الفصل الثالثخيال

لم يكن عمر يفكر إلا بها حين أحس بثقل في رأسه لم يعيره انتباه كبير اقتناعًا منه أن هذا الثقل قد يكون بسبب الإرهاق وقلة ساعات نومه بالإضافة إلى السفر ويومها الشاق لكن في هذه اللحظة لفت نظره ظل لمحه يمر من أمام الباب وكان هناك شخص ما مر بالخارج. خرج عمر من غرفته كي يرى من يكون علّها تكون عاطفة التي أنسته مهمته وسبب تواجده في هذا المشفى لكنه حين خرج لم يجد أحد.
كان الممر خالي تمامًا إلا من أزيز لّمْبات الإضاءة لم يكن هناك أي أثر لأي أحد فعاد إلى غرفته وأوصد الباب من الداخل ثم راح يجهز السرير للنوم.
أمسك ملاءة السرير وهم بفرشها لكنه توقف حين سمع صوت خطوات بطيئة ومع اقتراب الخطوات من باب غرفته جعلته ينتصب متأهبًا وربما انتصب شعر رأسه فزعًا لكنه تغلب على خوفه وأمسك أعصابه واقترب من الباب يسأل من بالخارج.
توقفت الخطوات وكأن صاحبها علم بوقوفه خلف الباب ولربما رآه وحين أيقن عمر بتوقف صاحب الخطوات فتح عمر الباب مباغتة ليوقع بمن في الخارج مثلما يحدث في الأفلام إلا أنه لم يجد أحد وكانت الطرقة بامتدادها خالية تماما أمامه، في تلك اللحظة تملكته الريبة فقرر أن يذهب إلى آخر الممر ليرى إن كان هناك أحد يداعبه ولكن هل يمكن أن يلعب أحدهم مع ضابط شرطة لعبة الاختباء؟
كان عمر يسير بخطوات بطيئة متشككة ومتخوفة حتى أنك كنت ستسمع صوت تخبط ساقيه ببعضهما إن كنت قريب منه.
أثناء سيره البطيء شاهد خيال شخص يقطع الطرقة الفرعية بسرعة جعلته بالكاد لمحه وفجأة انقطعت الأنوار في المكان بأكمله ومع انقطاع الكهرباء كاد عمر أن ينقطع نفسه ويتوقف قلبه عن العمل وبسرعة هم بإخراج هاتفه ليستمد منه شيئًا من الضوء ومد يده بداخل سترته لإخراج الهاتف وحينما لم يجده تذكر أنه تركه في الغرفة.
-يا إلهي ما هذا!
تحدث عمر بصوت عالي حينما شعر بشيء جعل الفزع يتملك جسده وعقله.
إنها أنفاس حارة تلفحه من الخلف، كانت ساخنة للدرجة التي تشعرك بالصهد ونتنة كرائحة البالوعات.
جرت الرعشة في أوصال عمر، يكاد قلبه يتوقف من الذعر لكن رحمة الله أنقذته والعناية الإلهية رحمته من الموت ذعرًا وعادت الأنوار مرة أخرى بشكل مفاجيء لكنه وجد نفسه بمفرده، وبعد النظر يمينًا ويسارًا بهلع وفزع تأكد أنه لا يوجد أحد وأنه بمفرده في هذه الطرقة المتوحشة طمأن نفسه بأنها تهيؤات سببها له الإرهاق وكانت الفكرة محببة إلى قلبه ومقنعة لعقله فعاد إلى غرفته وأوصد الباب وأكد على غلق الشرفة وكأنه يؤمن نفسه من إغارة لص لكنه ترك الإضاءة دون أن يخفتها ودون أن يقرر الاعتراف بداخله أنه مرتعب للحد الذي قد يجعله يتبول في بنطاله ثم صعد إلى سريره متخذًا وضع الجنين وملتفًا بالبطانية يستحلفها بأن تعطيه الدفء وغطى وجهه ودفنه تحتها هربا من رؤية ما يدور في تفكيره وبالفعل سرعان ما نسى وهرب وغرق في النوم.
في الحقيقة لم يمر كثير من الوقت ولم يمهله القدر كثيرا حتى يغرق في نومه حتى شعر بمن يوكزه ثم صفعه على وجهه حتى يستفيق، حاول عمر بعدها أن يفيق وأن يصرخ لكنه لم يستطع وانحبس صوته داخل حنجرته فلم يخرج، وكأن هناك شيء يكبله ويقيد ذراعيه بجانبه فلم يعد يستطيع تحريك جسده، يشعر وكأنه يختنق وسوف يبتلع لسانه، يريد أن يستغيث ويريد أن ينهض ومن ثم يركض، ولكن كلها محاولات فاشلة في ذهنه فقط لا يستطيع تحقيقها ولا يوجد لديه القدرة على تنفيذها ولا يعلم مالذي يحدث له.
ظهر في ركن الغرفة شخص مطمس الملامح، لا وجه ولا أطراف، فقط ظل أسود يرتدي عباءة تنسدل من خلف ظهره، طويل القامة بطريقة صعب أن يتخيلها العقل يظهر له قرنان صغيران على رأس لا يستطيع تبينها، وكردة فعل طبيعية لشخص استيقظ من نومه مفزوع أغمض عينيه ثم فتحها وقام بفركها ظنا منه أنه يتوهم ما يراه لكنه وجد نفس المنظر يحتل الخلفية في زاوية غرفته فسأل في خاطره هل يكون شبح؟
كان يصرخ بداخله مرعوبًا لكن صوته لم يخرج، سكنت محاولات عقله الباطن من هول الصدمة وشدة الفزع حين حدثه الظل بصوت مخيف ومدوي قائلًا:
-تخيل لو أن هناك غراب أسحم قام بفقه عيناك وطار بعيدًا، أو أن ابن عرس التهم أحشاءك وأنت تراقبه وتصرخ ولكن لا سبيل للنجاة..هل سألت نفسك يومًا من يراقبك في الظلام أثناء نومك، أو من ينظر إليك في الجهة المقابلة للمرآة؟. ماذا إن كان هناك من يتتبع خطواتك ينتظر خلوتك ليقتلع قلبك ويتلبس بجسدك؟
ألقى الظل كلماته المرعبة ثم اختفى فجأة كأنه تبخر في الهواء أو ابتلعته الحوائط، وبعدها سرعان ما استفاق عمر من جاثومه وانتفض من نومه مفزوعًا يبحث في أرجاء الغرفة بنظره عن الشبح لكنه لم يرى شيء فظن أنه كان يحلم ويمر بكابوس. كانت الغرفة بأكملها مضيئة ولا يوجد فيها شيء مريب سوى صوت ضربات قلب عمر اللاهثة والذي يكاد أن ينخلع من صدره، وقطرات العرق المتصببة على وجنته، بحث بجانبه عن زجاجة مياه يطفيء بها نيران الزعر في جوفه فلم يجد ولذلك قرر أن يذهب ليأتي بالمياه من خارج غرفته، نهض بتثاقل بالكاد استطاع أن يفيق من أثر الكابوس وراح يجوب في طرقات المشفى يبحث عن مطبخها ليأتي منه بالمياه. أخذته قدماه حيث لا يدري،نظر حوله فوجد أنها طرقة طويلة تحوي أبواب متقابلة على ما يبدو أنها غرف إقامة المرضى، علم ذلك وتأكد حين رأى الأسرة بعضها خالي والبعض الآخر يحمل أفراد متصلين بأنبيب وخراطيم توصل لاوردتهم محاليل طبية، قد تظنهم أموات حين تراهم إلى أن ينبهك صوت أنينهم الخافت الذي يجبرك على النظر إلى القرح المنتشرة في أطرافهم، قبل دخوله لمح عبارة مكتوبة في بداية الممر -عنبر أ- وتذكر ماقاله مدير المشفى عن سر هذا العنبر وأنه العنبر الوحيد الذي حدثت به الوفيات وكأنها لعنة حلت على هذا القسم.
-هل لي بمساعدتك؟!
سمع هذا السؤال مباغتة من وراء ظهره فالتفت خلفه بفزع ليرى محدثه وجدها امرأة ثلاثينية شقراء ذات شعر بلاتيني تضع مساحيق تجميل مبهرجة كما لو أنها في ملهى ليلي وليس مشفى، ترتدي فستان وردي اللون يصل إلى تحت الركبة بقليل وفوقه الرداء الأبيض الطبي، وحذاء ذو كعب عالي جعله يتساءل كيف لها أن تستطيع المشي وهي منتعلاه، التقطت عيناه الشارة المعلقة على صدرها -مدام رشا- إذًا فهي من طاقم عمل المشفى ولكن كيف يكون هذا بمظهرها ذاك الذي قد يكون أقرب إلى ساقطة أو بائعة هوى لكنه تغاضى عن تفكيره ونظرته السطحية لها وأجابها قائلًا:
-أنا المحقق..
لكنها لم تمهله الوقت حتى يكمل إجابته فقاطعته في سرعة قائلة:
-أعلم من تكون.
ثم أكملت بلهجة متعالية وبجملة قصيرة:
-بما أساعدك؟
أجابها عمر بتشتت قائلا:
-شعرت بالعطش فآتيت بحثًا عن مياه.. من أنتِ؟
ردت عليه بنبرة صوت حادة وبلغة رسمية تتنافى تماما مع مظهرها:
-رشا محمود رئيسة التمريض بالمشفى ومساعدة المدير.
تنحنح عمر ووضع يده في جيبه ثم قال بنبرة رسمية هو الآخر:
-بما أنني وصلت إلى هنا، أريد أن أعطيك بعض الأسئلة.
رفعت رشا حاجبيها وقالت معترضة:
-الساعة تخطت الثانية صباحًا!
غمز لها عمر وهو يرد عليها بخبث قائلا:
-أرى أنك لم تنهي عملك وإلا مالذي آتى بك إلى هنا في هذا الوقت؟
لاحظ ارتباكها وتلعثمها وهي تجيب فتساءل بداخله مالذي تخفيه هذه السيدة ولماذا ارتبكت هكذا حينما سألتها عن سبب تواجدها في هذا الوقت المتأخر لكنه انتبه إليه وركز مع حركات جسدها وبالتحديد التوتر الذي ظهر على يديها وإصابتها.
ازدردت ريقها وأجابته ببطء:
-أتفقد العنابر والمرضى قبل نهاية دوامي.
-اجابتها قد تبدو منطقية ومقنعة ولكنها ليست بالنسبة لي، سأستجوبها بطريقة مباشرة. هكذا حدثه عقله بهذا فرفع صوته بما في داخله قائلًا:
-برأيك ماهو السبب في كثرة حالات الوفاة في هذا العنبر خصوصًا وبصورة مفاجئة وغير مفسرة؟
التفتت يمينها ويسارها كأنها تبحث عن الإجابة على الجدارن أو عن شخص يلقنها الإجابة ثم لجأت إلى أسلوب التهرب والمراوغة وهي تجيب قائلة:
-لأ أحسبك جئت إلى هنا لأجيبك أنا!
وضع عمر يده أسفل رأسه من الخلف وتمتم قائلا محدثا نفسه "ما هذا الرد أوليس شأن المحقق أن يسأل ويتلقى الأجوبة؟" ثم استجمع كلماته وداهمها بصيغة أخرى للسؤال ليزيد من ارتباكها حتى يجبرها على إجابة صادقة وواضحة فقال:
-أعني أنه يمكن أن يكون بسبب خطأ طبي مثلًا.
ثم نظر إليها ليرى وقع كلماته عليها وهز رأسه حينما سمع إجابتها وهي تخبره قائلة:
-لأ يمكن أن يحدث هذا، كما أن الوفيات لم تحدث في نفس الوقت.
فعاد بجملة أخرى أكثر دهاء ونبرة صوت عميقة تفقدها اتزانها فهو كان لديه شك كبير بها أو على الأقل كان لديه إحساس بأنها تخفي شيء كبير:
-لقد أبلغني مديركم أنهم عشر حالات بالرغم من أننا تسلمنا بلاغات من ذوي أربعة حالات فقط تتهم المشفى بالقصور في علاج ذويهم.
أخذ نفس عميق ليبدو أكثر جدية وصرامة ثم تابع بنبرة استفهامية تحمل لمحة شك:
-ما تفسيرك لهذا؟
ربما يكون الآخرين قد رضوا بقضاء الله.
ضحك عمر ونظر إليها بطرف عيناه من أسفل قدميها إلى رأسها ثم هز عمر رأسه في وجل وكأنه اقتنع بما سمع قائلًا:
-ونعم بالله ولكن هذا لا يعني أن الأمر طبيعيًا إطلاقًا، ألا توافقيني الرأي؟
-هذا دورك أن تكتشف الأمر وليس نحن، وإن كان عليّ فأنا لا أعلم شيء.
أجابته رشا بغضب ثم ولّت ظهرها إليه وغادرت.
-تبًا لهذه المهنة ولهذه المهمة، الجميع هنا لا يأخذنني على محمل الجد.
غمغم عمر بغضب وهو عائد إلى غرفته فهو لم يستطع استخلاص أي معلومة مفيدة من رئيسة التمريض مثلها مثل حارس البوابة كلاهما تحدثا بكلام فارغ دون أن يحتوي على إفادة. دخل غرفته وأخذ يدور في أرجائها يزرعها ذهاب وإياب ويدور حول المنضدة ثم يشعر بالدوار فيجلس قليلا على طرف سريره ثم يقوم ويعاود الكرة ويزرع الغرفة مرة أخرى ويدور في أرجائها كان منهمك التفكير في معطيات القضية والتي كانت قد تكون منعدمة أو شبه غير موجودة فكيف له أن يبحث فيها والكل لا يعرف شيء عما يحدث وكيف يفكر وفي وسيلة لحل لغزها وكل من عايش الأحداث لا يوجد لديه أي معلومة تفيد بشيء، وأكثر الأمور المسيطرة على تفكيره كانت فكرة أنه لا بد من إثبات نفسه حتى وإن لم يحب الأمر فهو واقع، هو ضابط الشرطة الذي لا يمكن أن تضيع من يده قضية ولا يجوز أن ينهزم أمام جريمة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي