الفصل الثانيتتوالى المفاجآت

-مرحبًا بك سيدي المحقق.
اجفل "عمر" لحظة ظهورها أمامه فجأة ولكنه سرعان مااطمئن بعدما تبين حُسنها وجمال ملامحها وهدوء صوتها حين سمعه لأول مرة بالرغم من ظهورها مباغتة في وسط العتمة وكآبة المكان، بينما لاحظت هي ارتباكه فزادت من ابتسامتها لتهدئته وهي تقول له:
-أنا عاطفة مسؤولة التمريض بالعنبر (أ).
نظر إليها عمر باعجاب وتملكته الدهشة والزهول فسألها باستغراب:
-أنتِ من؟
ابتسمت عاطفة على استحياء من سؤال عمر وفهمت ما يرمي إليه فأجابت بصوت منخفض أقرب إلى الهمس وقد توردت وجنتيها خجلا:
-عاطفة سيدي اسمي عاطفة.
زادت ابتسامة عمر وتفحصها بنظرة إعجاب وبدل ملامح الارتباك بالارتياح، واكتفى بتعريف نفسه قائلًا:
-عمر النجار.
أجابته عاطفة قائلة بود وهي محافظة على ابتسامتها:
-تشرفت بلقائك، سأكون المُكلفة بمرافقتك طوال فترة التحقيق وتوفير كل ما تحتاج.
ظل "عمر" صامتًا فتابعت:
-في البداية سوف تقابل مدير المشفى.
سألها عمر باهتمام مستفهما:
-حسنًا، ومتى يكون ذلك؟
أجابته عاطفة بابتسامة مؤكدة:
-الآن، إنه ينتظرك.
وبعد أن أنهت جملتها أشارت إلى باب مكتب كُتب عليه بطلاء ذهبي عبارة تقول بأنه مكتب المدير.
تابع عمر وعاطفة سيرهما حتى وصلا أمام المكتب، ثم طرقت عاطفة الباب ثلاث طرقات ومن بعدها فتحت الباب دون أن يأتي رد من الداخل وأومأت برأسها إلى عمر بأن يدخل ثم أغلقت من خلفه الباب وانتظرت خارجه على ما يبدو حسب الأوامر التي وجهت إليه بأن تصطحب عمر إلى المكتب وتنظره بالخارج حتى ينتهي من لقاءه.
دخل عمر غرفة المكتب مترددا واستغرب حين رأى انسحاب عاطفة من الدخول لكن لفت نظره محتويات الغرفة وجعلت تفكيره يتشتت عما كان يدور في داخل رأسه فأخذ يتجول في المكان بناظريه وبلمحة سريعة وكان أول ما لاحظه أن المكان ليس بالضيق وكان في المنتصف مكتب خشبي يحمل لوح زجاجي ضخم وكرسي جلدي وثير يجلس عليه رجل في بداية الخمسين على ما يبدو ممتليء الجسد لكنه ليس بالسمين بدأ الشيب في وضع لمسات على شعره وترك لون فضي جذابولكن لمحة الجمال هذه لم تطمس لمحات الصرامة في وجهه،بينما وضعت في منتصف المكتب لافتة مكتوب عليها "الدكتور فتحي يوسف" -اسمه- مدير المشفى.
ظل عمر يتفحص المكان بناظريه لكن لم يعيره المدير اهتمام إلا بإشارة من يده ليجلس، فجلس أمامه على مقعد جلدي آخر أصغر بالحجم ونظر إلى المدير باهتمام لا يعلم بماذا يبدأ الحديث وكان هذا التوتر واضح تماما على وجه عمر.
خاطبه المدير بسخرية مفتتحا للحديث:
-ألم يجدوا أصغر منك ليتولى التحقيق؟
فأجابه عمر بنفس الأسلوب عندما شعر بالإهانة في كلمات المدير قائلًا:
-ألم يرسلوا إليك قائمة حتى تختار؟
تنحنح المدير في خجل بعدما شعر برد الصفعة من عمر وقال محاولا تجاهل ما سمع:
-دعنا من هذا الهراء أريد معرفة ما يحدث بداخل مشفايّ.
أخرج عمر دفترًا وقلمًا فصمت مدير المشفى قليلًا واستغرب من أفعال عمر وتساءل بداخله "هل هناك من يستخدم الورقة والقلم إلى الآن" لكنه سرعان ما تخطى حالة الاستغراب ثم تابع سرد حديثه:
-كما تعلم أن المشفى مختص في علاج مرض جلدي رغم خطورة هذا المرض إلا أنه لا يؤدي إلى الموت المفاجيء مثلما يحدث في الآونة الأخيرة.
شهق قاطعه "عمر" متفاجئًا:
-لم أكن أعلم أن المشفى مخصص لعلاج الأمراض الجلدية.
عارضه المدير وصحح حديث عمر بنبرة تذمر وضيق قائلا:
-ليست أمراض بل مرض واحد فقط.
ثم زفر وهز رأسه بنفاذ صبر وأخذ يتابع:
-نحن مختصون في علاج مرض الجذام.
أشاح بيده بعيدا وهو يكمل ناظرا في عيني عمر مباشرة:
-ربما لم تسمع به أنت من قبل.
ثم حول نظرته إلى عمر بنظرة تشكك فلم يجد منه رد فاسترسل موضحًا:
-إنه مرض جلدي يظهر في البداية على شكل طفح جلدي يتطور إلى تقرحات جلدية وتقيحات وتتفاقم مع الوقت فتسبب تلف في الأعصاب الطرفية والأنسجة الدقيقة مثل العين.
أنهى المدير جملته وهو يشير إلى عينه ليشرح ما قاله لكن عمر قاطعه قائلا:
-هل وارد حدوث وفاة لمريض الجذام؟
سأل عمر دون أن ينظر لمحدثه فأجاب الطبيب بعدما سحب سيجارة من العلبة الموضوعة أمامه على منضدة المكتب وأشعلها ثم أكمل حديثه قائلا بشيء من اللا مبالاة.
-تعددت الأسباب والموت واحد.
لكنه انتفض بعدها بحديثه وأكمل بنبرة ثقة وكأنه يحاول أن يثبت شيء ما أو ينفي شيء آخر
-لكني أؤكد لك أن الجذام لا يسبب الموت المفاجيء، مثل ما قلت لك سابقًا هو يسبب تلف جسدي ولا أخفي عليك هذا التلف غير قابل للإصلاح للمدى البعيد.
كان عمر يدون كل كلمة يسمعها ويضع خطوط عريضة تحت مايراه مهم، كان في تلك اللحظة يشبه طالب الثانوية العامة وهو يدون من خلف المعلم نقاط المنهج الهامة وليس بمحقق شرطة يبحث عن أدلة تفيد في تحقيق لجرائم قتل.
سأله عمر حتى يتفهم الموضوع بصورة أوضح:
-في أسوأ الحالات ماذا قد يحدث؟
أجابه مدير المشفى باقتضاب:
-قد نضطر إلى بتر الأطراف التالفة.
لم تكن الإجابة كافية شافية إلى عمر فعاود بسؤال آخر:
-ومن ثم؟
قالها عمر فاغرًا فاهه ورفع نظره إلى فتحي -مدير المشفى- منتظرًا الإجابة، فأجابه الآخر بمهنية ووضوح قائلًا:
-في الحقيقة أن العلاج الشائع يكون استخدام المضادات الحيوية لعلاج العدوى ويمكن استخدامها لأكثر من ستة أشهر.
ثم حك ذقنه وهو يتابع:
-أما في الحالات المتأخرة كل ما يمكننا فعله هو استخدام العقاقير المضادة للالتهاب والمسكنات القوية للسيطرة على الألم.
-إذًا فهو وارد أن يتوفى المريض ذو الحالة الحرجة.
باغته "عمر" بجملته المفاجأة لينتفض المدير على إثر سماعها ويرد عليه بعصبية قائلًا:
-حتى وإن حدث ذلك فهذا يكون لحالة أو اثنتين على الأكثر لا لعشرة ولن يكون الأمر بشكل مفاجيء كما يحدث يبات المريض بوضع صحي مستقر لنستفيق في الصباح نجده جثة هامدة دون سابق إنذار.
صُعق "عمر" حينما سمع الرقم لكن المدير زاد من صدمته حين أكمل قائلًا:
-والأدهى من ذلك أن كل من توفوا بلا استثناء لم تكن حالاتهم خطرة ولا هي بالحرجة.
ساد الصمت قليلًا، كان كل منهما حائرًا فيما يدور بداخل رأسه، ليقطع عمر حالة الصمت ويحسم الموقف قائلًا:
-دعنا لا نستبق الأحداث ولننتظر تقرير الصفة التشريحية سيصلني غدًا.
هز فتحي رأسه في تفهم ثم أخبره بأنه تم تجهيز غرفة خاصة له حتى يقيم بها إلى أن تنتهي التحقيقات وأخذا يتبادلا جمل الحديث.
قال مدير المشفى موضحا إلى عمر سبب تجهيز الغرفة:
-كما تعلم أن المشفى على أطراف المدينة والطرق غير ممهدة للسيارت ولذلك فإن تستطيع الذهاب والعودة يوميًا طوال فترة التحقيق.
رد عليه عمر بتفهم:
-لاحظت ذلك.
ثم سأله مستفهما:
-كم تبعد عن مدينة الإسكندرية؟
أجابه فتحي وقد بدأت تتولد بينهم لغة حديث ونبرة تفاهم:
-مايقرب من الثلاثة وعشرون كيلومتر، نحن نقع على أطراف منطقة أبو قير.
صمت عمر وأخذ يفكر في بُعد المسافة، فأردف المدير قائلًا:
-كما أنني علمت أنك من محافظة القاهرة ولست سكندري.
-نعم هذا صحيح، ولكن.
لم يستطع عمر إكمال جملته حيث قاطعه فتحي قائلًا:
-انسى الأمر، هذا ما أخبرني به رئيسك وطلب تجهيز غرفة لك وأخرى لمساعديك،كم فرد معك؟
شعر عمر بالصدمة بسبب سؤال مدير المشفى فالسؤال لم يكن متوقع له وسأل في قرارة نفسه "هل كان يجب أن أصطحب أحد آخر معي؟" لكنه نفض الفكرة عن رأسه وابتلع ريقه ليجيب بسرعة ملحوظة:
-لقد آتيت بمفردي.
زادت صدمة المدير وظهرت الدهشة مرسومة على وجهه حتى أنه رفع حاجبيه وهو يسأل بزهول:
-بمفردك!
نطقها المدير مستعجبًا وأخذ ينظر إلى عمر حتى يرى مايكذب سمعه لكن عمر أكد شكه حين برر موقفه قائلا:
-لم أعرف أنه سيرافقني أحد ، لقد بُلغت بالمهمة فقط.
تعجب المدير مرة أخرى فهو لم يكن يصدق ما يرى أو ما يسمع وسأل في قرارة نفسه باستهزاء غاضبًا:
-أهذا ضابط شرطة؟
ثم رفع صوته معلنا عما يدور في باطنه ومصرحا بتعجبه:
-لم أكن أصدق أنك محقق شرطة لولا أنني تحققت من بطاقة هويتك.
تنهد فتحي بيأس بعد جملته الأخيرة وسحب نفس حتى يتمالك أعصابه ثم تابع:
-ستأخذك الآنسة عاطفة إلى غرفتك.
تغيرت نبرة صوته إلى نبرة أشد حزم وصرامة وهو يتابع:
-أتمنى أن تنتهي التحقيقات في أقرب وقت وتحل هذا اللغز.
فأجابه عمر مجاهدا تصنع الحدة وهو يقول:
-وأنا أيضًا أتمنى ذلك.
وأدار وجهه إلى المدير قائلًا:
-هل لي بمصباح علاء الدين؟
تمتم عمر بذلك لنفسه وخرج من مكتب مدير المشفى وهو يفكر في عدد الوفيات وأخذ يردد حديث المدير وما سمعه بداخل رأسه.
سار متجهًا للغرفة المخصصة له ترافقه عاطفة كما طلب منها مدير المشفى، حينها حاول عمر تبديد الصمت وتجاذب أطراف الحديث قائلا:
-الجو بارد هنا.
أجابته عاطفة بصوت منخفض دون النظر في عينه:
-نعم سيدي، فالمشفى يطل مباشرة على ساحل البحر.
رد عليها عمر مبتسما فالكلام معها بات محببا إلى قلبه:
-يبدو وكأن الكل اعتاد العيش بداخل المشفى.
بادلته عاطفة الابتسامة باستحياء وهي تقول:
-نوعًا ما، فالعمل هنا أشبه بتأدية الخدمة العسكرية، الإجازات على فترات طويلة متباعدة ومدتها قصيرة.
سأل عمر باستغراب:
-لماذا؟
توقفت عاطفة عن السير حتى تشرح لعمر طبيعة الوضع واقتربت خطوة منه وهي تقول:
-التزامًا بالإجراءات الاحترازية لعدم نقل العدوى.
-العمل هنا خطر صحيح؟
-هذا مؤكد إن لم تتخذ حذرك.
-اعذريني فلست على دراية بالطب.
أومأت "عاطفة" برأسها متفهمة ثم توقفت وفتحت غرفة وأشارت إلى "عمر" بأن هذه هي الغرفة المرادة..
دخلت وأضاءت مصباح الغرفة الكهربي ومن ثم تبعها "عمر"، تفقد المكان بنظرة خاطفة، كان بسيطًا ويبدو أنه جُهز على عجالة…
سرير صغير يتسع لفردًا، وُضعت عليه بطانية صوفية وملاءة بيضاء لم تُفرش، وفي الزاوية دولاب خشبي فارغ إلا من الأرفف، أمامه مرايا معلقة على الحائط المقابل بجانب شباك الشُرفة الذي يطل على حديقة المشفى فتمنى "عمر" في قرارة نفسه لو أن الشرفة كانت تطل على البحر ولكن مهلًا! لقد أتى في مهمة رسمية لا لقضاء إجازة.
-لقد تخطت الساعة الثانية عشر، عليك أن ترتاح من عناء الرحلة وتباشر عملك في الصباح.
رسمت ابتسامة على وجهها وهي تتابع:
-أخبرتهم بأن يأتوا إليك بمشروب ساخن.
-شكرًا لك.
-لأ عليك..طابت ليلتك سيدي المحقق.
كم هي جميلة، رقيقة ومهذبة.
هكذاحدث عمر نفسه قبل أن يذهب إلى نومه
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي