم ورايح.
ثم أخرجت المسجل من حقيبتها ووضعته بعد تشغيله فوق الطاولة بجوار الملف.
واردفت قائلة:
- اسمك تقى وكلها كام يوم وتكملي ستشر سنة.
ثم أكملت بابتسامة ، الاحسن نرمي الرسميات دي ورا ضهرنا انا نهى والدلع نونه، هو غريبه شوية على نهى، بس ستي الله يرحمها هي اللي طلعته ليا ومن يومها والكل بيقولي يانونه، وانتي بقا اسم الدلع أيه؟
ظلت تعابير تقى هادئة لم تعطي أي رد فعل لكن نهى رأت ارتعاشة خفيفة في كف يداها.
فأكملت نهى برقة:
- أفك أيديك.
هزت رأسها دون أن تنطق، لتنهض نهى من مكانها وطرقت على الباب، دلفت الممرضة إلى الداخل قائلة:
- نعم يا دكتورة.
- فكي ايديها ورجلها دلوقتي.
ردت شيماء بلهجة متوترة:
- لكن دي أوامر دكتور باهر عشان هي خطر على نفسها وعلى اللي حواليها ولزم تبقا مربوطة علطول.
قاطعتها بحدة:
- معنى كلامك انها مربوطة ليل نهار.
تململت شيماء في وقفتها وهي ترد:
- أيوه وأنا هنا بنفذ الأوامر وبس.
فتحت فمها تريد توبيخها لكنها قفلته مرة أخرى فهي كما قالت تنفذ الأوامر، لذا تابعت قائلة:
- انا من النهاردة المسئولة عنها وانا اللي أقرر وضعها ومحتاجة ايه والدكتور باهر هيكون ليا كلام معاه بعدين، وهاتي مفتاح الاقفال واخرجي.
أخرجت شيماء المفاتيح وناولتها إلى نهى ثم خرجت بعدها مباشرة.
قالت نهى بلهجة دافئة وهي تفك قيودها:
دكتور عبيط اللي أمر بربطك، تخلف بعيد عنك، بعد كده متخافيش.
ظلت تقى ترمقها بصمت، شعرت نهى بالأرتباك، هل فشلت في البداية بينهم، فقالت بابتسامة:
- نتعرف من أول وجديد أنا نهى فاضل الدكتورة المسئولة عن حالتك.
لا تغير في تعابير وجهها وظلت صامتة، رفضت نهى الاستسلام من أول جلسة لها، أكملت بابتسامة تحاول حسها على الكلام:
- احنا هنتفق على حاجة مادام مش عايزه تتكلمي، أنا هسأل وانتي كفاية تهزي راسك.
ظللت كل محاولات نهى بالفشل، انهت كلامها باستسلام:
- جايلك بكرا ونظرت إلى ساعتها وتابعت في نفس الميعاد.
انسابت دمعة وحيدة من عينيها وهي تتابع خروجها وإغلاق الباب، هي اختارت هروبها الاختياري من واقعها بالصمت وعدم الكلام.
فهي ليست حرة في الكلام، فتم الحكم عليها بأنها قاتلة، ولا مهرب لها إلا بالصمت وعدم الكلام
____
ذهبت سامية إلى المحامى المسئول عن ابنتها
وهي في داخل المكتب جالسه على مقعدها امام محسن المحامي.
بصوت حزين كئيب تحدثت سامية قائلة:
_ مفيش أمل يا أستاذ
قال محسن:
_ للاسف يا مدام سامية، كل الأدلة ضدها.
بنبرة امب قالت سامية:
_ لكن بنتي متكلمتش وفقدت النطق من وقت الحادثة.
_ ايوه هي معترفتش لحد دلوقتي بتفاصيل الحادثة، لكن بصمتها موجودة في كل مكان وعلى سلاح الجريمة.
_ يعني بنتي خلاص كده ضاعت مني.
_ اكيد في امل يا مدام سامية، كاميرا مراقبة العمارة، اثبتت ان بنتك كانت مش في وعيها وفي حالة مخدرة
قالت سامية بحزن:
_ انا عارفة تقى كويس وكل الكلام اللي بيتقال عليها كذب ومش حقيقي ومتأكدة انه كان خاطفها، والكلام اللي بيتقال عليها انها كانت بتتعاطى حاجة، ده مش صح وكله غلط وانفجرت في البكاء، كله غلط سامعني ياستاذ محسن، سهى بنتي مربياها صح، وزي ماقولت ل حضرتك هي في اليوم ده كانت رايحة لصحبتها.
قال محسن بلهجة مهدىة:
_ المهم دلوقتي هي تتكلم وتحكي ايه اللي حصل بالظبط عشان الحكم يبقا مخفف عليها
نظرت لها سامية بعيون مصدمة:
_ حكم مخفف هااا حكم مخفف
رد محسن بنبرة هادئة:
_ انا عارف اني اول مرة اقولك الكلام ده، في حالة بنتك حكم البراءة ده مش وارد خالص ، اللي في ايدي حاليا اجيب ليها حكم مخفف، غير كده في مستحيل في وضعها ده.
تمتمت بصوت هستيري:
_ كده مستقبلها ضاع خلاص واخذت دموعها في الانهمار على وجنتيها واخذت تقول أه ياتقى، اه يابنت بطني، أه يا قلبي، بنتي ضاعت مني.
نظر لها محسن بشفقة قائلا:
_ إهدي يامادام سامية، بلاش تعملي في نفسك، اللي بتعمليه مش هينفع بنتك في حاجة
نظرت له بعيون حمراء غائمة بالدموع ،وقالت بصوت مضطرب:
_اومال ايه اللي هينفعها، قولي ايه اللي هينفعها
_ ينفعها لما تطلع من سجنها، إنها تلاقي حد جمبها مش تلاقي نفسها وحيدة
تمتمت بكاء:
_ الكلام سهل ، بس صعب التنفيذ صعب
_ حاولي يامادام تتماسكي شوية
_ ححاول.
قال محسن:
_ حاولي لما تروحي زيارة ل تقى المستشفى أنك تتكلمي معاها وتحاولي تخليها تتكلم، وتخرج من الوقعقعة اللي دخلت نفسها فيها
تمتمت سامية قائلة:
_ حاضر ياستاذ ثم نهضت من مكانها،
ثم قالت هضطر همشى، ولو في اي تطورات تقى بلغني علطول ، ارجوك
رد قائلا:
_ طبعا يامادام هبلغك
ثم خرجت من المكتب لا تكاد ترى امامها، خرجت من المبنى واخذت تتجول في الشوارع على غير هدى، تأخر رجعوها على المنزل، فشقتها اصبحت ليست بشقتها بمجرد عدم وجود تقى فيها، ابنتها هي السبب في رغبتها في الاستمرار في الحياة، من أجلها تحملت الكثير والكثير، تحملت الإهانة والضرب وكل شىء وفي النهاية فقدتها، أخذت تمشي في الشارع بغير هدى وتدعو في صمت ان تستطيع الصبر، من أجل بنتها، ابنتها هي الحياة لها بدونها سوف تموت من أجلها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي